تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الجمعة 17 مايو 2024

حوارات

المشي بوصفه نشاطًا سياسيًا

29 أبريل, 2024
الصورة
Matthew Beaumont
Share

انخرط الباحث في الأدب الإنجليزي في كلية لندن الجامعية، ماثيو بومونت، في نقاش باعث على التفكير مع جيسكا، عن كتابه الأخير الذي يتناول فانون والعنصرية ولمَ يُعتبر المشي سياسيًّا. 

 

كتب فيلسوف القرن الثامن عشر جان جاك روسو في كتابه "اعترافات[1]"، "لا يمكنني التأمل إلا حين أمشي؛ فعندما أتوقف، أتوقف عن التفكير. يعمل عقلي مع ساقاي وحسب". احتفى نيتشه كذلك، في شبابه، بفضائل المشي. وصرّح بأنه، بجانب موسيقى شومان والأعمال الأدبية لشوبنهاور، أعظم مصدر للترويح عن النفس. تقول الكاتبة الأمريكية ريبيكا سونيت في كتابها "تجوال[2]"، "مشى جيريمي بنثام وجون ستيوارت ميل وآخرون كُثُر مسافات طويلة، وكان لتوماس هوبز عصا للمشي مزودة بمَحبَرة، حتى يتمكن من تدوين أفكاره أثناء السير". كما أن الكاتب الجيبوتي عبد الرحمن وابري استلهم كتابه "لم ترقص أثناء المشي؟"، الذي يتناول العيش بإعاقة، من جولة مع ابنته.

لطالما لعب المشي، في التاريخ البشري،  دورًا أكبر من غرضه العملي، ووفر لبعض من أعظم المفكرين وسيلة للتعمق في أكثر الأسئلة إلحاحًا. بهذا المنحى، يعد المشي كذلك سياسيَّا، بحسب ماثيو بومونت، الباحث في الأدب الإنجليزي في كلية لندن الجامعية، في كتابه "كيف نمشي"، يُرغمنا بومونت على إعادة النظر في المشي، مستندًا على تبحر فانون في سياسيِّ المشي ببشرة سوداء، واعتقاد رايش بالطبيعة المُعرِّية للوقفة والمشية، ورؤية بلوخ عن المشي بوصفه رمزًا للتحرّر، ما يدعونا لإعادة التفكير في فهمنا لما يبدو كنشاط "طبيعي". يحذر بومون من اعتبار المشي أمرًا مفروغًا منه، ويشدد على أن حركتنا تتشكل بفعل عوامل اجتماعية وثقافية ووراثية.

غير أن بحث بومونت يتجاوز الدراسة النزيهة للموضوع، ويحثنا على مجابهة العنصرية والطبقية الكامنة في مجتمعاتنا، عبر عدسة ما يُعدُّ نشاطًا عاديًّا. بصفتي إنسانًا أسودًا من إفريقيا، أعتقد أن هذا الحديث، وهذه الاستبصارات التي شاركها البروفيسور بومونت، تنويري وتمكيني على حد سواء، على اعتبار أن التفاعل مع أعمال مثل "كيف نمشي"، بوسعه الكشف عن الروابط بين أجسادنا وهوياتنا والعالم من حولنا.

 

عبدالعزيز العزيز مهدي: إن أول سؤال يتبادر إلى أذهان القراء وهم يتعمقون في أعمالك الأدبية، والتي تشمل "المشي ليلًا[3]" و"السائر/الماشي[4]" وتحفتك الأخيرة "كيف نمشي"، هو: لمَ المشي؟ لمَ يسوغ المشي، الذي يبدو نشاطًا عاديًّا، دراسة أكاديميّة ونقديّة جادّة؟ لمَ لا يُعتبر المشي نشاطًا محايدًا؟

بومونت: إنه سؤالٌ جيدٌ. إننا نميل إلى أن نعتبر المشي، بوصفه نشاطًا، أمرًا مفروغًا منه، كالتنفس. فنحن نفترض أن هذه الأنشطة "طبيعية". هي بالفعل كذلك، باعتبارها جزءًا أساسيًا مما سمّاه ماركس "كينونة جنسنا[5]" إلا أن الثقافة تتوسطها، ما يعني أنها ليست ببساطة "طبيعية". أشار عالم الأنثروبولوجيا الفرنسي مارسيل موس_ الذي كان فانون أحد معجبيه_ إلى ما سمّاه "تقنيات الجسد"، والتي تتضمن المشي. إن الكيفية التي يمشي بها المرء، تتشكل بالشروط الاجتماعية والثقافية التي يعيشها، بالإضافة إلى جيناته الوراثية. وكما قال موس: "تشكل وضعية الذراعين والأيدي خصوصية اجتماعية، وليست مجرد نتاج لبعض الآليات والترتيبات الفردية والنفسية البحتة بشكل شبه كامل. أنا مهتم بفكرة المشية هذه_ هذا الترتيب لليدين والساقين أثناء المشي_ باعتبارها "خصوصية اجتماعية". ما الذي يمكن أن تخبرنا به هذه الخصوصية عن المجتمع؟

