تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الجمعة 17 مايو 2024

رأي

باستيف على رأس الدولة في السنغال: الشباب بين تحوّل الأدوار  وتنوّع أشكال المشاركة

23 أبريل, 2024
الصورة
ثمان سونكو وباسيرو ديوماي فاي
عثمان سونكو وباسيرو ديوماي فاي (تصوير: CEM OZDEL عبر الأناضول).
Share

مقدمة

"التسرع في كتابة تاريخ ما نشهده قد يبعد الذات الكاتبة عما لا يمكن فهمه إلاّ بمعاينة الحدث"

بوكيت تركمان( Buket Türkmen) 

بعد الثالث من يوليو الماضي 2023، استوقفني بعض من الزملاء والأصدقاء  المهتمين بالشؤون الإفريقية،  طالبين رأيي في تنازل الرئيس ماكي صال (Macky Sall) عن حقه (من وجهة نظره) في ولاية ثالثة على رأس الدولة. لم أكن أتجاهل أهمية قرار الرئيس صال وقتها، غير أنني، كنت على يقين على أنّ ما نشهده آنذاك، ليس إلاّ جزء بسيطا من تجربتنا السياسية عموما، وبشكل خاص في عهد الرئيس صال. 

إنّ اختلاف وجهة نظري حول ديمقراطية الدولة في السنغال عن السردية الرسمية للمؤسسات والمنظمات، ينبني أساسا على أنّ مواقفهم تُبنى على الجزئيات ، وليس على البنية الوظيفية للديمقراطية كممارسة. فمثلا، يكتفي البعض في حكمهم على هذه التجربة بملاحظة التصويت كجزء رمزي من العملية الديمقراطية، وهم في ذلك يغضون أبصارهم عن مراحل أخرى أساسية تمر بها العملية الانتخابية كوحدة كلية وسيرورة. 

تلاعب الرئيس ماكي صال في ولايته الأولى (2012-2019) بمؤسسات الدولة وبالسلطة القضائية، لإقصاء خصومه البارزين في المعارضة، متجاهلا تطلعات المواطنين والشباب منهم، ممن كان لهم دور مركزي في وصوله إلى الحكم. وعلى ذلك، قام بتنشّيط الجهاز القضائي لمتابعة نجل الرئيس السابق كريم واد Karime Wade) )، الذي كان يُشكل خصما محتملا له في تلك الفترة. وقد انتهى الأمر بإدانة كريم، ونزع حقوقه السياسية والمدنية،  ونفيه إلى الدوحة. تكرر ذات السيناريو مع خليفا أبابكر صال (Khalifa Ababacar Sall)، غريمه الاشتراكي ورئيس بلدية دكار العاصمة في تلك الفترة ، وأفضى لنفس النتيجة؛ حيث أدين خليفا، ونزعت حقوقه السياسية والمدنية، ليتم الإعفاء عنه بعد رئاسيات 2019، التي كان يُحتمل أن يكون فيها خليفا مرشحا بارزا. 

وفي الولاية الأخيرة (2019-2024 ( حاول الرئيس صال تكرار المحاولة لإقصاء عثمان سونكو (Ousmane Sonko)، الذي كان يُمثل وحزبه باستيف Pastef[1] قيادة المعارضة، حيث نجح في تطوير مواقف سياسية راديكالية ضد حكم الرئيس صال. وكعادته اللاديمقراطية، نجح الرئيس، مرة أخرى، في تنشيط أجهزة الدولة ضد قائد باستيف لإقصائه، لكنه فشل في تهدئة غضب الشارع، وإسكات فئات الشباب الذين تبنوا خطاب سونكو كتوجه سياسي لهم، وجعلوه ولادة لآمال جديدة في صفوفهم. ما أدى  إلى أن تشكيل الشباب في الفترة)  2021-2023  (قوة ثورية، حالت بين الرئيس صال وبين دفن آمالهم التي تتجسد في ما يطلق عليه في باستيف باسم "المشروع". وتولدت عن ذلك اضطرابات سياسية عنيفة، أودت بنفوس عشرات من الشباب، وتعذيب أعداد كبيرة منهم داخل المؤسسات السجنية. هنا وجب التنبيه إلى سياق نشأة حزب باستيف، بقيادة سونكو سنة 2014، حيث شهد مناطق مختلفة في العالم؛ من أوروبا إلى أمريكا، مرورا بالشرق الأوسط والعالم العربي ووصولا إلى غرب إفريقيا، في الفترة  ما بين 2009 وحتى 2015 تطوّر أشكال جديدة من النضال الشبابي[2].

