تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الأربعاء 23 أكتوبر 2024

رأي

حين يتعذر على الأمة أن تكون دولة.. حلم صوماليلاند بالاستقلال

22 مايو, 2024
الصورة
somalialnd
نساء من صوماليلاند في احتفالات عيد الاستقلال.
Share

لا يخالطك شك، عندما تكون في صوماليلاند، بأنّك في دولةٍ حقيقيّة، فالمكان، علاوةً على ذلك، يمتلك كلّ العناصر التي تشكّل دولةً. عندما وصلت إلى المطار تحقّق ضابط جمارك ببزة صوماليلانديّة من تأشيرتي التي أصدرتها قنصليّة صوماليلاندفي واشنطن. وفي المطار يرفرف علم صوماليلاند. وعلى امتداد إقامتي، دفعت بالشيلنغ الصوماليلاندي لسائقي سيارات الأجرة ذوات الترقيم الصوماليلاندي، في زياراتي لمكاتب وزراء الحكومة الصوماليلانديّة. ومع ذلك، وبحسب وزارة الخارجيّة الأمريكيّة والأمم المتّحدة والاتحاد الإفريقي وكلّ الحكومات على وجه البسيطة، فإنّي لم أكن في صوماليلاند، تلك الدولة الفقيرة، ولكن النشطة والمستقرّة في القرن الإفريقي، بل كنت في الصومال.

وحتّى بين الدول غير المعترف بها، تبقى صوماليلاند حالة خاصّة، وهذا لأنها مستقلّة على نحوٍ كلي، ولكنها معزولة سياسيّاً تماماً. على النقيض من جنوب السودان قبل استقلالها، لا تتأسس مطالب صوماليلاند في دولةٍ على إعادة رسم الحدود التي أقرّها الاستعمار، وإنّما على تفعيلها. وعلى عكس تايوان، فإن صوماليلاند ليست مقيّدة بدولة أقوى وأثرى، بل بدولة أضعف وأفقر. وعلى عكس فلسطين، ليست قضيّة الاستقلال في صوماليلاند مطلباً جماهيريّاً يتبناه الناشطون حول العالم.

لقد وصف الصحفي اچْرام وود أماكن مثل صوماليلاند بـ«عالم النسيان»: كيانات «تبدأ بالتصرف على أساس أنّها دول حقيقيّة ثمّ تأمل أن تصبح كذلك». والذي يميّز دولاً «حقيقية» عن دول «تدّعي» لنفسها الشرعيّة، هو بكلّ بساطة الاعتراف من دول أخرى. فلا يوجد في العلاقات الدوليّة سلطة قانونية مطلقة، يمكنها تحديد من  هي الدولة الحقيقية ومن ليس كذلك، ثمّ إنّ الاختلافات في الرأي حول المسألة شائعةٌ. إذن، ما يفرّق بين صوماليلاند والسويد هو كون الأخيرة معترف بها من طرف دول العالم.

قد تكون حالة الدولة (statehood) مفهوماً قانونياً، ولكن تحيينه عمليةٌ سياسيّة بحثة، لدرجة أنّ المسؤولين الخارجيين يعترفون بصوماليلاند تمامًا، فهم على نحوٍ عام متعاطفون مع تاريخها، ويكِنّون إعجاباً بإنجازاتها الأخيرة. إن التحدي الذي تواجهه صوماليلاند ليس عداء العالم لها، وإنّما لا مبالاته بها. وضعها الحالي يجيب عن السؤال: ماذا سيحدث عندما تخلق دولةً جديدةً ولا أحد يلاحظ؟

تبقى صوماليلاند حالة خاصّة، وهذا لأنها مستقلّة على نحوٍ كلي، ولكنها معزولة سياسيّاً تماماً. على النقيض من جنوب السودان قبل استقلالها، لا تتأسس مطالب صوماليلاند في دولةٍ على إعادة رسم الحدود التي أقرّها الاستعمار، وإنّما على تفعيلها. وعلى عكس تايوان، فإن صوماليلاند ليست مقيّدة بدولة أقوى وأثرى، بل بدولة أضعف وأفقر. وعلى عكس فلسطين، ليست قضيّة الاستقلال في صوماليلاند مطلباً جماهيريّاً يتبناه الناشطون حول العالم.

