الجمعة 22 نوفمبر 2024
في مراسم كبيرةٍ، صباح الـ 25 من فبراير/ شباط، وصل الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون إلى الضاحيّة الشرقية للجزائر العاصمة. بعد رحلةٍ متعرّجةٍ عبر العاصمة التلاليّة، توقّف الوفدُ الرئاسي عند المسجد الكبير للجزائر. ترجّل تبون مرتديّاً قشابيّةً من وبر الإبل (معطف تقليدي يلبس في المناطق الريفيّة في الجزائر)، وتقدم لإزالة الستار عن لوحةٍ باللّوني الأسود والذهبي أمام حشدٍ من كاميراتٍ هائجةٍ مختار بعنايةٍ، ليعلن بذلك رسميّاً تدشين المشروع الدينيّ الضخمٍ.
ليس من الصدفة أنّ المسجد شرع في استقبال العُبّاد في سنةِ انتخاباتٍ، بالرغم من انتهاء الأشغال فيه قبل خمسِ سنواتٍ، حينما أُريد له أن يكون ركناً أساساً في الحملة الانتخابيّة للرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة عام 2019. وذلك قبل الإطاحةِ به، على نحوٍ غير مجيدٍ من طرف الحراك المناهض للحكومة. ومع ذلك، فمن المتواتر سماع بعض الجزائريين يشيرون إلى المسجد الكبير باسم «مسجد بوتفليقة». يأتي المسجد كأكبر مسجدٍ في إفريقيا، والثالث على مستوى العالم مباشرةً خلف المسجدين الأعظمين في الإسلام: المسجد النبوي والمسجد الحرام، بتكلفة بناء في حدود 958 مليون دولارٍ، مع طاقة استيعابٍية تصل إلى 120,000 مصلي، ومنارة بارتفاع 265 متراً تطل على خليج الجزائر العاصمة، وتحتلُّ أفق المدينة.
تعد مثل هذه المشاريع البنائيّة العملاقة، في المنطقة المغاربيّة، تركة لقادة نرجسيين. ففي تونس، شيّد الرئيس السابق زين العابدين بن علي «مسجد العابدين» عام 2003؛ الذي تحوّل اسمه رسميّاً بعد الربيع العربي إلى «مسجد مالك ابن أنس». وعلى ساحل مدينة الدار البيضاء، خلّف الملك الحسن الثاني أثراً مشابهاً وهو المسجد الذي حمل اسمه، وكان الأكبر في إفريقيا، قبل أن يخلعه المسجد الكبير في الجزائر عن عرشه. وتحت حكم الملك الحالي، محمد السادس، سعت المغرب إلى توسيع «دبلوماسيّة المسجد» مستهدفةً تطوير العلاقات الثقافيّة، ومدّ التأثير عبر غرب ووسط إفريقيا. بدأت هذه الاستراتيجيّة مبكّراً، عام 1964، حينما تبرّع الملك الحسن الثاني للسينغال ببناء المسجد الكبير لدكار. وفي الثمانينيات زُيّنت موريتانيا والغابون كلٌّ بمسجدِ الحسن الثاني خاصٍّ به، ورافق مسجد نواكشوط مركزٌ ثقافي مغربي.
شهدت دبلوماسيّة المسجد المغربيّة تسارعاً كبيراً، خلال رمضان العام الجاري، حيث افتتح مسجدان باسم محمد الخامس بشكلٍ متتابعٍ: واحدٌ في كوناكري في الـ 29 من مارس/ أذار، والآخر في أبيدجان في الـ 5 من إبريل/ نسيان. صرّح باه أوري رئيس الوزراء الغيني الذي حضر الافتتاح الكبير، نيابةً عن الجنرال ممادي دومبويا بأنّ «هذه ليست المرة الأولى التي يساهم فيها المغرب، بمبادراتٍ من الملكِ، لبلدنا ببنيةٍ تحتيةٍ وتبرعاتٍ، أو نشاطاتٍ ثقافيّة أخرى من شأنها تعزيز الروابط القديمة، بين ذلك الجزء من شمال إفريقيا وهذا الجزء من غرب إفريقيا». كان تمويل البنايات الجديدة بشكلٍ كاملٍ من المغرب، وضمّت إليها مرافق عديدةٍ؛ من بينها مراكز للتسوق ومكتباتٍ. زُخرفت واجهات المباني من طرف حرفيين تقليديين، وقد أعادوا خلق الأسلوب المعماري المغربي كجزءٍ من محاولة الملك، كما يُختم باه أوري كلامه، أن «ينقش على أرض غرب إفريقيا علامات الثقافة والحضارة المغربيّة».