 في سياق إفريقيا الغربية، وتحديدا في الحالة السنغالية، تتمثل هذه الأشكال في بروز حركات اجتماعية شبابية تناضل من أجل التغيير في تدبير الشأن العام، والتمرد على المنطق السلطوي لدولة ما بعد الاستعمار، وتطوير أساليب جديدة للنضال ضد الاستعمارية الجديدة عموما، وبشكل خاص الوجود الفرنسي في المنطة [3]

فماهي أشكال المشاركة السياسية لفئة الشباب في السنغال؟ وإلى أي حد انعكست أشكال هذه المشاركة على إعادة توزع الأوراق في الانتخابات الرئاسية الأخيرة؟ 

الشباب والسياسة في السنغال: تحوّلات الأدوار وأشكال المشاركة

"الشباب ليس إلا كلمة"[4]بيير بورديو

عموما، ليس من نقصدهم بفئة الشباب واضحا بقدر سيادة استخدامات المفهوم في الخطابات السياسية، التوعوية، والتنموية. وهكذا فكّرت إيما س ميرفي (Emma C. Murphy) في مقالها أَشْكَلَةُ الشباب العربي: سرديات الأجيال عن الفشل النسقي.  (Problematizing Arab Youth: Generational Narratives of Systemic Failure)، حيث تقول: "نعلم أنّهم هناك، ونعلم بأن لديهم ما يقولون، لكن ثمة التباس على من نقصد بهم"[5]. تتضح هنا صعوبة رسم حدود هذا الوجود الاجتماعي الذي فرض نفسه على المجتمعات الحديثة ككل، وهم في ذلك، يستخدمون أشكالا مختلفة للتعبير عن وجودهم، وإعطاء معنى لذاتهم. لذلك أصبحنا لا نختلف في وجودهم بقدر ما نختلف في المنظورات المحددة لرسم حدود هذا الوجود الاجتماعي. 

لتحديد ملامح وحدود الفئة الشبابية المقصودة هنا نتبنى أطروحات كل من ميرفي (النظر إلى هذه الفئة كظاهرة وحقيقة اجتماعية)[6]، وبيير بورديو (النظر إليها كوحدة اجتماعية)[7] و كارل مانهايم (التشابه في المواقع)[8]. وذلك استنادا على قناعة مفادها؛ أنّ مفهوم الشباب لا يمكن مقاربتها بشكل دقيق اعتمادا على مقاربة أحادية البعد. إضافة إلى ما تتيحه هذه الخيارات من إمكانات تفسيرية، فالنظر لهؤلاء كظاهرة، وكحقيقة اجتماعية هو الاعتراف بحضورهم السلوكي، وتمثيلهم لقوة ثورية وتغييرية تفرض نفسها. أما اعتبارهم وحدة اجتماعية، فيمكّننا من حصرهم داخل انتماء طبقي محدد، بينما يكون تشابه المواقع وحدةً تحليليةً لتجاربهم المشتركة. 

في الحالة السنغالية، تتمثل الفئة الشبابية في جماعة داخل المجتمع يجمعها الانتماء الطبقي الموَّحد؛ طبقة مهمشة ومستبعدة، تعاني من الإقصاء الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، فضلا عن مأزق الهوية في أوساطهم. وتتشابه أيضا في مواقعها التي تعكس تجربتهم المشتركة، فهم من أكثر الفئات الاجتماعية عرضة لمعاناة فشل دولة ما بعد الاستعمار، كما تجمعها مواجهة الإشكالات والتناقضات الهوياتية التي تطرحها مجتمعات ما بعد الحداثة.