من السّهل الوصول إلى صوماليلاند، فرحلات الطيران مستمرّة إلى العاصمة هيرجيسا من دبي وأديس أبابا. تبدو العاصمة –وهي مدينة من البيوت الإسمنتيّة والطرق المملوءة بالحفر والمنتشرة على نحوٍ غير منظّمٍ– مغطّاةً بغشاوة رقيقة من الغبار، وعادةً ما تكون جافّة جدًّا، على الرغم من أن الأمطار الغزيرة التي تعرفها البلاد، بشكلٍ دوري، في موسم الخريف، تترك أغلب الطرق غير المعبّدة رطبةً ومبللة. 

تُعَدّ الإبل أساس المعاش التقليدي، ومصدراً للرزق وعملة عند الرعاة الصوماليين، بل حتّى في المدينة الكبيرة تتكرر رؤيتها متورطةً في الزحمة الخانقة التي تعرفها المدينة. تزدحم أكشاك الطعام بأطباقٍ هائلة، يتصاعد بخارها من لحم الإبل–وهو ليس سيئاً– ولبنها الخاثِر كثيف الرغوة (وهو بالنسبة إليّ يسبب الغثيان).

ومن الأكشاك الأخرى، يوزّع الصيارفة كتلاً متّسخة من أوراق الشلن، مثبت بعضها إلى بعضٍ برباط مطاطي. يصرف الدولار، خلال زيارتي، بـ 7000 شلن مع الانتباه إلى عدم إمكانيّة تبديله في أي مكانٍ خارج صوماليلاند، لذا لا أفهم تحديداً كيف يضبط سعر الصرف هنا؟ حينما تريد دفع ثمنَ شيءٍ من متجرٍ بالشلن، من الأفضل، ما لم تكن مجرباً، تمرير واحدة من تلك الحزَم للبائع وتركه يأخذ حاجته منها. يدفع أغلب الناس حالياً مقابل البضائع الأساسيّة والخدمات بتحويل أرصدة الهاتف الخلوي.

إذا حاولت حجز فندقٍ على الإنترنت في صوماليلاند من الولايات المتحدة من المحتمل إحالتك على تنبيه يقول: «تحذر وزارة الخارجيّة الأمريكية مواطني الولايات المتحدة من السفر إلى الصومال نظراً إلى التهديدات التي ما تزال تشكّلها حركة الشباب الإرهابيّة المرتبطة بالقاعدة». ولكن بمجرد وصولك إلى هنالك ستكتشف على الفور بأنّ هذه التحذيرات غير ضروريّة، فهرجيسا واحدة من أكثر المدن الكبيرة أمناً في إفريقيا، ولا يوجد شيءٌ، يعكّر صفو المتجوّل، باستثناء التلوّث والزحمة. بيد أنّ الأجانب الذين يخرجون من العاصمة مطالبون بتوظيف حارس مسلّح، وذلك على إثر اغتيال أربعة عملاء إغاثةٍ أجانب، من طرف قطّاع طرقٍ عام 2004. ابتداءً من 2008، وبعد الهجمات الانتحارية على القصر الرئاسي والقنصلية الإثيوبيّة، لم يحدث أي نشاطٍ إرهابي في صوماليلاند. وبالمقارنة مع الجنوب، فإنّ سواحل صوماليلاند خالية تماماً من نشاطات القراصنة.

أبرز معلمٍ فني عمومي لهرجيسا هو نصب تذكاري حربي، يتمثّل في طائرة حربيّة ضئيلة من طراز ميغ –وهي طائرة حقيقيّة– أسقطت عام 1988، وقد نُصبت الآن على قاعدةٍ بجوار أهم شارع في المدينة. سيخبرك الهرجيسون، بشيءٍ من السخرية الممزوج بالفخرِ، بأنّ مدينتهم واحدةٌ من الأماكن القليلة في العالم التي تعرضت لقصفٍ من طائرات حلّقت من الأماكن نفسها. إن هذا الحدث جزء من سلسلة حوادث أغلبها تراجيدي، أدت إلى المعضلة الغريبة الحالية التي تعيشها البلاد.

