الجمعة 22 نوفمبر 2024
كتاب "وصف افريقيا" للحسن بن محمد الوزان، الملقب ب"ليون الافريقي"، المولود بمدينة غرناطة، في نحو 10 سنوات قبل سقوطها، حوالي العام 1483 للميلاد، وانتقل مع أسرته إلى فاس، حيث درس على أعلام القرويين، كتاب غريب لمؤلف بسيرة غريبة. فالكتاب الذي صار علامة لصاحبه، كُتِب في الأسر بمدينة روما، عام 1526، باللغة الإيطالية، تلبية لطلب البابا ليون العاشر. عام 1550، نُشِر الكتاب في مدينة البندقية، ثم ترجم بعدها إلى اللاتينية (1556) والفرنسية (1556) والهولندية (1565) والإنجليزية (1600) والألمانية (1805)، ولم ينقل إلى اللغة العربية إلا في الربع الأخير من القرن الماضي؛ أي بعد مضي أكثر من أربعة قرون.
نقرأ في سيرة الأسد الإفريقي، أن الحسن بن محمد الوزان كان نابغة، ما لفت إليه نظر سلطان فاس، محمد الوطاسي؛ المعروف بالبرتغالي لقضائه سنين ملكه الخمسة في محاربة البرتغاليين، الذين استولوا على مدن مغربية (أسفي وأًصيلة وأزمور). بذلك استطاع أن يصنع لنفسه مكانة في بلاط السلطان، أهلته للحضور في موكبه عندما حاصر البرتغاليين في مدينة أصيلة عام 1508. فضلا عن ذلك تولى مهام سياسية باسم السلطان، فسحت الطريق أمامه لتكوين صداقات مع زعماء داخل البلاد، ومع أمراء وملوك افريقيا التي أضحى عارفا بأقطارها وجغرافيتها، وطبائع أهلها وعاداتهم.
جال الكاتب في مختلف ربوع المغرب؛ شمالا وجنوبا وشرقا، وكانت رحلاته خارج المغرب على مراحل؛ قادته الأولى برفقة عمه (عام 1511) إلى السودان الغربي، وزار في الثانية (عام 1516) الجزيرة العربية ومصر والعراق وفارس وأرمينيا وبلاد التتار، وقادته الثالثة (عام 1517) إلى القسطنطينية والحجاز والبلاد الليبية والتونسية، ولدى عودته من تونس صوب المغرب، أسره قراصنة إيطاليون قربة جزيرة جربة، ونقلوه إلى مدينة نابولي حيث قُدِم هدية إلى البابا جان ليون العاشر في روما؛ أحد أشهر باباوات عصر النهضة في أوروبا.
أدرك البابا عند لقائه بالأسير أنه أمام عالم ومستكشف وجغرافي وترجمان، فقد كان متعدد اللغات، فصيحا في الإسبانية والعربية ناهيك عن إجادة العبرية، كل ذلك عجل بتغيير العلاقة بين الطرفين؛ السيد والعبد، فقرب البابا الرجل إليه، وجعله من خاصته، بل وقرر تعميده، بغية الاستفادة من علومه ومعارفه، فأشرف بنفسه على تلك المراسيم، ومنح الحسن الوزان اسما جديدا هو اسم البابا نفسه، ليصبح بذلك "ليون الإفريقي" أو "يوحنا الأسد الغرناطي".
شرع ليون الإفريقي في تعليم نخب رجال الكنيسة في روما ونابولي اللغة العربية، كما سطع اسمه مدرسا في كلية بولونيا الشهيرة، حيث درَّس العربية لطلابها، مقابل ذلك اهتم بتعلم اللغتين الإيطالية واللاتينية. بعد موت البابا، انتقل ليون للعيش في كنف الكاردينال جيل دي فيتيرب، ليعلمه اللغة العربية، هناك تفرغ لإنهاء كتاب "وصف افريقيا" عام 1526، بعد ست سنوات في الأسر.
أصل الكتاب جزء من مؤلف ضخم بعنوان "الجغرافيا العامة"، وضعه الرجل باللغة العربية قبل أسره، لكنه ضاع، كما ضاعت الآلاف من المخطوطات الثمينة في ربوع البلاد الإفريقية. هكذا يصبح "وصف افريقيا" أول كتاب جغرافي عن افريقيا ظهر في أوروبا، وزاده أسلوب الكتابة الذي مزج بين المشاهدة الخاصة أحيانا، والنقل عن مؤرخين وجغرافيين أحيانا أخرى أهمية وتأثيرا. نشر الكتاب لأول مرة، عام 1550، على يد الإيطالي راميزو الذي أعاد طبعه ست مرات، بعد نفاد طبعته، وكان لعقود من الزمن في قائمة الكتب الأكثر ترجمة وانتشار في أوروبا.