يعتقد المتابعون للشأن السياسي بأنّ نسبة مشاركة الشباب في تراجع، وسندهم في ذلك، المشاركة التقليدية التي تتمثّل في الانتماء إلى الأحزاب السياسية، وفي نسب مشاركة هؤلاء في المواعد الانتخابية، وارتباطهم بالمؤسسات السياسية. لكن ما يحدث في التجربة السنغالية ينفي ذلك، فنشأة حركة Bul Faalé ، التي تعني "لا تبال" سنة 1998[9]، ثم حركة Y’en a marre التي تعني "سئمنا" سنة 2011[10]، حوّلت وجود الشباب في الفضاء السياسي بالسنغال ليتخذ أشكالا مختلفة من المشاركة السياسية. وتجسد أهم أشكال هذه المشاركة الجديدة في أنّ الحياة اليومية للأفراد ومنطق اشتغال "المؤسسات الديمقراطية" تبدو وكأنّهما فضاءان منفصلان، وأنّ الشباب اليوم يمثّلون القوة الثورية الوحيدة التي تقدر على إحداث صدى في هذا الفراغ باستخدام الوسائل الجديدة للتواصل بينهم وبين مجتمعهم. 

في سنة 1998، وبعد 38 عاما من وجود الاشتراكيين على رأس دولة ما بعد الاستعمار في السنغال، نشأ وعي سياسي في أوساط الشباب تجسد في حركة "لا تبال"، التي كانت تضم بعض حركات Hip Hope)) وفاعلين في مجال الفنّ، خاصة فنون الغيتو التي تطوّرت في ضواحي العاصمة السنغالية دكار[11]. نشأت هذه الحركة نتيجة وعي شبابي بضرورة تغيير نظام الحكم في السنغال. وطوّر الشباب هذا الوعي في الغيتو عن طريق ألبومات (Hip Hope) التي يعبّرون فيها عن فشل الدولة، وضرورة تموقع الشباب لفرض وجودهم في الفضاء السياسي. لم تكن رسالة الحركة تتضمن أيديولوجية سياسية معيّنة، لكنها محشونة بوعي سياسي مغاير عبّر عنه الشباب عن طريق شعارات وبرامج توعوية، أسفرت عن إسقاط حكم الاشتراكيين في رئاسيات عام 2000، وقيادة الليبرالي عبد الله واد ((Abdoulaye Wade إلى رأس الدولة.

بالرغم من مركزية دور الشباب في وصول الرئيس واد إلى الحكم، فإنّه لم ينجح في تصريف وعوده الانتخابية في الواقع اليومي للشباب. ففي بداية طرحه السياسي لم يكتسب واد قبول الشباب، لكن وضوح خطابه السياسي، ورادكاليته التغييرية ، التي كانت تكمن في شعار "تغيير"[12]) (sopi مكنته فيما بعد من إقناع الشباب. صادفت نهاية ولاية واد الأولى وبداية ولايته الثانية عام 2008، الأزمة الاقتصادية في أوروبا، ما انعكس على الوضع السيوسيواقتصادي في دول إفريقيا، خاصة تلك التي تسيطر الشركات الأجنبية على اقتصادها. 

خرجت من رحم هذه الأوضاع الاقتصادية، أسوأ ظواهر الهجرة غير الشرعية التي عرفتها المنطقة إلى أوروبا ما بين (2008-2010)، عن طريق البحر فأودت بنفوس آلاف من الشباب. ما ساهم في بلورة  وعي جديد في أوساط الشباب، وتمثّل هذا الوعي في رفض كونهم مستقبل البلد إلى كونهم فاعلين مركزيين في صياغة غاياتهم العاجلة، وأفق ديمقراطية تُبنى على الشفافية في تدبير الشأن العام، وإعادة الإعتبار إلى دورهم السياسي والاجتماعي. كما ظهرت في هذا السياق (عام 2011) حركة "سئمنا" Y’en a marre وحركة 23 يونيو  (movement 23 juin)[13] تضم فاعلين من السياسيين، والمجتمع المدني، وشباب  من جماعات Hip Hope))  تعبّر باسم الشباب عن رفضها الراديكالي للواقع السياسي والوضع الديمقراطي والحريات الفردية. وكان من ثمارها إنهاء حكم الرئيس عبد الله واد بعد ولايتين رئاسيتين دامت 12 عام على رأس الدولة.

