الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
قررت الحكومة الصينية، أواخر عام 2017، وبشكل رسمي فرض حظر شمولي على استيراد النفايات الأجنبية، بعدما صار لديها ما يكفي من النفايات المحلية القابلة للتدوير، فهي صاحبة أكبر مطرح للنفايات في العالم؛ مكب جيانغ كونغو في إقليم شانكسي.
اتجهت الأنظار صوب القارة الأفريقية، فهي الوجهة البديلة لأزبال العالم المتقدم، لكن هذه المرة علانية، بعدما كانت الأمور تتم في غطاء من السرية والتكتم بين الحكومات، كما ذهب إلى ذلك عدد من التحقيقات الصحافية، وأكثر من تقرير لهيئات وشبكات مهتمة بقضايا وشؤون البيئة.
توالت التقارير المحذرة من تحويل القارة الأفريقية إلى مطرح لنفايات العالم، مع الارتفاع المهول، كميا ونوعيا، في شحنات النفايات المرسلة من الدول المتقدمة في جميع أصقاع العالم نحو البلاد الأفريقية. لا سيما بعد قرار بكين الحظر النهائي للقمامة، واتجاه دول أخرى مثل: ماليزيا وتايلاند وإندونيسيا... نحو تشديد القيود على هذه التجارة الرائجة، حفاظا على صحة مواطنيها، وصونا لمصالحها القومية.
انتبه الاتحاد الأفريقي (منظمة الوحدة الإفريقية سابقا) مبكرا لهذا الكابوس، بعد تسجيله زيادة مستمرة في النفايات المدفونة في دول القارة، حتى قبل أن تتحفظ دول آسيا على الاستقبال المفتوح لقمامة الغربية، فبادر عام 1991 إلى دفع الدول الأعضاء للتوقيع على اتفاقية باماكو بشأن حظر استيراد النفايات الخطرة داخل القارة، التي دخلت حيز التنفيذ بعد سبعة أعوام، وجاءت بديلا عن اتفاقية بازل لعام 1989، بوضعها قيودا أكثر تشددا بشأن استيراد وطرق دفن النفايات في القارة.
تمثل النفايات الصلبة معضلة عالمية، فقد توقع تقرير للبنك الدولي أن تفضي سياسة التجاهل إلى بلوغها 3,4 مليار طن 2050. كما تعد مثالا آخر لانعدام العدالة في العالم، فالأرقام المسجلة تكشف البون الشاسع بين دول الشمال المتقدم والجنوب الفقير، إذ تنتج الدول مرتفعة الدخل 34 ٪ من نفايات العالم، رغم احتضانها 16 ٪ من سكان العالم. فيما تبقى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، الأقل إنتاجا للنفايات في العالم.
وحتى في المستقبل، يفيد تقرير البنك الدولي بشأن توقعات 2030، أن نفايات منطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط ومعها منطقة إفريقيا جنوب الصحراء "446 مليون طن"، ستظل أقل بكثير من عائد منطقة شرق آسيا والمحيط الهادي من النفايات "602 مليون طن"، وكذا منطقة جنوب آسيا "466 مليون طن"، وقريب جدا من إجمالي ما ستنتجه منطقة أوروبا من نفايات "440 مليون طن".
وترتفع المخاوف أكثر من الثورة التي تشهدها أفريقيا في النمو الحضري، فهي تسجل واحدا من أسرع معدلات نمو السكان الحضريين في العالم (3,5 ٪ سنويا)، مع توقعات ببلوغ سكان المناطق الحضرية نسبة 68 ٪ بحلول عام 2050. ما يثير القلق بشأن توليد النفايات في المستقبل، فالنمو السكاني والزيادة في نسبة التحضر السريع وتنامي الطبقة المتوسطة وتغيير أنماط الإنتاج وعادات الاستهلاك... من شأنها المساهمة في توليد النفايات في أفريقيا.
تمثل النفايات الإلكترونية خطرا جديدا يهدد أفريقيا، مع إصرار الشركات الكبرى، في تناغم مع منطق الرأسمالية، على اعتماد قاعدة التقادم المقصود أو المخطط له، أي برمجة مسبقة للعمر التشغيلي للآلة أو الجهاز، إذ يتوقع أن تتحول النفايات الإلكترونية، إلى واحدة من أسرع النفايات البشرية نموا على الصعيد العالمي.
قفز حجم النفايات الإلكترونية من 53 مليون طن، عام 2019، إلى 58 مليون طن، عام 2021، فيما لم تعط عملية التدوير، وفقا للإحصائيات الرسمية، سوى نسبة 17 ٪، مع توقعات ببلوغها نهاية العقد الجاري 74 مليون طن. بذلك تجاوز كمية هذه النفايات عام 2021، حسب تقرير منتدى النفايات الالكترونية والكهربائية الدولي، حجم سور الصين الصين العظيم، تمثل الهواتف النقالة القديمة فيها نسبة 12 ٪. ما دفع منظمة الصحة العالمية إلى إصدار تقريرها التاريخي الأول، في يونيو/ حزيران 2021، للتحذير من أخطار النفايات الالكترونية الحادة على صحة الأطفال.
