الجمعة 22 نوفمبر 2024
اعتبرت باريس جمهورية تشاد عمودها الفقري في وسط إفريقيا نظرا لموقعها الجغرافي، وامتلاكها لثروات معدنية، لذا بقيت تحت سيطرتها الكاملة حتى حين اختلت الموازين، وتغيرت سياسات دول إفريقية عديدة، وارتفعت الأصوات التي تنادي بمغادرة فرنسا للأراضي الإفريقية. أمور كثيرة تغيرت في الساحل، لكن تشاد بقيت تابعة ومخلصة للفرنسيين، الذين لجؤوا إليها بعد طردهم من مالي والنيجر.
بدأ الوضع في التغير مع وصول محمد إدريس ديبي إلى السلطة، في مايو/ أيار 2024، وإن كانت العلاقات التشادية الفرنسية جيدة أثناء الفترة الانتقالية، إلا أنها شهدت توترات وتقلبات جديدة، عقب فوز محمد إدريس ديبي بنسبة 61% من إجمالي الأصوات في الانتخابات الرئاسية.
من المعروف أن المجلس العسكري الانتقالي الذي ترأسه محمد إدريس ديبي، في الفترة الانتقالية، وعد فرنسا بعدم خوض أعضاء المجلس الانتخابات الرئاسية، وهو ما أكده محمد إدريس في خطاباته، مرددا "أنا لا أريد السلطة، نحن هنا من أجل إيصال البلاد إلى بر الأمان عقب وفاة المرشال". وهو نفس الخطاب الذي أكده الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، حين قال: "نطمئنكم بعدم ترشح أعضاء المجلس العسكري في الانتخابات الرئاسية".
في يناير/ كانون الثاني عام 2024، وقبل أربعة أشهر على موعد الانتخابات الرئاسية، زار الرئيس الانتقالي محمد إدريس ديبي موسكو، وقابل الرئيس فلاديمير بوتين، وصرح في الكرملين بأن "تشاد هي بلاد حليفة لفرنسا، لكنها بلاد شقيقة لروسيا". وعلق بوتين على ذلك، بالتأكيد على أن "موسكو سوف تساعد تشاد في استقرار الوضع هناك".
أعلن الجنرال محمد إدريس ديبي، فور عودته من موسكو، ترشحه للانتخابات الرئاسية. ما يجعل التقارب التشادي الروسي ورقة ضغط بيد حكومة محمد إدريس ديبي ضد فرنسا، في أعقاب برود العلاقة التشادية مع الإليزيه، بعد اتفاق فرنسا مع المجلس الانتقالي الذي قاده محمد على عدم دخول أعضائه في الانتخابات. لكن ذلك لم يحدث، ما جعل ماكرون يشعر بأنه خدع من قبل العسكر. وقد عبّرت فرنسا عن استيائها، من خلال غياب الرئيس الفرنسي عن حفل تنصيب الرئيس التشادي، كما جرت العادة. وفي رسالة واضحة عن الانزعاج، اكتفت بتمثيل ضعيف، حين أرسلت الوزير المنتدب المكلف بالعلاقات مع البرلمان.
تدرك الحكومة التشادية أن فرنسا تمر بمرحلة صعبة، فقدت خلالها العديد من دول الساحل، ولا تريد التفريط في تشاد، وتستغل هذا التشبث لتقوية موقفها، وعرض مطالبها، مدركة أن زمن السيطرة الفرنسية الكاملة قد ولّى، وأن باريس لم تعد مهيمنة، وغير قادرة على تغيير الرئيس متى ما أرادت ذلك.
يخيف التقارب الروسي التشادي فرنسا، التي فقدت سيطرتها على دول كثيرة في الساحل، وبقيت تشاد البلد الوحيد الذي يسيطر عليه الفرنسيون، حيث يحتفظون بثلاث قواعد عسكرية. مبدئيا، لا تريد الحكومة الجديدة قطع علاقاتها مع فرنسا، واستبدالها بروسيا، كما يروّج البعض. لكنها تلعب أوراقها في اتجاهين، فهي تغري روسيا بحصولها على مكانة، في الوقت الذي تظهر لفرنسا أن البعبع لا يسكن بعيدا.