الشباب وخطاب باستيف: أي علاقة؟

"أذّكر الشباب بما يربطنا بهم، لأنّ الكل يعرف أنّ هناك رابط خاص بيننا وبين الشباب. ما يربطنا بالشباب نموذج مثالي لعدالة اجتماعية، حيث الموارد والثروات تُوزّع بشكل عادل بناء على المساواة في الحظوظ." عثمان سونكو2022

أثار حدث انتخاب الرئيس بَشِيرُ جُومَايْ جَخَارْ فَيْ (Bassirou Diomaye Diakhar Faye)  رئيسا للسنغال، يوم الأحد 24 مارس 2024، اهتمام العالم بأسره، وإفريقيا بوجه خاص. فعلا، الحدث مهم على مستويات عدة. فعلى المستوى السياسي، يعتبر بشير جوماي أول رئيس أُنتخب من المعارضة في الجولة الأولى، ولن نجانب الحقيقية حين نصف الرئيس جوماي رئيسا للشباب بناء على الفئة العمرية التي ينتمي إليها (44 سنة) ،  وعلى الدور الفعّال الذي أدّته الفئة الشبابية في وصوله إلى الحكم. ليست مشاركة الشباب أمرا جديدا في تاريخنا السياسي، وخاصة إذا تعلّق الأمر بدورهم مركزي في "القطيعات الديمقراطية" عام 2000، و2012 ثم 2024 بوصول حزب باستيف إلى الحكم.

على صعيد آخر، شهدت قيم الديمقراطية مثل: حرية التعبير وحرية الإنتماء الحزبي والتعبير عنه، تراجعا ملموسا في عهد الرئيس صال، فما بين عامي( 2021- 2024)، حاول قمع القوة الثورية للشباب الذين اقتنعوا بخطاب باستيف، وزج بأكثر من ألف عضو منهم في السجون، من بينهم القائد سونكو وبشير جوماي الرئيس الحالي للبلاد، والأمين العام السابق للحزب.

بدأ خطاب سونكو يتشكل بقوة، منذ طرده من الإدارة العامة عام (2016).  وتزامن ذلك مع بروز ظاهرة سياسية جديدة في غرب إفريقيا، تتمثّل في تجمعات شبابية تناضل ضد الوجود الفرنسي في المنطقة بقياة حركة "طوارئ بانفرقانية"، التي يرؤسها الفرانكو بنيني كيمي سيبا. قام كيمي بجولات توعوية في غرب إفريقيا في الفترة ما بين (2013-2017) ، يدعو فيها الشباب إلى الوقوف للنضال ضد الاستعمارية الجديدة، التي تجسدت في سيطرة الشركات الفرنسية على النشاط الاقتصادي في غرب إفريقيا، وفي تعاون فرنسا مع رؤساء هذه الدول لمراعاة مصالحها في المنطقة. ما حوّل خطاب سيبا وجماعته إلى عنصر تهديد لمؤسسات دول ما بعد الاستعمار والوجود الفرنسي في غرب إفريقيا.

أعتقد أنّ فهم خطاب سونكو وإقبال الشباب عليه خارج هذا السياق الإقليمي تنم عن اختزالية كبيرة، فدعوته إلى التغيير الجذري لمؤسسات الدولة ليست أمرا جديدا، لكن الجديد يكمن في الكيفية وفي الوسائل التي اعتمدها حزب باستيف لخلق فضاء خاص به في الساحة السياسية. بدأ سونكو بتكريس خطابه السياسي عن طريق تأليف كتب، يفضح فيها فساد الحكومة وسوء تدبير مال العام، كما طرح من خلال هذه الكتب "المشروع" الذي يراه حلا للخروج من مأزق دولة ما بعد الاستعمار "النظام" بتعبيره. تبنى باستيف خطابا شعبويا ضد النظام، مستغلا تطوُّرّ الوعي النضالي ضد الممتلكات الفرنسية، ما سهل مقبوليته في أوساط الشباب، الذين ناضلوا معه ضد النظام، باستخدام التكنولوجيا الجديدة، لتوسيع شبكاتهم في المهجر وفي الأحياء الجامعية. وساهم ذلك في ازدياد شعبية سونكو بطريقة غير مسبوقة في التاريخ السياسي للبلاد. 