كما يشير اسما البلدين، توجد اختلافات قليلة على المستوى الإثنيّ واللّغوي بين شعبي الصومال والصوماليلاند. يدين الكيان الذي يسمي نفسه اليوم جمهورية صوماليلاند بوجوده لعاملين أساسين: القربُ من اليمن، ووفرة الضّأَنِ. في نهايات القرن التاسع عشر، تورطت بريطانيا (بدعمٍ من إيطاليا) وفرنسا (بدعمٍ من روسيا) في صراعٍ للسيطرة على النيل، وكمحاولةٍ لمواجهة التأثير الفرنسي، والحفاظ على إمدادات حاميتها في مدينة عدن اليمنيّة بلحم الضأن، عقدت بريطانيا مجموعة تحالفات مع قبائلَ في شمال الصومال. 

كانت صوماليلاند، بحسب المؤرخ يُوَان لُويس، «من حيث حجمها وأهمّيتها، من أقلّ ممتلكات بريطانيا سخاءً». ومع ذلك، يمكن المحاججة بأنّ وضعها الهامشي كمستعمرة أفادها على المدى البعيد. في حين اعتبرت بريطانيا صوماليلاند مكاناً منعزلاً، وتُركت على أساس هذا لتنظّم نفسها من خلال البنيّة العشائريّة القائمة، رأت إيطاليا في الصومال ركناً أساساً في مطامحها، التي لم تعمّر كثيراً، لبناء إمبراطورية شمال–إفريقيّة تضم، أيضاً، ليبيا الحالية وأجزاء من مصرَ. 

لا ينبغي لنا أن نتفاجأ اليوم، حين نعلم أنّ الأقاليم التي أحاطت بها أهداف استمعارية لبناء دولةٍ هي الأقلّ استقراراً. نتوفر على أدلة من دراسات عن مناطق في الهند وأجزاء أخرى من إفريقيا، تساند فكرة أن الدول التي كان تأثير الاستعمار فيها ضئيلاً غدت أفضلَ على المدى البعيد. 

غالباً، ما سيذكرك الصوماليلانديون، بأن بلادهم في الماضي كانت مستقلّة، ومعترفاً بها على نحوٍ كامل من المجتمع الدولي، وحتى من الأمم المتحدة. غير أن هذه الفترة السعيدة استمرّت أقل من أسبوعٍ، ففي 26 من يونيو/ حزيران عام 1960، حصلت المحمية السابقة صوماليلاند على استقلالها الكامل من الحكم البريطاني، واعترفت بها 35 دولة حول العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية.

 في اليوم التالي، أصدر المجلس التشريعي قانونَ موافقةٍ على الاتّحاد مع الجنوب. ثم استقلت في 1 يوليو /تموز الصومال عن إيطاليا، واتحد البلدان في كيانٍ واحد. ذلك القرار الذي لا تزال صوماليلاند تأسف عليه حتّى الآن.

أبرز معلمٍ فني عمومي لهرجيسا هو نصب تذكاري حربي، يتمثّل في طائرة حربيّة ضئيلة من طراز ميغ –وهي طائرة حقيقيّة– أسقطت عام 1988، وقد نُصبت الآن على قاعدةٍ بجوار أهم شارع في المدينة. سيخبرك الهرجيسون، بشيءٍ من السخرية الممزوج بالفخرِ، بأنّ مدينتهم واحدةٌ من الأماكن القليلة في العالم التي تعرضت لقصفٍ من طائرات حلّقت من الأماكن نفسها. إن هذا الحدث جزء من سلسلة حوادث أغلبها تراجيدي، أدت إلى المعضلة الغريبة الحالية التي تعيشها البلاد.

