الجمعة 22 نوفمبر 2024
لم تطأ قدما كارل ماركس أرض القارة الأفريقية إلا في أيامه الأخيرة، عندما توجه إلى مدينة الجزائر (20 فبراير/ شباط 1882) بغرض الاستشفاء، وظل بها نحو 70 يومًا، ودون مشاهداته بها في مراسلاته المختلفة، والتي حملت في سطورها نقمه على تردي حالته الصحية، وتقلبات الجو غير المتوقعة خلال إقامته، كما حوت تلك المراسلات، التي تناولها مارسيللو موستو (Marcello Musto) في ورقة مهمة بعنوان رحلة ماركس الأخيرة (2022)، انطباعات مختزلة عن المجتمع الجزائري سوغت، ضمن تحليلات أخرى، لإدوارد سعيد(Culture and Imperialism, 1993) نقده لتصورات ماركس (وفريدريك إنجلز، منذ منتصف القرن التاسع عشر) باعتبارها رؤى "استشراقية"، لا تخرج عن طرح هيجل عن القارة (باستثناء مصر) باعتبارها موئلًا للجهل والتخلف الحضاري عن بقية العالم.
كما لفت آخرون (Meisenhelder, Thomas, Marx, Engels, and Africa 1995) الانتباه إلى أن فكرة ماركس عن الاستعمار، كأداة وقوة دافعة لتحديث الشعوب "غير الأوروبية"، لا تتباين كثيرًا عن رؤية القوى الاستعمارية نفسها، ومبرراتها لتحمل "عبء الرجل الأبيض". لكن مع معاناة أفريقيا من قوى الإمبريالية والاستعمار، بشكل متصاعد منذ مؤتمر برلين (1884-1885)، وبزوغ الحركات الوطنية الأفريقية، وتياراتها التي استلهمت قدر لا يستهان به من "الماركسية" لمواجهة هذه القوى، ظهر ماركس ملهمًا لكثير من القادة الأفارقة، ونضالاتهم التحررية بحكم اعتبارات معقدة ومتنوعة، مثل: النشأة والتعليم والسمات الشخصية؛ مما يضع التجربة التاريخية، وجهًا لوجه، في مواجهة رؤية متمسكة "بتاريخانية"historicity نصوص ماركس نفسه.
ماركس في الجزائر: بين استشراق سعيد وفخ هيجل!
لا يمكن فصل رؤية ماركس "الاستشراقية"، كما اتضحت في خطاباته الستة عشر التي أرسلها خلال وجوده في الجزائر، عن طبيعة التحولات التاريخية التي شهدها الشمال الأفريقي (ضمن عالم الشرق حسب السائد وقتها)، وخصوصية ما يمكن تسميته "بالاستعمار الشرقي" (Oriental Colonization). في البداية. يلاحظ أن مراقبة ماركس للحياة اليومية في مدينة الجزائر، ارتهنت بحالته الصحية المتردية، جراء تمكن الالتهاب الرئوي من جسده (إذ توفي في منتصف مايو/ آيار 1883 أي بعد نحو عام واحد من عودته من الجزائر)، وما رافقها من تأثيرات نفسية سلبية للغاية على ذهنه. ومن ذلك سرده لإنجلز مدى قسوة السلطات الفرنسية في معاملة المدانين بارتكاب جرائم، وفرض عقوبة فصل الرأس عن الجسد، وحرصها على عدم تسليم الجثمان كاملة لأهل المحكوم عليه، قبل أن يسرد حكاية "استشراقية" بامتياز، عن ضرر ذلك على الميت وأهله، لأنه حين يصل الجنة "سيسأله (النبي) محمد: أين تركت رأسك؟ أو كيف فصل الرأس عن الجسد؟ لذا أنت غير أهل لدخول الجنة..." وهو ما يصب أهل الميت بالحزن، وهنا يمتزج سرد ماركس النقدي بحس ساخر تمامًا. لكن "الاستشراق" الذي قصده سعيد يتجاوز، بطبيعة الحال، هذه اللفتة "الشخصية" لماركس إلى جوهر "نظرية" الأخير للاستعمار.
أوجز بريان تيرنر (Bryan T) في مقاله عن كارل ماركس والاستعمار الشرقي (Journal of Palestine Studies, spring 1977) مثلا بأن ماركس حلل الاستعمار البريطاني للهند برؤية أن الأرباح الاقتصادية التي عادت على الاقتصاد البريطاني ككل من مستعمرته في الهند، كانت أقل من نفقات بسط السيطرة العسكرية والإدارية والدفاعية البريطانية على الهند، "وأن المستفيدين الحقيقيين من الحكم البريطاني في الهند هم حملة سندات شركة الهند الشرقية، والعاملون في الإدارة البريطانية"، قبل تأكيده أن المستعمرات البريطانية مثلت عبئًا ضريبة (tax) على الشعب البريطاني ككل، لصالح مقطع الطبقة الحاكمة cross-section of the ruling class.