باستخدام أشكال مختلفة للتعبير عن مواقفهم السياسية، تمكّن شباب باستيف من سدّ الطريق أمام أجهزة الدولة القمعية والقضائية التي قام الرئيس صال بتنشيطها ضد زعيمهم، وضدهم كجماعة سياسية. ولعلنا لا نجانب الحقيقة إذا قلنا بأنّ فشل الدولة في ذلك ناتج عن جرأة سونكو السياسية وحنكه، علاوة على وقوف الشباب بجانبه. 

أطلقت الدولة عام (2021 ) خطةً لقمع باستيف، ومحو وجوده السياسي، مثل ما فعلت سابقا مع كريم واد وخليفا صال. لكن شعبية سونكو، والقوة التأثيرية لخطابه عمّت مجمل الشرائح الاجتماعية، وأيقظت في نفوس الشباب نوعا جديدا من الأمل والتطلع إلى التحرر من الاستعمارية الجديدة والسيادة الوطنية. فما بين فبراير (2021 ) و يونيو ( 2023)، وجد سونكو نفسه أمام ملفات قضائية، يصعب عليه الخروج منها بحقوقها المدنية والسياسية. ما دفعه إلى تجييش الشباب للمقاومة، وعمِل على إقناعهم، بأنّ ما يدعوهم إليه يتعدى شخصيته، ويُشكّل مشروعا إصلاحيا، يحقق سيادة الدولة بأبعادها المختلفة؛ الإقتصادية والسياسية والغذائية. الأمر الذي عبّد له الطريق أمام تعيين الأمين العام للحزب بشير جوماي مرشحا في الإنتخابات الرئاسية، وذلك بعدما رفض المجلس الدستوري ترشح سونكو بفعل إدانته. 

جوماي:  استمرارية  أم قطيعة؟

الاحتفالات الشعبية لأنصار باستيف في وسائل التواصل الاجتماعي، والتعابير عن مشاعرهم بعد الإعلان عن النتائج المؤقتة للانتخابات، وضعني أمام موقف تذكاري للعرض السنمائي الذي قدمه سيمبين في فيلم xala. في مشهد احتفالي من السنغاليين، افتتح سيمبين فيلم Xala، بمناسبة طرد رجال الأعمال الفرنسيين الذين كانوا يتولون إدارة الغرفة التجارية في دكار (Chambre de commerce) . من خلف ضجيج الدفوف ورقص "الأهالي"، احتفالا بهذا الحدث الثوري، يأتينا صراخ رجل من النخبة السنغالية معبّرا عن شعوره الذي يمثِّل شعور "الأهالي" المحتفلين؛ "إن البلاد ستُدار اليوم بحكومة من الشعب وتمثّل الشعب"، مؤكداً “أنهم قد وصلوا بالنضال من أجل الاستقلال إلى نهايته". الوعي الجمعي لأنصار باستيف يقتنع بالقطيعة على جميع مستويات الحكم، لأنّهم يعتبرون فوزهم نهاية "للنظام" الذي يشكّل مفهوما مركزيا في خطابهم. في أول خطاب رسمي له كرئيس الجمهورية، يقول الرئيس جوماي: "أعي بأن نتائج الانتخابات تعبّر عن رغبة قوية في تغيير نسقي ، لبناء سنغال جديد". فهم يقتنعون بأنّ نضالهم ضد "النظام" انتهى بفوزهم في الانتخابات، كما كان الوعي الجمعي السنغالي يقتنع بنهاية الاستعمار الفرنسي بمناسبة طرد الإداريين الفرنسيين من الغرفة التجارية. فهل ثقل جسد "النظام" بتعبير باستيف، وجسد دولة ما بعد الاستعمار يبارح ظهر "المستعمَرين" بوصول باستيف إلى الحكم؟

الانتظارات وتطلعات الشباب كبيرة، فهي بالنسبة لهم ليست انتظارات أو تطلعات فحسب، بل قناعة تامة بمستقبل أفضل، وتغيير نسقي على جميع مستويات الدولة، إنّها قطيعة مع نموذج الدولة التي تحكم السنغال منذ الاستقلال. أعتقد أنّ الأمر ليس بهذه السهولة التي يظنها الكثير، فباستيف كخطاب تطوّر بتفاعل انعكاسي مع ما يسمونه ب"النظام". فهو بذلك يعتبر جزء عضويا من "النظام"، فبتفاعله مع البنية العميقة للنظام تمت إعادة إنتاجه بأشكال مختلفة تتوافق مع الشرط الاجتماعي والاقتصادي للنظام. ويمكن تتبع ذلك عبر مراحل تطوّر باستيف. لذلك يمكن القول بأنّ باستيف يدخل الآن أصعب مراحل تطوره كخطاب، وهي مرحلة الانتقال من تصوّر بنية الدولة إلى ممارستها على أرض الواقع.