ظهرت الصعوبات مباشرة؛ فبعد سنة من الاستقلال سيرفض الشماليون التصويت على دستورٍ جديدٍ. إنّ الأمور ستزداد سوءاً عام 1969، بعد انقلابٍ أتى على ظهره الجنرال سياد بري إلى السلطة. شحذت التوترات في المجتمع الصوماليلاندي مع إطالة فترة حكم الجنرال بري، فمنذ الاستقلال سعى القادة في الصومال وصوماليلاند إلى إحاطة أفرادٍ من عشائرهم وبطونهم بالرعاية. يوجد في الصومال ست عشائر رئيسة والعشرات من البطون. الأغلبية التي تعيش حالياً في صوماليلاند تنحدر من التفرعات المتعددة لعشيرة «إسحاق». أمّا الجنوب فهو أكثر تنوعاً. ربما اعتنق بري عقيدة «الاشتراكيّة العلمية»، خليطٌ من التصورات الحوكميّة الفظيعة المستوردة من الصين وكوريا الشماليّة ومصر عبد الناصر، ولكنّه لم يفرط في القومية الإثنيّة، بتفضيله لعشيرته «دارود» على غيرها، مما ساهم في حدّة الاستياء عند الإسحاقيين الشماليين. 

ففي الثمانينيات سيتحدى حكم مقديشو، رغم الدعم الذي حصل عليه بري ونظامه العسكري المتشدد، جماعةٌ متمردة من الإسحاقيين الشماليين عرفوا، على نحوٍ مربكٍ بعض الشيء، بـ «الحركة الوطنيّة الصومالية». زاد القمع الذي حدث بعد ذلك، في رسوخ التصور القائل بأنّ الشمال منطقة تحت الاحتلال، وصل التوتر ذروته مع حربٍ أهلية بين الحركة الوطنيّة والحكومة المركزية، في أواخر الثمانينات، خلفت الآلاف من القتلى والملايين من النازحين. في 19 من مايو/ آيار عام 1991، أعلنت الحركة الوطنيّة بأن المنطقة تسير نحوٍ استقلالها، وقطع علاقاتها مع الجنوب، وستعرف من الآن بـ «جمهورية صوماليلاند». خبر بلا وقع في العالم، أو حتي في أجزاء كبيرة منه إلاّ قليلاً. ففي الإعلام الدولي، كانت تطغى الفوضى التي اجتاحت الجنوب على العمليّة البطيئة والمتماسكة لتشكيل الدولة في الشمال؛ وخاصة أنه بعد سنتين على إثر التدخل الدولي سيعرف الجنوب حادثة راح ضحيّتها 19 من القوات الأمريكيّة، وسمّيت بـ «معركة مقديشو» (أو حادثة سقوط طائرة بلاك هوك).

لماذا صوماليلاند أكثر نجاحاً واستقراراً من جارتها الجنوبيّة رغم انعدام، على نحوٍ شبه كاملٍ، لأي دعمٍ من المجتمع الدولي؟ مرد ذلك إلى غياب تعددية عشائرية ما ساعد البلاد في عدم الانجرار إلى صراع قبلي على نحوِ ما عليه بعض الدول في الإقليم. ويشير الصوماليلانديون إلى دور شيوخ العشائر في المسألة، فعلاوة على  الرئيسٍ المنتخب والبرلمان التقليدي المنتخبٍ، تمتلك صوماليلاند مجلس شيوخٍ غير منتخبٍ، يشبه إلى حد ما مجلس الشيوخ البريطاني، له دور استشاري حول بعض التشريعات، ويعاد إليه في حلّ النزاعات بين التفرّعات العشائرية في البلد. «إن الشيوخ هم الذين خلقوا هذا السلم،» يقول لي محمد عمر حاجي، ناشط صومالي يقيم في بريطانيا. 

لقد كانت صوماليلاند محظوظة بالاستفادة من قيادة بعض الشخصيات القليلة، وعلى رأسهم إدنا آدنا؛ أبرز صوت عالمي منافح عن البلاد. تعرف، كأشهر شخصٍ في صوماليلاند، فقط بـ: أدنا. «ليس عندنا جورج كلوني» يخبرني صحفي محلي، في إشارة إلى النجم الهوليودي الذي رافع عن استقلال جنوب السودان، «نحن عندنا أدنا».

لماذا صوماليلاند أكثر نجاحاً واستقراراً من جارتها الجنوبيّة رغم انعدام، على نحوٍ شبه كاملٍ، لأي دعمٍ من المجتمع الدولي؟ مرد ذلك إلى غياب تعددية عشائرية ما ساعد البلاد في عدم الانجرار إلى صراع قبلي على نحوِ ما عليه بعض الدول في الإقليم. 