عوضا عن دفع الحكومة الفرنسية إلى توفير المزيد من الدعم المادي والمعنوي، فإن ورقة الضغط هذه تعطي آمالاً للروس الذين لا يمكن أن تعاديهم أو تقطع عنها الجسر، حتى لا يمولوا أول حركة تمرد تظهر في إحدى الحدود التي تتواجد فيها قوات فاغنر، خاصة السودان وليبيا أو حتى النيجر وأفريقيا الوسطى.
عقب مقتل رئيس الجمهورية إدريس ديبي، قام وزير الدفاع التشادي السابق داود يحي إبراهيم بزيارة إلى روسيا، في يونيو 2021، التقى خلالها نائب وزير الدفاع الروسي، العقيد ألكسندر فومين، وناقشا سبل تحديث وتسليح الجيش التشادي، وظهرت تسريبات، ذلك الوقت، حول نية رئيس الفترة الانتقالية الفريق أول محمد إدريس ديبي زيارة روسيا. لكن موقف الإدارة الفرنسية القوي، ودعمها للسلطات الانتقالية، غير كثيراً من المجريات. إضافة إلى أن الحكومة تحدثت عن تحديث للآليات العسكرية وتطوير الترسانة، في مقابلة لوزير الدفاع التشادي السابق داوود يحيى مع نظيره الروسي، في مايو 2023، علما أن 90٪ من السلاح في تشاد هو سلاح روسي الصنع.
تقترب الحكومة الجديدة من روسيا، أخذا بعين الاعتبار التواجد الروسي في الجوار، كما تدري أنها ما زالت هشّة، وليست جاهزة لمواجهة تقلبات جديدة. هذا، ولا تزال تشعر بالقلق من الحركات المسلحة النشيطة بالمنطقة، وأكثرها قوة "جبهة الوفاق من أجل التغيير" المعروفة بFACT، والتي مات الرئيس الراحل إدريس ديبي في معارك لمنعها من التقدم. لذلك، ترى الحكومة أن أفضل خيار يبقى منح الروس بعض العقود في المناجم، وبيع السلاح والسماح لهم من الاقتراب. لأن وجود روسيا بقواتها في دول الجوار، مع عدم امتلاكها لمصالح في تشاد، يجعلها تدعم أي تمرد أو ثورة، وهي سيناريوهات تحدث كثيرا في إفريقيا.
كانت ردة فعل فرنسا على توطيد تشاد لعلاقاتها مع روسيا متوقعة، لكن لا أحد إعتقد أن الأمر سيتخذ شكل عملية ابتزاز. ففي الثاني من يوليو/ تموز 2024، فتح مكتب المدعي الوطني المالي في فرنسا تحقيقا تمهيديا ضد الرئيس التشادي، بتهمة "اختلاس أموال عامة". وذلك على خلفية تحقيق نشرته صحيفة "ميديا بارت"، توصل إلى أن رئيس الجمهورية التشادية أنفق 900 ألف يورو في شراء الملابس الفاخرة والبدلات. هذه الأموال دفعتها شركة غامضة، تحمل اسم "MHK full business"، عبر حساب مصرفي في بنك شاري التجاري. واضح أن الدعوى مجرد ابتزاز وضغط على الرئيس، من باريس المشهورة باستخدامها الملفات السوداء، ضد من يخالفها من الرؤساء في إفريقيا.
تتحدث المصادر، إلى جانب الضغط، عن زيارة جديدة متوقعة، في القادم من الأيام، لجان ماري بوكيل؛ المسؤول الخاص للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الساحل، الذي زار أنجمينا في السابع من مارس/ آذار الماضي، من أجل تعزيز وجود القوات الفرنسية، ومنع محمد إدريس من تقوية علاقاته مع روسيا، لكن مهمته فشلت. وفي الكواليس حديث عن ترتيبات لزيارة الرئيس محمد إدريس باريس، من أجل مناقشة العلاقات بين تشاد وفرنسا.
يرى أحمد يعقوب دابيو، مدير مركز الدراسات للتنمية ومحاربة التطرف CEDPE، أن الحكومة التشادية تفتقد إلى سياسة خارجية محددة، وما تقوم به في الأشهر الأخيرة ليس سوى عملية تخبط. من جهته، يعتقد إسماعيل طاهر؛ الباحث المتخصص في شؤون الساحل والمحاضر بجامعة أنجمينا، بأن "البرود في العلاقات بين تشاد وفرنسا يعود إلى ضعف الموقف الفرنسي في إفريقيا، بعد طرد جيوشها من بعض الدول. بالإضافة إلى انتشار خصمها الروسي بالمنطقة". وأضاف بأن "تشاد تشعر بأهميتها بالنسبة لفرنسا، وعليه لا تنصاع لها في بعض الأمور، مثل ما حاولت فرنسا فرضه في الفترة الانتقالية".