اشتهر باستيف بالنضال ضد "النظام"، وبما يسمونه ب"المشروع"، فتصوّرهم للدولة في إطار "المشروع" قد يختلف كليا مع حقيقة الدولة، خاصة أنّ "المشروع" عندهم كخطاب ليس إلاّ معطى أو وجود وهمي، تمكّن سونكو من تطويره في فراغ سياسي، نتج عن غياب حوار سياسي يقارب مأزق الدولة والمسائل المصيرية بشكل جدي. خلال أول خروج إعلامي لهما، صرح سونكو والرئيس جوماي أنّ برنامجهم الإنتخابي لم يتم إعداده بشكل جيد، بالنظر لظروف السجن وتعقيدات إدارة السجون. وهذا يعتبر تناقضا مع منطق "المشروع" الذي يحملونه، إذ أنّ "المشروع" في تصوّرهم يمثّل خطاطة عمل يضمن إخراج الدولة من قيود التبعية الإقتصادية والسياسية لتحقق سيادتها.

 تطوّر خطاب باستيف في إطار علاقته بنظام الرئيس صال، ويبدو ذلك واضحا من خلال تتبع التحوّلات على مستوى علاقته بالنظام، وعلى مستوى علاقته بذاته، أي على المستوى الداخلي. ليس هذا جديدا، فقد مثّل سيمبين في فيلم Xala البرجوازية الوطنية، بالرغم من دعاوى القطعية مع الاستعمار، إلاّ أنّها عاجزة عن إدارة الشأن الاقتصادي، بعد خروج الفرنسيين. ويعزى هذا العجز إلى أنّ تلك البرجوازية ما كانت قادرة على تصوّر وجودها خارج إطار علاقتها بالاستعمار، ففشلت بذلك السياسات التنموية التي دشنتها حكومات  دولة ما بعد الاستعمار المتمثّلة في الغرفة التجارية، ومن ثم فشلت النخبة السياسية بدورها.  تُمثِّلُ رمزية التكرار التجسيد الأبرز لعجز النخبة الوطنية عن الفعل والتفكير خارج إطار علاقاتها الاستعمارية التي تحركها إغراءات التقليد والاستهلاك الأعمى، ما جعلها تدور في حلقة مفرغة من التبعية للمستعمر من جهة، ومن جهة أخرى تتبنى “حلولا سطحية" تعالج فيها المشاكل باستبدال الأوجه بدلًا عن مساءلة أسس العلاقات التي تقوم عليها المشاريع والسياسات السوسيوإقتصادية. ويدخل في ذلك قرار الرئيس في تأسيس مديرية للشؤون الدينية، ولإدماج جملة الشهادات العربية. 

خاتمة

باعتبارهم أكثر الشرائح الاجتماعية عرضة لمعاناة فشل دولة ما بعد الاستعمار، تُمثّل الفئات الشبابية قوية ثورية ضد المؤسسات السياسية التقليدية في إفريقيا الغربية، خاصة إذا تعلق الأمر بعلاقة هذه المؤسسات بفرنسا. وعلى ذلك، أصبح الحضور الشبابي في الساحة السياسية ظاهرة تفرض نفسها بقوة، ويمكن أن يكون حضور الشباب داخل حزب باستيف ودورهم المركزي في وصول الحزب إلى الحكم مثالا حيّا لذلك. تحوّل هذا الدور الشبابي في سياقات كثيرة من تاريخنا السياسي كما رأينا، لتشكيل أنواع مختلفة من المشاركة السياسية، ولإعادة بناء الوعي السياسي لدى الشباب. فما مستقبل علاقة الشباب بحزب باستيف؟ وأي دور لهم تجاه احتمالات إعادة إنتاج "النظام"؟