عندما التقيت بأدنا في مستشفى الأمومة ومدرسة القابلات التي تديرهما في هيرجيسا - يسمونه فقط مستشفى أدنا- أعطتني بطاقة عملها، وقد كتب عليها من الخلف: أين صوماليلاند؟ مع سهم يشير إلى موقع البلاد على خريطة القرن الإفريقي. عملٌ واحد فقط تقوم به أدنا، التي سافرت العالم، وهو التعريف ببلادها ومكانها. «ليس بمقدوري جلب كلّ واحد إلى هنا»، تقول بعد أخذ نفسٍ. «الأطباء والمعلمون لا يسمح لهم بالقدوم إلينا، فحكوماتهم تحذرهم من ذلك. وأنا لا أعرف كيف فَتقت أنت من تلك الشبكة».

تُزيّن مكتب أدنا صورٌ لوجهاءَ التقت بهم؛ من هيلاري كلينتون إلى كوفي عنان. وفي الوسط صورة مدهشة لإدنا في شبابها، مع زوجها محمد إبراهيم عيغال، عند البيت البيض مع لايدن بي. جونسون، عام 1968، حين كان غيقال رئيس وزراء للصومال.

كانت أدنا أوّل قابلة، وأوّل امرأة تقود سيارة في الصومال. وقضّت سنواتٍ كمسؤولةٍ في منظمة الصحة العالمية والأمم المتحدة، قبل عودتها إلى صوماليلاند لبناء مستشفى بمدّخّراتها الخاصة، وعلى الرغم من الصعوبات التي يواجهها على المستوى اللوجستي والبشري، فهو واحد من أكثر المنشآت الحيوية في القرن الإفريقي. وُصفت بالأم تيريزا المسلمة، نظراً لعملها في تعزيز صحة المرأة، ومحاربة ختان الإناث. كما أنها عملت لسنواتٍ وزيرة للخارجية في صوماليلاند، مع القيام بواجباتها كقابلةٍ، وهي تؤدي مهامها الوزارية. 

ومع أنّ نشاطها السياسي أقل شهرة من نشاطها العمومي في الصحة، فأدنا مدافعة لا تكلّ عن استقلال صوماليلاند. «انتظرنا لخمس وعشرين سنة العالم ليرى اسقرارنا، سِلمنا وحوكمتنا،» تخبرني، وهي ممتعضة، مما أسمته «المؤامرة العالمية ضد استقلال صوماليلاند»، وترى في غياب الاعتراف سبباً لعدم النمو الاقتصادي في البلد، خلال ربع القرن الماضي. 

أعادت على مسامعي ثيمة متواترة في صوماليلاند، تقول إنّ البلاد منارة استقرارٍ في منطقة خطرة للغاية، مستقرةٌ بالفعل هي كذلك بالمعايير المحلية، ولكنّها ليست مزدهرة. من الصعوبة تقديم إحصاءات موثوقة، ومع ذلك، في العام 2012، قدر البنك الدولي الناتج المحلي للفرد الواحد بـ 348 دولار، ما يجعلها رابع أفقر دولةٍ في العالم. تعتمد صناعتها بشكلٍ أساس على تصدير الماشية، وتشغل 70% من مجملي الوظائف. زبائنُها الأبرز في الشرق الأوسط، ويتكثّف العمل في موسم الحج، مع فرص عملٍ قليلة في البلد، من غير المستغرب أن 44% من الشباب العاطل عن العمل راغبٌ في الهجرة.

يعتمد عدد كبير من السكّان على 500 مليون دولار من التحويلات الماليّة، مما يربو على مليون صوماليلاندي يعيشون في الشتات؛ وتحديداً في بريطانيا والولايات المتّحدة والدول الإسكندنافيّة وأجزاء أخرى من إفريقيا. وعلى الرغم من كون هذه التحويلات أمراً طبيعياً بالنسبة للدول النامية، فالمسؤولون متخوفون على نحوٍ متفهمٍ من أنّ هذه السيولة الخارجيّة مصدرٌ محدود. أغلب الدياسبورا لاجئون، فروا خلال الأحداث العنيفة في الثمانينات، وأولادهم قد لا تعزوهم ضرووة بمساعدة أعمام وأخوال بالكاد يعرفوهم. «هؤلاء الأطفال الآن أمريكيون أو بريطانيون أو فرنسيون أو ينتمون إلى أي جنسية أخرى. وهم لا يمتلكون- كآبائهم- نفس الارتباط تجاه بلدهم»، يخبرني وزير الطاقة حسين عبدي دعوالي.