أعتقد أن فانون مهتم بسياسيِّ الوقوف: الجسد السائر، والذي يرتبط في الحقيقة باهتمامه بسياسيِّ التنفس. إن التنفس، كما ذكرت، نشاطٌ طبيعي تتوسطه الثقافة، وبالتالي سياسيُّ. وقد اتضح ذلك مؤخرًا في سياقين؛ الأول، هو جائحة الكورونا. فقد كتب الفيلسوف السياسي الكاميروني أشيل مبيمي_ وهو بالمناسبة قارئٌ ثاقبٌ لفانون_ مقالة مثيرة للاهتمام تتناول هذا الموضوع: "الحق العالمي في التنفس". دعا امبيبي، في هذه المقالة، وهو يفكر في منطق الرأسمالية العرقية، لنقد "كل ما يحكم على غالبية البشرية بتوقفٍ سابق لأوانه عن التنفس، كل ما يهاجم بشكل أساسي الجهاز التنفسي". وبالطبع، استفحل هذا الوضع الاضطهادي، المتفشي في الرأسمالية العرقية بوصفها نظامًا، بصورة كبيرة بواسطة الجائحة. لذا هذا سياقٌ أولٌ مهم. أما السياق الثاني، فهو مقتل جورج فلويد، في عام 2020، حينما جثا شرطيٌّ عنصريٌّ في منيابوليس على رقبته وقتله، بما أن آخر كلمات له، كما هو معروف، كانت "لا أستطيع التنفس"، والتي أصبحت شعارًا لحركة "حياة السود مهمة[6]".

إن كان التنفس سياسيًّا، كما توضح هذه الأحداث المختلفة والمتداخلة، فإن المشي كذلك. لم يكن لفانون، بوصفه طبيبًا نفسيًّا وناشطًا سياسيًّا، اهتمام بما أطلق عليه "التنفس المحتل"_ وهو التنفس في الظروف الاستعمارية_ فحسب، بل بما أفترض أنه مشيٌ محتلٌ. تتشكل الطريقة التي يمشي بها المستعمَرون أو الممَيَّزون عرقيًّا، في المجتمعات الاستعمارية والعنصرية، بالحاجة إلى الدفاع عن أنفسهم، بوعي أو بدونه، من الشرطة أو الجيش المحتل، أو حتى ببساطة من نظام المراقبة الذي يُعد امتدادًا لهذه القوى. يؤكد فانون، بأن الذوات المُستعمَرة تعيش دومًا بعضلات مشدودة، الأمر الذي يطبع الاستعمار على أجسادها، وحركتها المميزة.

عبد العزيز مهدي: لقد أشرت إلى السياسي المتأصل في فعل المشي على نحو بليغ. فمما لا شك فيه أننا البشر كائنات سياسية. كيف تعكس حركتنا وأجسادنا هذه الهوية السياسية وتجسدها؟

بومونت: اسمح لي أن أعرض بإيجاز المزيد من التفاصيل، ولعل أسهل طريقة لذلك هي الاستشهاد بتجربة الكاتب الجامايكي غارنيت كادوقان، الذي كتب مقالة مؤثرة، في 2016، تحت عنوان "المشي ببشرة سوداء[7]. فقد كتب في هذه المقالة شعور الانتقال من جامايكا، حيث لم يدرك ذاته قط وهو يمشي في الشوارع، إلى الولايات المتحدة الأمريكية. أدرك بغتةً، في نيو أورليانز ونيويورك ومدن أخرى، أن المشي نشاطٌ سياسيٌّ مكثفٌ. لم يعد بوسعه اعتبار مجرد وضع الرجل أمام الأخرى، الذي يبدو بسيطًا، أمرًا مفروغًا منه. فبصفته رجًلا أسودًا، كان يُجرَّم بالفعل لممارسته حرية المشي في الشوارع، وكان يُهدَّد ويُهاجَم، ويُعتَقل على ذلك.