بالرغم من رادكاليته التغييرية، فإنّ  خطاب باستيف تطوّر في إطار علاقته ب"النظام"، وانعكس هذا التفاعل بشكل ارتدادي على التحوّلات التي طرأت على الخطاب عبر مراحل تطوّره. فهذا الارتباط الانعكاسي بين باستيف و"النظام" يثير التساؤل عما إذا كان ممكنا إحداث "قطيعة" بحجم الانتظارات والتطلعات. يُعتبر هذا السؤال سؤالا مشروعا، فمن جهة، يعيد النظر في تصوّر باستيف للدولة أو "النظام" بتعبيرهم، كما يساعد على فتح إمكانيات تفسيرية ونقدية لعلاقة باستيف بالدولة في المراحل القادمة من تطوّره كخطاب. فبوصولهم إلى الحكم، يدخل باستيف مرحلة أكثر تعقيدا، وهي مرحلة ممارسة الدولة ومواجهة حقائقها. وبالفعل، فهي مرحلة لا تستوجب التغيير على مستوى مؤسسات الدولة فحسب، لكنها تستوجب أيضا تغييرا على مستوى مضامينها وبنيتها الداخلية.


 

[1] Patriotes Africains du Sénégal pour le Travail, l’Ethique et la fraternité

 (وطنيون أفارقة من السنغال للعمل، الأخلاق والأخوة) 

[2] Annie-Claude Veilleux. (2021). Au-delà de l’alternance : L’évolution du projet politique de Y’en a marre depuis 2012.

[3] أشير هنا إلى الجولات التوعوية التي قام بها الفرانكوبنيني كيمي سيبا Kemi Seba ، الذي يرؤس حركة طوارئ بانفريقانية  (Urgences Panafricanistes). تعتبر هذه الحركة حركة نضالية تدعو إلى التحرر من قيود الاستعمارية الجديدة، والنضال من أجل حقوق المهجر الإفريقي.

[4] 

[5] Emma C. Murphy, Problematizing Arab Youth: Generational Narratives of Systemic Failure, (Mediterranean politics, 2012) P3

[6] Emma C. Murphy, ibid, p8

[7] Bourdieu Pierre, La jeunesse n’est qu’un mot, in questions de sociologie, (Paris, Ed Minuit, 1984,) Pp125

[8] Emma C. Murphy, ibid, p9

[9] المعنى الحرفي لاسم الحركة، هو "لا تبالي" باللغة الولوفية. كانت تسمية بالنسبة لهم ردا على رئيس البلاد في تلك الفترة عَبْدُ جُوفْ، الذي كان يصفهم بالشباب المتشردين. وأعطوا أنفسهم هذا الاسم تعبيرا عن موقفهم تجاه سياسات الرئيس وحكمه عليهم. 

[10] المعنى الحرفي لاسم الحركة هو "لقد سئمنا"، فهو بمثابة شعار تعبّر به الحركة عن حالة الشعب عموما وحالة الشباب خصوصا. تطوّرت هذه حركة أشكالا جديدة من برامج توعوية حول المواطنة، وأشكالا أخرى من النضال ضد الفساد وتقييد الحريات الفردية والقيم الديمقراطية في فترة حكم عبد الله واد.

[11] بفعل ارتباطها بحركات Hip Hope الأمريكية، بدأت حركة Bul Faalé في دواحي العاصمة السنغالية بتطوير مواقف نقدية ضد حكم الاشتراكيين على رأس الدولة في السنغال منذ الاستقلال إلى حدود سنة 2000. للتوسع يُنظر:

 (Moda Dieng. (2015). La contribution des jeunes à l'alternance politique au Sénégal : Le rôle de Bul faale et de Y'en a marre.)

 

[12] تعني كلمة « sopi » تغيير بالعربية، وكان شعارا رئاسيا لعبد الله واد في الإنتخابات الرئاسية عام (2000).

[13] نشأت هذه الحركة نتيجة نضال الحركات الشبابية، والأحزاب السياسية، والمجتمع المدني ضد محاولات الرئيس عبد الله واد تعديل الدستور عام 2011. وفي 23 يونيو من هذا العام، قدم الرئيس واد اقتراحاته إلى المجلس الدستوري. ونجحت هذه الحركات في منع الرئيس واد والبرلمان من اعتماد التعديلات الدستورية التي اقترحها الرئيس.