تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الجمعة 17 مايو 2024

فن

سادو علي ورسمه.. أيقونة الفن والسياسة

22 أبريل, 2024
الصورة
Sado Ali warsame
Sado Ali warsame
Share

 (1)

صعدت سادو خشبة المسرح الوطني بمقديشو في الحادي والعشرين من شهر يناير عام 1989 خلال مناسبة أقامتها الدولة احتفاءً بالإعلام لتغني أمام جمهور كبير - يتقدمه الرئيس محمد سياد بري وعدد من مسؤولي وقادة البلد - أغنيتها الشهيرة "لاندكروزر" التي ألَّف كلماتها الأديب والفنان عبدي محمد أمين. في ذلك اليوم؛ اصطفت في ساحة مواقف المسرح الوطني ما يزيد على مائة وخمسين سيارة لاندكروزر للمسؤولين الصوماليين وكبار الشخصيات.

كانت الدولة تعاني من الترهل في ثمانينيات القرن الماضي، وانتشر التمرد المسلح في عدد من أقاليم البلاد احتجاجا على سياساتها التعسفية، وعصفت موجة جفاف بمناطق واسعة، وتفاقمت أزمة اللاجئين التي ظهرت لأول مرة عقب الحرب الصومالية الإثيوبية 1977-1978، وارتفعت معدلات التضخم إلى مستويات قياسية، وأصبحت البلاد تعتمد على معونات المانحين الدوليين، وانحسر نفوذ الدولة  تدريجيا حتى انحصر في العاصمة مقديشو التي كانت تعاني من أزمة مياه وكهرباء في وقت كانت فيه الطبقة الحاكمة وتلك المقربة من الدولة تقود سيارات اللاندكروزر  الفارهة في شوارع العاصمة، وأصبحت اللاندكروزر آنذاك علامة على امتياز الثراء والنفوذ.

تسخر كلمات الأغنية من المنطق المعوج الذي يدفع بصاحبه إلى إنفاق الأموال ببذخ لشراء سيارات اللاندكروز بينما يستجدي معونات غذائية لسدِّ احتياجات أبناء شعبه، وتتساءل عن جدوى اللاندكروزر في مدينة تنقطع فيها الكهرباء والمياه.

خيَّم صمتٌ رهيب على قاعة المسرح؛ لقد صفعت سادو بأناقة غير متوقعة جميع رجال الدولة الحاضرين، وقامت بتسفيه سياساتهم وسياراتهم. في مساء ذلك اليوم؛ اقتحم مجموعة من عناصر جهاز الأمن الوطني NSS منزل سادو واقتادوها لمركز تابع للجهاز في حيِّ بيحاني حيث تمَّ احتجازها.

تستمرُّ سادو بتسفيه سياسات النظام الحاكم حتى وهي رهن الاعتقال؛ في مكتب المحقق تقاطع أسئلته: "المكان حار، هلَّا شغلت المكيف؟" فيجيب: "الكهرباء مقطوعة". تقاطعه مرة أخرى: "أشعر بالعطش، هلَّا ناولتني كأسا من الماء؟" فيسأل المحقق أحد مساعديه: "هل عادت المياه أم لا زالت مقطوعة؟" تسأله سادو بدهشة: "لماذا اعتقلتموني إذا؟ هل ذكرتُ في أغنيتي غير هذا الذي يحصل أمامك الآن؟"، تستبدُّ الحيرة بالمحقق ويأمر بإعادة سادو إلى الزنزانة.

بالرغم من بساطة كلمات الأغنية إلا أنها أصبحت من أكثر الأغاني شعبية وانتشارا في تلك السنة لملامستها الأوضاع المتدهورة في البلاد وتزامنها مع سخط شعبي عارم.

المفارقة الساخرة هنا تتمثل في أنه تمَّ تكريم الفنانة سادو علي ورسمه في حفل رأس السنة الجديدة لعام 1990 الذي أقامته هيئة الإذاعة والتلفزيون باعتبارها أفضل فنانة بناءً على رسائل الجمهور الذي صوَّت لصالحها. 

(2)

تعود بدايات مسيرة سادو الفنية للقائها في مقديشو بأستاذ الأدب والفن الصومالي بجامعة لفولي سعيد صالح أحمد. يروي الأستاذ سعيد ذكريات لقائهما الأول في شهر أكتوبر عام 1973 أثناء إعداده طاقم مسرحية Tusmo iyo Tawaawac  (عِبرة وتَفَجُّع) للأديب والشاعر محمد إبراهيم هذراوي الذي كان في روما وقتها للمشاركة في فعاليات عرض الفيلم الصومالي Dan iyo Xarrago (حاجةٌ وترف)، ويذكر أنه ظهر دور شاغر في المسرحية بعد انسحاب إحدى الفنانات من طاقم العمل، فاصطحبه أحد أصدقائه لملاقاة فتاة تقيم بغرفة صغيرة في حيِّ هذن، كان برفقتها رجل يعزف على قيثارة بينما تغني هي بشغف، وأجابت بـ "نعم" حين سألها الأستاذ سعيد: "هل ترغبين في الغناء على المسرح؟". بالرغم من إلغاء المسرحية بأمر رسمي من الدولة قبيل موعد عرضها؛ إلا أنها كانت التجربة الحقيقية الأولى لسادو مع الفن، وأول اختلاط لها بمجتمع الفنانين والأدباء خلال بروفات المسرحية في لفولي، وكوَّنت صداقات وشراكات عمل دامت لعقود لاحقة.