حظي الكتاب بإشادة وتنويه في الأوساط الأوروبية، فقال عنه راميزو؛ أول من طبع الكتاب، "ليس هناك أي مؤلف آخر في عصرنا – القرن السادس عشر الميلادي – أعطى مثل ذلك القدر من المعلومات عن افريقيا، وبمثل تلك الغزارة وذلك اليقين". ووصفه البريطاني توماس ديك بالمرجع الأساسي، منذ نشره في أوروبا، في كل ما يخص الدول العربية والإفريقية وشعوب الساحل. وصرح المستشرق الألماني هارتمان، في القرن الثامن عشر، بأن كتاب ليون الإفريقي "كنز من الذهب، لولاها لخفيت عنا أشياء كثيرة".
تأخذك أقسام الكتاب في رحلة وصفية بالمفهوم العلمي لا الأدبي للكلمة، فالكاتب تناول كثيرا من المسائل والقضايا في البلاد الإفريقية التي زارها، فمتن الكتاب يتعدى الرحلة نحو موسوعة من المعارف، اختلط فيها التاريخ بالجغرافيا والدين بالثقافة والإثنوغرافيا بالديمغرافيا... في حياد مطلق، فقلم المؤلف لم يتأثر بعاطفة قرابة أو دين أو وطن، إذ تجده يمدح مكانتا وقوما من جهة، ويذم نظيرهما من جهة أخرى حسب ما شاهده.
تحدث بنفسه عن المنهج الذي اتبعه لتحرير الكتاب، مؤكدا تحريه الدقة فيما يكتب "لقد دونت بجد واجتهاد ومن يوم لآخر تلك الأشياء التي رأيتها بعيني وبدا لي أنها تستحق الذكر، عندما عبرت افريقيا من أقصاها إلى أقصاها، وما لم أمر به بنفسي بسبب ضيق الوقت أو صعوبة الطريق، فقد جهدت نفسي الحصول عليه من أهل الثقة ممن شاهدوه بأنفسهم، ثم بذلت جهدي في جمع شتات هذه المادة وصياغتها".
من ينظر إلى الكتاب بأعين اليوم قد يراه عاديا جدا، لكن تصفح بعيون قارئ في أواسط القرن السادس عشر يعني أنك أمام كنز علمي، بدء من القسم الأول (وصف افريقيا وما فيها من أشياء تستحق الذكر) حيث تحدث المؤلف عن افريقيا بصفة عامة، فبسط القول في أصول التسمية وحدودها وأقسامها ومماليكها وصحاريها الواقعة بين نوميديا وبلاد السودان، وتوقف عند مناط الخلاف بشأن أصل الأفارقة، وعن اللغات الإفريقية وعن دخول العرب إلي افريقيا مع التوزيع السكاني للعرب وقبائلهم، وتكلم عن ديانات قدماء افريقيا، وحتى عن كتاباتهم التي كانوا يستعملونها، وبلغت به الدقة درجة تقديم معارف عن المناخ في افريقيا.
توالى الحديث عن البلاد الافريقية بذات النهج والأسلوب تقريبا، فخص كل بلد بقسم؛ مملكة مراكش ومملكة فاس ومملكة تلمسان ومملكة بجاية ومملكة تونس ومملكة نوميديا وبلاد السودان ومصر وختم بقسم خاص بالأنهار والحيوانات والنباتات بإفريقيا، حيث استعرض ما شاهدته أو سمعه عن أحوال البلاد بمدنها وقراها وشؤون العباد في حياتهم ومعيشهم وزراعتهم وأعمارهم وأمراضهم وآدابهم وخصالهم المحمودة والمذمومة.
أثار الوزان في هذا الكتاب قضايا لا زال النقاش بشأنها قائما، من قبيل اتجاه الغزاة دوما لفرض لغتهم وثقافتهم على الشعوب المغلوبة. كما تساءل عن مصير اللغة أو اللغات الإفريقية؟ وغير ذلك من المسائل التي يخوض فيها بلا مواربة، فالرجل كان معتزا بنفسه، يكتب بلا تحفظ، منتقدة تارة ما شاهده بأم عينه من عادات وتقاليد، وتارة أخرى مستفهما عن وقائع غاب فيها المنطق والعقل. ولا يتردد من حين لآخر عن النقد المباشر، فقال مثلا عند كلامه عن ملوك فاس "ليس منهم من تولى الحكم بطريقة شرعية، وإنما عن طريق التسلط والغلبة".
كانت الغرابة رديف حياة الرجل الذي شاع اعتناقه المسيحة، طوال الثلاثين سنة التي قضاها في إيطاليا، لكن حافظ على انتسابه لجماعة المسلمين عند كل حديث له عن الإسلام، وزاد الموفق غرابة توقيعه الكتاب في نابولي بقوله: "العبد الفقير إلى الله مؤلفه يوحنا الأسد الغرناطي المدعو قبل الحسن بن محمد الوزان". ثم اختفاؤه فجأة عام 1550 بعد وفاة الكاردينال، حيت ترجح الروايات أن يكون الرجل عاد إلى أقرب نقطة إليه في بلاد الإسلام، وهي تونس، ولم يعرف عنه شيء بعد ذلك.