على غرار النفايات العادية، لا تنتج أفريقيا في المتوسط، حسب تقرير النفايات الالكترونية العالمية 2024، سوى 2,5 كلغ من النفايات الإلكترونية للفرد، وهو رقم أدنى من المعدل العالمي، مقابل 17,6 كلغ للإنسان الأوروبي، و14,1 كلغ للأمريكي. لكن ذلك لم يبعد عنها جبالا من النفايات المتراكمة في ضواحي المدن الكبرى، كما هو الحال مع مكب أغبوغبلوشي في أكرا، عاصمة غانا التي أضحت أكبر مستورد للنفايات الكهربائية والإلكترونية، بأزيد من 150 ألف طن سنويا.
لا يقتصر الأمر على غانا لوحدها، فالكثير من الدول الأفريقية في الشمال (المغرب ومصر وموريتانيا...) والغرب (نيجيريا والكونغو والبنين...) والشرق أيضا (إثيوبيا وتنزانيا وموزمبيق...) تتلقى دفعات متباينة، كميا ونوعيا، من قمامة الدول المتقدمة، فشهر غشت/ أي الماضي تفجر هذا النقاش من جديد في المغرب بعد قرار الحكومة استيراد أزيد من مليوني طن من أزبال خمسة دول أوروبية (فرنسا وإسبانيا وبريطانيا والسويد والنرويج)، لغايات صناعية، فالحكومة المغربية تتحدث عن "استيراد مثل هذه النفايات لاستعمالها في الصناعات التحويلية".
تفيد تقارير أن تكلفة التخلص من طن واحد من النفايات الخطرة في إحدى البلدان الأفريقية لا يكلف الدول الغنية سوى 2,5 دولار، فيما يتجاوز سعر العملية أكثر من 250 دولار في أوروبا، بسبب ارتفاع معايير الأمان البيئي، ما يعد إغراء للدول الأوروبية لتصدير نفاياتها نحو أفريقيا التي تتجه لتصبح سلة قمامة العالم بلا منازع.
خاصة بعد ازدهار سوق تدوير النفايات الإلكترونية على الصعيد العالمي، حيث بلغت قيمة هذه السوق عام 2020 ما قدره 383 مليار دولار، وسط توقعات بنموه بشكل أكبر حتى عام 2027. مثل هذا الازدهار فرصة اقتصادية جديدة، داخل عدد من دول القارة، لا سميا في إفريقيا جنوب الصحراء، ما دفعها نحو مزيد من الاستيراد، فقيمة المواد الخام المستخرجة من هذه النفايات بلغت، عام 2019، نحو 3,2 مليار دولار.
تفيد الأرقام بأن حجم سوق إدارة النفايات في أفريقيا، خلال عام 2024، يقدر بنحو 22 مليار دولار أمريكي، مع توقعات ببلوغه 28 مليار دولار بحلول عام 2029. تبقى هذه الأرقام ضعيفة جدا بسبب تدني معدلات التدوير في القارة "0,1 ٪"، مقارنة بالقارتين الآسيوية "11,7 ٪" والأمريكية "9,4 ٪".
تمثل نفايات العالم المتقدمة فرصة مثالية للأفارقة بمقدورهم استثمارها متى توفر الإدارة الحقيقية لذلك، فتحقيق صحفي عن مطرح أغبوغبلوشي، أحد أكثر الأماكن تلوثا بالنفايات الإلكترونية في العالم، يؤكد أنه صار مورد عيش لأكثر من ستة آلاف عامل بشكل مباشر، ونحو 1500 بطريقة غير مباشرة. وتكسب غانا من ورائه عائدات سنوية تراوح ما بين 100 و260 مليون دولار من النفايات الإلكترونية.
تسجل هذه الأرقام في ظل عشوائية مطلقة تطبع العمل هناك، ما يفيد بأن مزيدا من التنظيم وحسن التدبير ستجعل من تدوير النفايات تجارة رائدة في القارة، فلدى الأفارقة بحسب شهادة عامل في مجال التدوير، "خبرة في إطالة دورات حياة المنتجات، وفي إصلاحها، وإلى حد ما في إعادة التدوير أيضا. إذا العقليات موجودة بالفعل، لكن الأدوات اللازمة غير متاحة، ولا سميا بالنسبة لهذا النوع من النفايات".
يكفي أن نذكر، حسب إفادات خاصة، بأن النفايات الإلكترونية مثلا تحتوي على معادن وعناصر قيمة ونفسية، فالخبراء يتحدثون عن إمكانية استخراج 300 غرام من الذهب من طن واحد من الهواتف القديمة. وفي رقم أكثر إغراء نشير إلى أن العالم تخلص عام 2022 من 62 مليون طن من الهواتف النقالة، مع توقعات بزيادة الكمية بمقدار الثلث بحلول عام 2030.
سوق النفايات في تزايد، ومعها يكبر حجم سوق التدوير، ما يفرض على الحكومات الأفريقية الاستثمار الذكي في هذا المجال، بمبادرات ومشاريع حكومية تنظم القطاع، بدلا من الصمت حيال ظاهرة استيراد الموت للشعوب، بإقرار اتفاقيات وقوانين تخرج ما يحدث في الكواليس من تجارة سرية إلى العلن والأَضواء. بذلك تستوعب قطاعا واعد (التدوير) في الاقتصادي، وتساهم بالتعبية في حماية البيئة المحلية. وقبل ذلك كله تنتصر على عنصرية الغرب ضد إفريقيا حتى بعد نهاية الاستعمار، فما تشهده اليوم يستحق وصف "العنصرية البيئية" ضد الأفارقة، فلا يعقل أن تتحمل الدول الأفريقية في القرن 21 تبعات رفاهية الدول الاستعمارية، كما تحملت في القرنين السابقين تكلفة تقدمها الصناعي والتقني.