تمتد هذه الدبلوماسيّة الدينية إلى ما وراء بناء المساجد، لتشمل مبادراتٍ على نحو «معهد محمد الخامس لتكوين الأئمة» الذي يستقبل طلاباً من دولٍ إفريقية عديدة، ويروج لتأويلٍ وسطيٍّ للإسلام. تتأرجح القدرة الاستيعابيّة للمعهد بين 700 إلى 1000 طالبٍ سنويّاً. كما وقع المغرب اتفاقيات أخرى مع دولٍ مثل السينغال، لتكوين أئمتها، بشكلٍ يكاد يكون حصرياً لها. تدّعي الدولة المغربية بأنّها تريد تقوية الروابط الأخوية بين المملكة وشركائها في إفريقيا من خلالٍ استثماراتٍ دينيّة؛ لكن لا يمكن غض الطرف عن حقيقة أنّها تستخدم القوّة الناعمة لتفادي وردعِ التطرف، من خلال تصدير نسخة من الدين أكثر تدجيناً وكياسةً مع الأنظمة في كلّ من المغرب والدول ذات الغالبية المسلمة في غرب إفريقيا.
إذا كانت الدبلوماسيّة الدينية المغربية جزءاً لا يتجزأ من سياستها الخارجيّة، فالدبلوماسيّة الدينية الجزائرية ليست أقلّ سياسويّة، سوى أنّها تتوجه بشكلٍ أكبر إلى الداخل. وعلى نحوٍ أكيد، ليس من قبيل الصدفة أن السلطات الجزائرية عيّنت محمد المأمون القاسمي الحسني رئيساً للمسجد الكبير في العاصمة الجزائر. ترأس هذا الرجل الثمانيني، الذي غدا الوجه المعبّر عن الإسلام الجزائري، «زاوية الهامل» المشهورة في مدينة بو سعادة.
يتمتع شيوخ الزوايا الصوفيون في الجزائر بتأثيرٍ قوي؛ خاصّة في المناطق الريفية في البلد. يتبرع لهم الزوار بشكلٍ دوري، ويزورونهم لممارسة الشعائر، ولتخليد ذكرى شيوخهم. نظراً لأهميتهم عند الجزائريين، فرض الاستعمار الفرنسي قيوداً عليهم، وأغلق عديداً كبيراً من الزوايا. لهذا السبب تعتقد الشخصيات السياسية بأنّ الزوايا جزءٌ أساسي من النسيج الوطني الجزائري، وتشكّل بوصلة أخلاقية رمزية، حتى إن بعضهم يستقبل ويدرب طلاب دينٍ أجانب، إضافةً للطلاب الجزائريين، مما يساهم في تجاوز تأثيرهم حدود الجزائر. يوضّح باحث جزائري فضّل كتم هويته بأنّ «بعض الشيوخ الصوفيين والزوايا تمتلك فروعاً وارتباطات في دولٍ أخرى؛ وعلى نحوٍ خاص في المغرب العربي والساحل. وهذه الشبكات يمكن استخدامها لترويج الروحانية، لتوطين العلاقات بين الجماعات، ولتسهيل التبادلات الثقافيّة والدينيّة، كما يمكنها أن تُوظّف مراكزا للقوة السياسيّة غير الرسميّة».
إنّ الحصول على تزكيةٍ من الزوايا المؤثرة من شأنه، كما يُعتقد، رفع فرص مرشّحٍ رئاسي في الفوز بشكلٍ كبيرٍ. وبناءً على ذلك، أصبح من العادة أن يزور المرشحون الرئاسيون هؤلاء الشيوخ الصوفيين، خلال حملاتهم الانتخابيّة. ففي 2014، مثلا أطلق عبد المجيد تبون حملته الرئاسية، بزيارةٍ لـ «زاوية الشيخ بلكبير» في أدرار جنوب غربِ الجزائر. لقد كان ثالث مرشحٍ يزور زاويةً، في تلميحٍ قصد به «السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات»، لتذكّر كلّ المرشحين بأنّ استخدام أماكن العبادة للحملات الانتخابيّة كان محظوراً. ومع ذلك، قبل شهرٍ واحد من الانتخابات، حصل تبون على تزكيةِ «الاتّحاد الوطني للزوايا». سابقاً، دعمت المنظمة الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة. وفقا للباحث الجزائري «يذهب المرشحون الرئاسيون إلى هنالك لاستجداءِ البركة وللحصول على دعمِ قطاع كبير من المجتمع يتأثر دوماً بخطابات شيوخ الزوايا».
لقد سدد تبون الدين، عندما خصّص في عام 2021 الـ 15 من سبتمبر/ أيلول «يوما وطنيا للإمام». وكما هو ملحوظ، فهذا التاريخ يصادف ذكرى وفاة الشيخ سيدي محمد بلكبير- المتوفى في 15 سبتمبر/ أيلول 2000 -الذي زار تبون زاويته في حملته الانتخابيّة. حتى الآن لم يعلن تبون، بشكلٍ رسمي، ترشحه لرئاسيات سبتمبر/ أيلول 2024، سوى أنّ أي مرشحٍ ينافس على الرئاسة سيحاول، في مرحلةٍ ما، زيارة الزوايا وتطويع الدين سياسيّاً.