والجدير بالذكر أن تشاد رفضت أن تصبح العصا التي تضرب بها فرنسا، بعض الأنظمة العاصية لها، كما كانت تفعل في عهد الراحل إدريس ديبي، فحكومة محمد إدريس ديبي رفضت التدخل في النيجر، عقب الانقلاب على محمد بازوم الذي كان مقربا لها، ولفرنسا التي طالبت السلطات التشادية بالتدخل، لكنها رأت أن ذلك ليس في مصلحتها.
من الواضح للمتابع أن ثمة تغيرات كبرى حدثت في العلاقة بين فرنسا وتشاد، ولا شيء يضمن مستقبل هذه العلاقة، ما لم ترضخ فرنسا لكل طلبات الحكومة التشادية، فالرئيس الجديد ليس كوالده، فهو لا يثق بالفرنسيين، وهذا ما أكده في كتاب عبارة عن سيرة ذاتية، حمل عنوان "من بدوي إلى رئيس".
عقب فوزه في الانتخابات الرئاسية، حضر نائب وزير الدفاع الروسي تنصيبه في ظل غياب الرئيس الفرنسي، ولحق ذلك باختيار السفير التشادي في الصين رئيسا للوزراء، ومن ثم توقيع اتفاقية وصل بموجبها جنود من المجر إلى تشاد، وصل الجنود المجريين، وبلغ عددهم قرابة 200 من أجل دعم تشاد في محاربة الإرهاب والهجرة. لكن المراقبين يقولون بأن الحكومة أتت بهم لتوازن الكفة مع فرنسا، ولكي تخصص تدريبا لقوة خاصة بدأت تتشكّل، منذ وصول محمد إدريس إلى السلطة.
هناك تواجد إماراتي قوي ودعم كبير لتشاد، ففي الخامس من يوليو/تموز استلم رئيس الوزراء ألا ماي هالينا معونة مقدمة من دولة الإمارات العربية المتحدة، متمثلة في 21 سيارة إطفاء، و40 حافلة لنقل الطلاب، و45 سيارة إسعاف. وشهدت عملية التسليم، في ميدان الأمة، حضور عدد من الوزراء، والسفير الإماراتي لدى البلاد. كما تشهد البلاد تحركات قطرية لتقوية العلاقات، خاصة بعد نجاحها في اتفاقية الدوحة التي أدت إلى دخول البلاد في حوار وطني، وأنهيت السلسلة بزيارة لافروف إلى تشاد.
قابل السفير الصيني وانغ زنينغ رئيس وزراء تشاد ألاماي ألينا، في السابع من يونيو/ تموز الماضي، ووقع الطرفان على اتفاقيات جديدة في الزراعة والتعليم العالي، وعبّر الوزير الأول عن بداية جديدة في علاقات الدولتين.
كل هذه إشارات جديدة عن مستقبل العلاقات التشادية الفرنسية. لكن واقعيا، وحتى الآن، فرنسا لا تزال مسيطرة؛ لها عقود طويلة الأمد، وقواعد عسكرية في كل من العاصمة أنجمينا ومدينة فايا على تخوم الصحراء وفي أبشة شرقي البلاد، فيها قرابة ألف جندي فرنسي، (لكنها تعتزم خفض هذا العدد إلى 300 جندي بحسب مصادر صحفية فرنسية، كما أكد ذلك مبعوث الرئيس الفرنسي الخاص إلى أفريقيا جان ماري بوكيل، خلال لقائه رئيس الفترة الانتقالية في 07 مارس 2024)، وهي بنفسها تحتاج إلى حليفتها الوحيدة في المنطقة، والتي لها موقع استراتيجي، وجيش هو الأقوى هناك.
واضح أن فرنسا سوف تجاري التغيرات الجديدة، حتى لا تغضب الرئيس الشاب، ليرتمي في أحضان الدب الروسي الواقف بالجوار. لذا سوف تعمد إلى وقف هذه الاستفزازات، كي لا ينزعج ابنها الوفي، ناهيك عن امتلاكها ورقة الدعم المالي الذي تحتاجه الحكومة التشادية أكثر من أي شيء آخر.