عرّف كادوقان في مقالته هذه التجربة باعتبارها "تجربة طفولة[8]"، حيث أدت مخاوفه من ملاحقة الشرطة والقضاء إلى إرجاعه إلى الماضي، وبشكل خاص إلى طفولته المبكرة حيث كان يتعلَم فيها المشي. لماذا؟ لأن المشي أصبح فجأةً، ومرة أخرى، لحظة إدراك ذاتي مؤلم، ونشاط مُجهِد ومحفوف بمخاطر محتملة. يقول كادوقان في مقالته: "بوصفي بالغًا ذو بشرة سوداء، غالبًا ما أعود إلى تلك اللحظة في طفولتي، عندما كنت أتعلم المشي للتو. أكون مرة أخرى في حالة قصوى من التأهب واليقظة."

بحسب كادوقان، تتشيَّؤ[9] الذات السوداء بنظرات المارة  البيض، أو على نحوٍ أكثر خبثًا، بنظرات ممثلي الدولة، وتقنيات المراقبة فيها. ومن ثم، وبأبسط المعاني، لا تُرغَم الذات السوداء على إدراك ذاتها فحسب_ إدراك ذاتي "على نحو معاق"، كما في العبارة العامية الإنجليزية_ بل تُحرَم من فاعليتها وذاتيتها، وتُنبَذ وتصبح ذليلة.

إن فقدان الذاتية هذا، إن حالة الذل هذه، إذا أمكنني التعبير عنها بذلك، منقوشة على الجسد. فعوضًا عن المشي بحرية واسترخاء وثقة، نرى حركة الذات السوداء مقيَّدةٌ ومُثبَّطةٌ، بجانب عضلاتها المشدودة، كما أشار فانون مرارًا.

عبد العزيز مهدي: لا يزال الافتتان بدراسة فرانز فانون قائما، إذ يدرس باحثون مثل حسين آدم فانون بمثابة مُنظِّر سياسي ديمقراطي، بجانب تبحر فاطمة سيك في موضوع "فانون والشَّعر" المثير للاهتمام. يسلط إسهامك الفريد في هذا الطرح_ تحليل سياسيّ الجسد والمشي عبر عدسة فانونية_ ضوءًا جديدًا على هذا المفكر المتميز. كيف يمكننا النظر إلى فانون لا باعتباره مثقفًا متعمقًا فحسب، بل موضوعًا للبحث العلمي كذلك؟

بومونت: كما ألمحتَ، يُعد فانون شخصية معروفة ليس لمجرد أنه ملهم سياسيا، بل لأن كتاباته تستدعي أيضًا تحليلات مفصلة من شتى المناظير التخصصية. بالطبع ثمة خطورة هنا، لأن فانون موضوعٌ لآلاف المقالات والكتب والأطروحات، حيث تؤثر بعضًا منها على الأقل، بقصد أو لا، في إضفاء السمة المحلية أو لا -السياسية عليه. أنا أُدرك أن دراستي الخاصة لفانون وسياسيّ الجسد، والتي تستند بالضرورة على الأبحاث السابقة الرائعة، في أغلب الأحيان، ليست بمنأى عن هذا النقد. وأُدرك أيضًا أنني، بوصفي أبيضًا يكتب عن رواية فانون بشأن اغتراب وتشويه الأجساد المميَّزة عرقيًا، في المجتمعات الإمبريالية والكولونيالية، لا أتحدث انطلاقا من تجربة شخصية. وكما قلت في مقدمة كتابي، مستشهدًا بالناقد نيكولاس ميرزويف، أنا لا أتحدث بلسان تجربة السود، بل ضد مناهضة السود.

لكن آمل أني أقاوم، في جوانب ما، مع ذلك نزع الطابع السياسي لفانون الذي حدث برعاية ما-بعد-البنيوية سابقًا في الثمانينيات والتسعينيات. وهذا، في جزءٍ منه، هدف العودة إلى الجسد، ليس جسد ما-بعد-الحداثيين الشهواني، بل الجسد الكادح. أردتُ أن يمنح الكتاب حس جسدية وجسمانيّة لغة فانون وسياسيّتها. وهذا في جزءٍ منه أيضًا هدف المحاورات التي أقمتها في الكتاب بين فانون ومفكرين آخرين من اليسار، أهمهم الماركسي الألماني إرنست بلوخ، والفرويدي والماركسي النمساوي فيلهلم رايش. ويُعد الأخير مهمًا، على وجه الخصوص، لأن فانون قرأه. أعتقد أن مفهوم "درع الشخصية"[10] الخاص برايش، والذي يتعلق بطريقة تشكُّل النفس والجسد وتشوههما عبر الاغتراب، كان جوهريًّا لفانون، رغم عدم وجود، على حد علمي، من أقام هذا الارتباط من قبلي.