مع تحويلات قد تنضبُ في السنوات القادمة، ومصدر ماشية لا يمكن الاعتماد عليه، تبحث الحكومة عن موردٍ آخر للاستثمار. ولكنّ صوماليلاند مكان يعاني سمعةً مقلقةً. «يخاف الناس عندما يسمعون بالاسم،» يقول دعوالي، «فكلّ شيء يبدأ بالصومال، مهما تكن نهايته، إشارة حمراء بالنسبة لكثير من الناس. ولكنّ الشركات المتواجدة هاهنا تدرك أنّها بيئة لطيفة وآمنة جداً». 

ما يميّز حالة صوماليلاند هو كون الدولة لا تسعى في الحقيقة إلى تحدي الحدود التي رسمها الأوروبيون داخل القارة الإفريقيّة - وهي حدود تواجه انتقاداتٍ جمّة-، وإنما تسعى إلى استعادتها.

للاقتصاد الصومالي أملان، يتمثّل الأوّل منهما في اكتشاف النفط - تشتغل حالياً شركات طاقة كبرى في  الساحل على المشروع -، ويتمثّل الثاني في خطّة موانئ دبي العالمية، لتطوير ميناء بربرا على البحر الأحمر؛ وهو من المحتمل أن يصبح وسيلة بديلة لجلب البضائع إلى إثيوبيا التي لا تمتلك منفذاً إلى البحر. سوى أنّه من الصعوبة بمكانٍ تصور قيام ذلك المشروع، دون تطويرٍ في البنية التحية وشبكة الطرق، وهذا يتطلب استثماراً دولياً. ولأجل ذلك، من الأحسن للعالم، مرة أخرى، معرفة أن صوماليلاند موجودة، وبأنها ليست الصومال.

ما يميّز حالة صوماليلاند هو كون الدولة لا تسعى في الحقيقة إلى تحدي الحدود التي رسمها الأوروبيون داخل القارة الإفريقيّة - وهي حدود تواجه انتقاداتٍ جمّة-، وإنما تسعى إلى استعادتها. «يقول المجتمع الدولي بأننا انفصلنا عن الصومال. نحن لم نفعل ذلك. نحن كانت لدينا أمّة خاصة»، يقول محمد أحمد مُحمود، المعروف ببرواني، الناشط في المجتمع المدني ورئيس منتدى الفاعليين اللادولتيين في صوماليلاند. «رسمت حدودنا عبر اتفاقيّة بين الحكومة الإيطالية والحكومة البريطانية،» يخبرنا وزير الخارجية سعيد علي شير، ثم يضيف «إنّها حدود محددة دوليّاً». 

صحيح أن صوماليلاند أزاحت الحدود طوعاً مع الصومال، في 1960، ولكنّ الصوماليلانديون لا يعتبرون ذلك القرار لا رجعة فيه. ويرون بأنّهم ليسوا الوحيدين الذين تراجعوا عن قرار دمجِ دولتين، ما بعد كولونياليتين، في كيانٍ واحد. السينغال وغامبيا -شريط ضيق يقع بشكلٍ كامل داخل إقليم السينغال- اتحدتا مع بعضٍ في شكل كونفدراليّة سينيغامبيا بين 1982 إلى 1989. وكانت سوريا متّحدة مع مصر لفترة وجيزة، بين عامي 1958-1961، تحت اسم الجمهورية العربية المتحدة قبل انفصال سوريا. إذا لم يكتب لهذه التزاوجات نجاحاً، لمَ على صوماليلاند التورط في تحالفٍ كئيب؟

من الصعب جدال هذه المحاججات في هرجيسا، ولكن في العالم الخارجي، لا تبدو هذه الحجج مقنعةً. إنّ الحقيقة المحبطة، بالنسبة لصوماليلاند، هي كون خريطة العالم مصانةً بموجب القانون الدولي أو حتى العرف، بدرجة أقل، مما هي مصانة بما يسمى أحيانًا «الاعتماد على المسار». الآلاف من القرارات الصغيرة التي تؤدي بمرور الوقت إلى إنشاء مؤسسات، والتي من التحدي جدًا إزالتها دونما اضطراب هائلٍ. تميل البلدان إلى البقاء على ما هي عليه، ويعتقد الناس، مع بعض التبريرات، بأنه من الصعب والخطر للغاية تغييرها.