يمكن، ربطًا بذلك، فهم نقد سعيد لماركس "واستشراقه"، برؤية أن الأفارقة (والآسيويين) مجموعة من الشعوب الكسولة، أو على حد وصف إنجلز للجزائريين (Moors of Alegria سبتمبر 1857) بشكل عام بأنهم "عرق جبان" (timid race) لأنهم "رغم قمعهم احتفظوا بسمتي الوحشية والنزعة الانتقامية"، فيما تحل شخصيتهم الأخلاقية -حسب نصه- في مرتبة دنيا، وهو توصيف عده إدوارد سعيد تطابقًا مع الرؤية الاستعمارية الفرنسية، ولم يعارضه فيه ماركس(Culture and Imperialism, p. 168).
لكن وضع آخرون رؤية ماركس الاستشراقية فيما عدوه سياقًا تاريخيًا منطقيًا، ومن هؤلاء شلومو أفينيري S. Avineri (Marx and Modernization, April 1969) الذي قدم ملاحظة بالغة الأهمية، وتفيد هنا في فهم أعمق لفكرة إدوارد سعيد، وهي اشتقاق ماركس نفسه لسمات "المجتمع الآسيوي"، أو نمط الإنتاج الآسيوي، بشكل لا لبس فيه من فصل The Oriental World المتضمن في عمل هيجل الأبرز "محاضرات في فلسفة التاريخ" (1840)، ومن ثم فإن النظر في هذه السمات من الزاوية الهيجلية، وفي يخص التناول الحالي فحسب، يحيل إلى حسم نظرة استشراقية مكتملة الأركان لدى ماركس الذي يسم المجتمع الشرقي بأنه يفتقر -في المقام الأول- للملكية الخاصة للأرض، وهي خلاصة إشكالية وخاطئة في بعض الأمثلة، كما أنها تمثل مدخلًا غير علمي، كونها تتجاهل تباينات نظم ملكية الأرض وحيازتها، والحدود بين مشاعيتها وملكيتها الخاصة، وقسرها في "المثال الأوروبي" حصرًا، وهو ما يمكن وصفه بغلبة المركزية الأوروبية على رؤية ماركس للمجتمعات غير الأوروبية.
من المركزية الأوروبية إلى الماركسية الأفريقية
ثمة ملاحظة أولية يجب أخذها في الحسبان عند التطرق لتأثير ماركس بأفريقيًا، وهي أن الوعي "الأفريقي" بالماركسية وتفسيرها للتاريخ كان متدرجًا في طبيعته (منذ الاقترابات الأولى نهاية القرن التاسع عشر)، ومتباينًا في قدرته على إثارة الجدل؛ ويتضح ذلك في حالة والتر رودني، وهو من أشد الماركسيين الأفارقة حماسة، الذي أثار في ورقة له حول ماركس والماركسية واليسار الروسي (Rodney, W. The Russian Revolution, 2018) نقدًا أوليًا لماركس، يمكن أن ينسحب على أفريقيا، من جهة أن قيام الثورة الروسية ذاته (1917) دحض أفكاره وتوقعاته، إذ لم تتوفر الظروف المادية "المتطورة" واللازمة لقيام الثورة الاجتماعية (الإقطاع ثم الرأسمالية ثم الاشتراكية عبر ديكتاتورية البروليتاريا)، ويتضح تدرج فهم الماركسية وتباينه أفريقيًا عند مقارنة رؤية رودني الواعية برؤية كل من كلود ماكاي وماركوس غارفي وجورج بادمور، على سبيل المثال.
وقد تبنى بادمور مقاربة نقدية أكثر اعتدالًا لماركس، فيما غلب في مؤلفاته الاهتمام بما بعد قيام الثورة الروسية والزعيم السوفييتي فلاديمير لينين، لاسيما في مؤلفه الأشهر "أفريقانية أم شيوعية؟" (Pan- Africanism or Communism? 1956).
رأى بادمور، فيما يخص السياق الراهن، أن أفكار لينين "الماركسية" الأولية (والتي ستتبلور لاحقًا فيما سيعرف بتيار الماركسية اللينينية والذي سيجد له حواضن سياسية في عدد من الدول الأفريقية) ثم لدى جوزيف ستالين التي ضمنها في كتابه "Marxism and the National and Colonial Question" تفتقد قدرًا من زخمها عند نقلها إلى الواقع الأفريقي، وأشار بدقة واضحة إلى أن الطبقة العاملة في روسيا القيصرية كانت بالغة الصغر قياسًا لبقية سكان الإمبراطورية، ومن تم رأى لينين ضرورة أن يجد البلاشفة (الأغلبية، حيث تتضمن الكلمة نقدًا ذاتيًا مبعثه التناقض هنا) حلفاء لهم من أجل ضمان انتصار الحزب الشيوعي، وتمثل هؤلاء الحلفاء في الأغلبية (الفعلية) الفلاحية والأمية (دون تحقيقها وعيًا طبقيًا لازمًا وفق ماركس). لذلك عمد لينين وحاضنته السياسية إلى تطوير برنامج وشعارات، يمكنها كسب تعاطف الفلاحون الروس والأقليات العرقية غير الروسية، ما يعني ضمنًا قيادة عملية تحول الوعي البروليتاري (لاحقًا) من أعلى، لتكون الثورة دافعًا لهذا التحول، وليست نتيجة له حسب ماركس.