عبد العزيز مهدي: تُبيّن دراستك الدقيقة أن المشي ببشرة سوداء سياسيٌّ بطبيعته. هلا قدمت استبصارًا عن الارتباط البيني للعرق والطبقة في المشي، في عالم يتّسم بالانقسامات المانوية، كما وصفها فانون؟

بومونت: بالتأكيد، الطريقة التي يحمل به المرء جسده في ظل الظروف اليومية للرأسمالية العرقية تتشكل بالطبقة والعرق (بجانب سياسيّ الجندر بالطبع). ولقد أدرك ماركس وإنجلز بنفسيهما هذا الأمر. يحدد ماركس، في "رأس المال"، الأمراض والإعاقات التي تبُثها الرأسمالية الصناعية في أجساد عمّالها، ويشير إلى ما أطلق عليه "الباثولوجيا الصناعية"[11]؛ يُورِد إنجلز في "حالة الطبقة العاملة في انجلترا" العديد منها، والتي تشمل تسطُّح القدم[12] وتورُّم المفاصل[13] ودوالي الأوردة[14].

في اعتقادي، ورث فانون ذلك، لأنه تحدث عن الحاجة إلى "تمديد" الماركسية، وإحدى الطرق التي فعل بها بنفسه ذلك، كانت توسيع وتطوير الاستبصارات الماركسية في الجسد المضطهَد، بالتبحر أساسا في أثر الكولونيالية والرأسمالية العرقية على الجسد. حظي فانون بالتأكيد، بصفته طبيبًا مدرَّبًا، بوضع ذي امتياز لفعل ذلك. فقد ذكر هو أيضًا، على سبيل المثال، دوالي الأوردة في كتابه "بشرة سوداء، أقنعة بيضاء"، حيث هاجم الأطباء الفرنسيين بشدة، لاعتبارهم دوالي الأوردة ببساطة نتاجًا لضعف بنيوي. حاجج فانون خلاف ذلك بأن دوالي الأوردة هو نتاجٌ لظروف الإنتاج التي يُجبَر فيها العمال، المستعمَرون بشكل خاص، على قضاء عشر ساعات على أقدامهم. من المستحيل صرف النظر عن سؤالي العرق والطبقة في نقاش عمل الجسد وتعطُّله.

عبد العزيز مهدي: تُحذرنا مقولة قوية في الثقافة الصومالية من المشي بأطراف مستعارة، حيث تشدد على أهمية الملكية، إذ يقول القول المأثور، "لا يمكنك المشي أكثر من ست خطوات باستخدام أطراف ليست لك". عندما نضع هذا القول بجانب "بشرة سوداء، أقنعة بيضاء" لفانون، وكتابك "كيف نمشي"، بالتحديد من الفصول الأول إلى الرابع، يظهر لنا سؤالٌ: ما الذي يحدث عندما نتخلى عن فاعليتنا ونتبنى أطراف المضطهِد؟ كيف يؤثر فعل التقليد هذا على هويتنا واستقلاليتنا؟

بومونت: ما أروع هذا القول! يعجبني التأكيد فيه على الاستقلالية والفاعلية. وبالفعل، إن تبني أطراف المضطهِد، بتعبيرك، لهو معيق على نحو تناقضي. إن استيعاب منطق المضطهِد في الحركة والجمود أمرٌ مُضِرٌّ سياسيًّا. أتحدث أحيانًا في الكتاب عن "عدم الحركة"[15]، والتي أعني بها أولا "التجميد"[16] الذي تُحدثه الرأسمالية العرقية والكولونيالية في الذين تُغرِّبهم وتستغلهم. وثانيًا هذا النوع من الشلل السياسي الذي يماثل جيشًا سُرِّح و"نُحِّيَ". تُجمِّد الرأسمالية العرقية رعاياها بكلا هاذين المعنيَيْن.

غير أنني أقول، بعكس المقولة التي استشهدت بها، أننا نحتاج في الحقيقة بمعنى ما، للمشي عمومًا، إلى أطراف الآخرين. فكّر بالطفل الذي يتعلم المشي لتوه، والذي يجب أن يستند على أذرع والديه أو أن يمسك بأيديهم، أو بالمسن الذي يحتاج إلى مساعدة بدنية للمشي. ربما في مستوى ما ليس ثمة حرج في فقدان الاستقلالية الذي يترتب على ذلك؛ ربما لا يمكننا المشي أكثر من ستة خطوات سوى باستخدام _أو على الأقل بالاعتماد_ على أطراف ليست لنا. من المحتمل أن هذا الاعتماد المتبادل، من الناحية السياسية، هو أساس التكافل والعمل الجماعي.