انضمت سادو لفرقة وابري الفنية عام 1974 بترشيح من الأديب محمد علي كاريه، ومدير المسرح الوطني في مقديشو محمد عيسى عبدي، ومدير المسرح الوطني في هرجيسا إدريس دُعالي.

وفي السادس من يناير عام 1974 غنت سادو  Cunaabi بالتشارك مع الفنان موسى إسماعيل قلينلي ("عُنابي" هو اسم يطلق على نوع رائج من القلادات النسائية الشعبية) والتي كانت أول أغنية تؤديها على المسرح خلال مسيرتها الفنية. منذ ذلك التاريخ؛ تدفَّق إنتاجها الفني بسلاسة حتى غدت في مدة زمنية قصيرة من أكثر الأصوات النسائية تأثيرا على الساحة الفنية المحلية، وقدَّمتْ عددا من المسرحيات الغنائية في مدن عديدة داخل البلاد، وفي روسيا وكوريا الشمالية ونيجيريا ودول أخرى.

يتفق معاصروها من الأدباء والشعراء الذين عملت معهم في مشاريع فنية متنوعة؛ من أمثال محمد علي كاريه، ومحمود عبد الله سَنْجُبْ، وسعيد صالح أحمد وغيرهم؛ على فرادة تجربتها الفنية من حيث قدرتها الفائقة على حفظ القصائد المغناة مهما بلغ طولها، واستيعاب المعاني التي ينطوي عليها النصّ وتوظيفها بشكل جيد في أدائها الفني، وإتقانها التعبير عن تلك المعاني بصوتها العذب وتعابير وجهها ولغة جسدها، واندماجها ببراعة في الأدوار التي أدَّتها على المسرح. 

(3)

تمتَّعتْ سادو بجمال آسر؛ كانت فارعة الطول، رشيقة القدِّ والقوام، صاحبة عينين لوزيتين ناعستين، وذات ابتسامة ساحرة. من المقاطع التي يعجُّ بها اليوتيوب لسادو وهي تغني في مناسبات مختلفة في السبعينيات والثمانينيات يمكن للمرء أن يتتبع الأناقة اللافتة التي امتازت بها، وأنماط أزيائها المذهلة التي بدت للبعض إشكاليةً أحيانا حتى بمعايير ذلك العصر الذي تمتعت فيه المرأة الصومالية بقدر من الأريحية المفقودة في أيامنا هذه فيما يتعلق بخياراتها في الملابس.

ويعود حضور سادو المبهر على المسرح جزئيا لطاقتها الأنثوية الخلابة التي لطالما انسابت بعفوية ودون تكلُّف، إلى جانب موهبتها الفنية الأصيلة في المقام الأول، إذ يصعب ألا يلاحظ المرء جاذبيتها ويتساءل عن سرِّها. ثمَّة عذوبة استثنائية اقترنت بسادو التي بدت لي دوما كأميرة فاتنة مشاغبة فرَّتْ من إحدى الأساطير لعالمنا.

حققت مسرحية Hablayahow hadmaad guursan doontaan? (متى ستعقدن قرانكن يا فتيات؟) نجاحا كبيرا في شباك التذاكر في الثمانينيات، ولعبت سادو فيها دور فتاة مرحة تعشق الحفلات وتختار الاقتران برجل يشاركها الرقص والاستمتاع بالحياة لأن المال لا يشكل أولوية بالنسبة لها.

ارتدتْ سادو في تلك المسرحية "جمبسوت" أسود اللون بأكمام قصيرة وبنطال ضيق يصل لمنتصف ساقيها مع حزام أبيض، ورفعتْ غرة شعرها القصير المموج المصبوغ باللون النحاسي، كما تزيَّنتْ بربطة شعر رفيعة واكسسوارات فاتحة اللون، ورقصتْ بغنجٍ أخَّاذٍ باعثٍ على البهجة وبحركات رشيقة تماشت بانسيابية مع إيقاعات الموسيقى. يقال أنها أثارت حينها لغطا بسبب أزيائها التي اعتبرها البعض جريئة، لكنني أعتقد أن سادو في تلك المسرحية خلقت في الذاكرة الفنية الصومالية أحد أكثر المشاهد جمالا.  

(4)

إن ما يجعل شخصية سادو فريدة من نوعها لا يكمن فقط في براعتها الغنائية والمسرحية وطلَّتها البهيَّة ورقِّتها الفاتنة، وإن كان كل ما سبق قد منحها نوعا من التألق والفرادة بلا شك، لكنها كانت أيضا صاحبة شخصية مركَّبة يصعب على أي ناقد أن يختزلها في إطار محدد ضيق.