لكن تجب ملاحظة أن بادمور نفسه كان ينظر لقضية مناهضة الاستعمار والإمبريالية في أفريقيا من زاوية المركزية الغربية، بشكل واضح، كما يتضح -مثالًا- في استهلاله عمله المشار له بجزء أول من ثلاثة فصول، تتناول حركات العودة إلى أفريقيا؛ وتكوين ليبيريا، ومخاض ولادة الأمة السوداء، وهي عناوين تحيل إلى حدود فهمه للقضايا الأفريقية جغرافيًا وتاريخيًا وأيديولوجيا، فيما لا يتجاوز التأثير الاستعماري الغربي والاستجابة الهزيلة إزائه.
ألقت الحرب الباردة بظلالها على رؤية ماركس أفريقيًا، وبشكل أكثر وضوحًا داخل القارة نفسها، وليس في الشتات كما جرت العادة غالبًا. ولعل المثال الأبرز، وإن لم يكن الأكثر اكتمالًا ومنهجية مقارنة ببادمور ورودني، هو تجربة الزعيم الغاني كوامي نكروما مع الماركسية، وقراءته لها في معترك فترة حكمه بالغة الاضطراب في واقع الأمر. فوفق ملاحظة علي مزروعي في مقال شهير (Nkrumah: the Leninist Czar, 1966) فإن نكروما استقى تأثره بماركس عبر لينين، وحاول لاحقًا -حسب مزروعي- دفع تحليل لينين نفسه للإمبريالية إلى مستوى أعلى، وعلى النحو الذي سبق أن فعله الأخير إزاء "تحليل ماركس لرأس المال"؛ لكن هذا التأثر، لاسيما تفسير ماركس لوقوع الثورات في العالم المتقدم عقب تزايد فقر الفقراء وثراء الأغنياء، ظل في نطاقه النظري بالأساس دون أن يتمكن نكروما، في المحصلة وبقراءة مختصرة هنا، من إقامة مجتمع اشتراكي أو على الأقل تفادي حصار قوى "الاستعمار الجديد" والإمبريالية للدولة الوطنية في غانا، وسقوطه هو شخصيًا في انقلاب عسكري (فبراير/ شباط 1966) ترك جرحًا غائرًا في نفسه حتى وفاته.
بأي حال فإن ماركس ظل حاضرًا في فكرة نكروما، رغم ولع الأخير الذي لا يقارن بلينين، وقدم نكروما ملاحظة هامة في ختام مؤلفه اللينيني بامتياز (Neo- Colonialism: The Last stage of Imperialism, 1965) وهي أن الصراع بين الفقراء والأغنياء في العالم المتقدم، منذ منتصف القرن التاسع عشر، انتهى "بتسوية" (خلافًا لسيناريوات ماركس بحتمية الصدام بينهم وانطلاق "الثورة")، فيما اختفت الرأسمالية كنظام من مناطق شاسعة من العالم، وترسخت الاشتراكية في المناطق الأقل تطورًا منه، وأن الثورة ضد الرأسمالية حققت أكبر نجاحاتها في المناطق التي مورست فيها (ديناميات) الاستعمار الجديد المبكرة بشكل فعال.
خلاصة
يمكن هنا ملاحظة وجود تفهم "أفريقي" كبير لنقد ماركس على مستويين رئيسيين: أولهما، أن أفكاره تمثل قراءة "مدرسية" للتاريخ ووقائعه، وحدود تفسيره (ارتباطًا بالألماني فريدريك هيجل أكثر من غيره باعتباره أبرز رواد فلسفة التاريخ في القرن التاسع عشر). وثانيهما، أن "النظرية الماركسية" لا تنسحب بالضرورة على مسار التاريخ في أفريقيا، أو على حد ملاحظة الرئيس الغيني أحمد سيكوتوري (Carmicael, Stokely, Marxism- Leninism and Nkrumah, Feb. 1973) أن ماركس "لم يخترع الاشتراكية العلمية، لكنه كان مراقبًا لها، وأنه لاحظ ظاهرة معينة تتعلق بالإنسان والقوى الاقتصادية بشكل عام، وبالعمال ورأس المال بشكل خاص.
أتاح هذا النقد مساحات أرحب للتفاعل مع ماركس وأفكاره، بعد استقلال أغلب الدول الأفريقية، ومواجهتها أسئلة الدولة الوطنية، ومن بينها توجهات سياساتها الخارجية بين قطبين متباينين أيديولوجيًا واقتصاديًا وعسكريًا. فيما فشل عدد لا يستهان به من القادة الأفارقة الذين تبنوا الماركسية (وما تفرع منها من أفكار وحركات سياسية)، أو سعوا لتطويرها في سؤال الدولة الوطنية، لأسباب متنوعة للغاية، من بينها بالضرورة ما يمكن وصفه بالقراءة الانتقائية/ القاصرة أو البرغماتية لماركس.