عبد العزيز مهدي: أثناء استكشافي لصفحات كتابك، علق في ذهني سؤال: في عالم مُصاب بشتى أشكال الاضطهاد والتجرد من الإنسانية، أيمكن للمشي أن يكون شكلًا من أشكال فض الاستعمار وإزالة الاغتراب؟ وبإعادة صياغة ما قاله ألبير كامو، هل بوسع مجرد المشي بحرية أن يكون أقوى وسيلة لمجابهة عالم لا-حر، وتحويل كل خطوة إلى فعل ثوري؟

بومونت: المشي ليس برنامجًا سياسيًّا في حد ذاته. يعجبني زعم السوريالي أندريه بروتون أن الخطى هي شارة "اليومي الحر"[17]، إلا أن الحقيقة هي أن أي مشي، أكان حازمًا أم إبداعيًّا، محدود على نحو مميت، إلا إذا ارتبط بحركة سياسية أوسع للتحرر. لكن باعتباره جزءًا من حركة كهذه، يمكن أن يكون جذريًّا للغاية. فكّر بالتاريخ الطويل لشعوب المضطهَدين الذين رفضوا أن يظلوا حبيسي الأماكن التي عزلتهم الدولة فيها، بشكل رسمي أو غير رسمي. اتضح أحيانًا أن هذا الرفض انطوى على أفعالٍ ثورية فردية، والتي تُعتبر تعبيرًا عرضيًّا عن عمل ثوري جماعي. 

تذكر ذلك الثائر الوحيد في ميدان تيانانمين، في 1981، الذي مشى ببطولة، في اليوم التالي من مذبحة آلاف المتظاهرين، أمام طابور من الدبابات وسد مسارها. وقف، ثم تقدم مع آخرين، رغم أنه الوحيد الذي امتلك الشجاعة والمخيلة السياسية في تلك اللحظة، عندما كانت الكاميرات تدور، ليجعل نفسه مرئيًا، وبالتالي عرضة للخطر على نحو خاص. ربما علينا، أثناء مشينا اليومي، أن نحاول محاكاة مثل هذا الفعل_ حتى وإن كان في ظروف يُحتمل أن تكون أقل خطورة بكثير_ ونتحدى بذلك شروط الاضطهاد والاغتراب، لكي نحوّل، على حد تعبيرك الرائع، أي خطوة إلى فعل ثوري.

عبد العزيز مهدي: في الختام، اتضح لي وأنا أحضر لهذه المقابلة أنك شغوف للغاية بالمشي. أيمكنني أن اسأل عما إذا كنت تختار المشي حتى إن لم تضطر إلى ذلك؟ وإذا كان كذلك، ما الذي يدفعك لفعل هذا؟

بومونت: نعم، أنا أمشي باستمرار، وأجد الأعذار للمشي قدر المستطاع. يؤثر الأمر بالحد الأدنى على الأجواء والصحة البدنية، وربما أهم ما في الأمر أنه ينشط العقل. أنا مؤمن بشدة بالعلاقة الديناميكية بين المشي والتفكير. المشي فعل حر، لكنه تحريري كذلك. ويلهمنا نيتشه في هذا المنحى، لأنه يعتقد_ بإعادة صياغة ما قاله_ أنه يجب كتابة الفلسفة ذاتها أثناء المشي. ويضيف، "أو حبذا أثناء الرقص". لكن من الصعب الرقص في شوارع لندن، حيث أعيش، دون لفت الأنظار التي تجعل التفكير مستحيلاً! المشي هو انخراط مع العالم في ماديته واجتماعيته، لكنه تحرير للخيال أيضًا. إنه وسيلة لمجابهة عالم لا-حر، على حد تعبيرك الرائع، بقليل من الحرية الفردية.


***

[1] Confessions

[2] Wanderlust

[3] Nightwalking

[4] The Walker

[5] Species Being

[6] Black Lives Matter

[7] Walking While Black

[8] Infantilisation

[9] Objectified

[10] Character Armour

[11] Industrial Pathology

[12] Flattening of the Foot

[13] Swollen Joints

[14] Varicose Veins

[15] Demobilisation

[16] Immobilisation

[17] Free Everyday 

المزيد من الكاتب