يقول الشاعر والناقد الفني الصومالي إبراهيم عثمان أحمد في هذا السياق أن شخصية سادو اتَّسمتْ بتوازن عجيب بين الجانب الأنثوي الناعم والأدوار التي عادة ما يضطلع بها الرجل في المجتمع الصومالي. فالنساء الفنانات في تلك الحقبة - على سبيل المثال - كُنَّ في الغالب يكتفين بأداء أغانٍ يكتبها الرجال عن الحب وعن الوطنية، بينما كان الرجال يغنون على المسرح ويلحنون الأغاني ويؤلفون كلماتها وينظمون القصائد ويبدعون الأعمال المسرحية. وبالرغم من البيئة الحاضنة للفن في السبعينيات والثمانينيات ومشاركة النساء بفعالية في تلك البيئة لكن تقسيم الأدوار بين الرجال والنساء كان جليا. بيد أن سادو كسرت تلك القاعدة، وكانت الفنانة الوحيدة في تلك الحقبة التي نظمت قصائد وساهمت بإبداعها في الحراك الأدبي والفني، وألَّفتْ كلمات عدد من الأغاني وقامت بتلحينها أيضا، من بينها أغنيتي: Yaa Kuu Warrama (تمنيتُ لو وصلك الخبر) و Naftaydaa Kuu Jirraban (روحي تتعذب من أجلك).

حين ازدهرت سلسلة القصائد التي عرفت بالـ  Deeley "الدالية" و الـ Siinley "السينية" التي أشعلت جدلا حول قضايا سياسية واجتماعية شائكة؛ انتبهت الدولة إلى صدى تلك القصائد الواسع داخل البلاد، واستدعت مجموعة من أدباء وفناني الداخل من بينهم: محمد علي كاريه، ومحمد إبراهيم هذراوي، وعبد القادر حرسي "يم يم"، وأحمد فارح علي "إذاجا" وآخرين للرد على شعراء الخارج. كانت القصائد تعتمد جميعها في البداية على المجاز والتورية والصور الشعرية غير الصريحة في نقدها للدولة أو دفاعها عنها، وشاركتْ سادو في سلسلة "الدالية" بقصيدتين من تأليفها: Kaa Qaad Dadwaynuhu و Diiwaanku hay dhigo.

حملت سادو روحا متمردة تستعصي على الترويض خلال مسيرة حياتها الحافلة؛ ولذا فحين قام بعض الشعراء المحسوبين على الدولة بانتهاج أسلوب مبتذل يهاجم العشائر المحسوبة ضد النظام، ويصور الأمر  برمته على أنه حرب عشائرية بين الدارود وبقية العشائر، أعلنت سادو - ومعها عدد من الفنانين والأدباء - رفضها لتسييس الفن والأدب وبث السموم القبلية فيه، وتعتبر سادو المرأة الوحيدة التي اعترضت على ذلك ضمن أربعين فنانا وأديبا لكن النظام اعتقلها لوحدها، وسُجِنتْ ستة أشهر صعبة. كانت تلك أول مرة تصطدم فيها سادو مع النظام الحاكم وتتعرض فيها للاعتقال قبل سنوات من اعتقالها للمرة الثانية بعد أدائها أغنية "لاندكروزر" على المسرح الوطني بحضور رئيس الدولة.

خالفت سادو بمواقفها الجسورة ضد النظام الاعتقاد القائل بأن فنانات وفناني فرقة وابري ليسوا سوى بوق من أبواق الدولة، وتصدَّرت بصوتها الفني لمواقف سكت عنها كثير من زملائها وزميلاتها في الساحة الفنية دون أن تأبه بعواقب أفعالها.

غنَّتْ سادو عن لوعة الحب وعذوبة العشق ومباهج الحياة، لكنها غنَّـت أيضا للوطن وللشعب، وصدحت بالمسكوت عنه، وبالآلام التي كانت ترهق جسد الأمة الصومالية. فإلى جانب أغنيتها الشهيرة "لاندكروز"؛ فقد غنَّت سادو للشمال حين قصفته طائرات الدولة أواخر الثمانينيات، وغنت لضحايا إطلاق النار العشوائي على جمهور الملعب الرياضي بمقديشو من قِبل الحرس الرئاسي في السادس من يوليو عام 1990 حين صفَّر الجمهور استهجانا لدى رؤية رئيس الدولة محمد سياد بري في الملعب.

عادت سادو إلى مقديشو من مهجرها في أمريكا حيث استقرَّت بعد اندلاع الحرب الأهلية مطلع التسعينيات أملا في المساهمة في عملية إعادة بناء الوطن، يدفعها حسها الوطني الرهيف، وأصبحت نائبة في البرلمان، لكنها اغتيلت في الثالث والعشرين من شهر يوليو عام 2014، لتنتهي بذلك مسيرة حياة ثريَّة لأيقونة فنية انحازت دوما لشعبها في أحلك لياليه، وقدَّمتْ نموذجا فريدا يستحق الدراسة والنقد والاحتفاء.