كانت آخر موجات إنشاء الدول في أوائل التسعينيات من القرن الماضي، مع نهاية الحرب الباردة، وما نتج عنها من تسريع تفكك الاتحاد السوفيتي، وانفجار يوغوسلافيا. منذ ذلك الحين، نجح عدد قليل من الدول الجديدة فقط، وعانى العديد منها. ولكنّ صوماليلاند، على نحو ما يشير وزير الخارجية شيري، موجودة مسبقاً، وقد تأخر المجتمع الدولي في إدراك ذلك. «تحقق صوماليلاند كلّ الشروط اللازمة لدولة مستقلة،» يقول، «وأنا أعتقد أن كلّ أحدٍ يتعاطف مع قضيتها. حتّى مع عدم الاعتراف بنا شرعيّاً، فنحن معترف بنا واقعيّاً. عندما أسافر أعامل كوزير خارجية. ونحن نتعامل مع الأمم المتحدة والمجتمع الدولي كبلدٍ مستقلٍ. يُتعامل معنا على أرض الواقع بصفتنا مستقلين. إنّه فقط الاعتراف القانوني لسيادتنا هو الذي ينقصنا».

المحاججة ضد استقلال صوماليلاند تؤيدها عوامل خارج عن سيطرة البلد. اعتاد المسؤولون الصوماليون على القول بأنه الاعتراف باستقلال صوماليلاند سيكون له أثر دومينو على الحركات الوطنية في القارة، مما سيزعزع استقرارها. إذا استقلت صوماليلاند فما الذي سيوقف مناطق أخرى عن محاولة تحقيق نفس الشيء؟

المنظمات الدولية مثل: الاتحاد الإفريقي والجامعة العربيّة غير متسامحة مع فكرة الاعتراف بانقسامات إقليمية أخرى. فالدول المتخوفة من الحركات الانفصالية داخلها، لا تريد أن يكون لها سوابق في دعم الانفصال. ترى الأمم المتحدة -وهي التي استثمرت مصادر هائلة في الترويج للاستقرار والوحدة في الصومال بشكل عامٍ- صوماليلاند عائقا أمام أهدافها، وليس مثالا للاستقرار. تدعم إيثيوبيا صوماليلاند، ولكن ذلك الدعم مرده أن إيثيوبيا متخوّفة من الانفصاليين الصوماليين داخل إيثيوبيا، وترى دعم صومال ضعيف ومتفكك أفضل من وجود صومال مستقل وقوي على حدودها. لا تبدو الحالتان الأخيرتان من الدول المشكلة حديثاً في إفريقيا -الأتوقراطية والمفقّرة إيريتريا والفوضويّة والعنيفة جنوب السودان- ملهمتين لدعم حجة صوماليلاند بأن الاعتراف بها لن يغدوا نقمة على الاستقرار في المنطقة والعالم.

يبدي الملاحظون الغربيون، حكوميون وغير حكوميين، تفاؤلاً. فهم يلاحظون بأن صوماليلاند شهدت، مقارنة بدول الجوار، عدة انتخابات، وتبادلاً سلمياً للسلطة منذ استقلالها، وصنفتها منظمة فريدوم هاووس، التابعة للأمم المتحدة، «كديمقراطيّة صاعدةٍ». ثمّ إنها الدولة الوحيدة في إقليمها التي تعتبر جزئياً حرّة، أو بمعدلٍ متقدم في التصنيف السنوي لمجموعتها.

أشارت مجموعة الأزمات الدوليّة، عام 2003، إلى أن الخيارات التي تطرح على المجتمع الدولي محصورة، إما في اتخاذ موقفٍ براغماتي من مطالب صوماليلاند في حق تقرير المصير، أو الإصرار دون كللٍ على الوحدة والنزاهة الإقليميّة لجمهورية الصومال؛ والتي تبدو فكرة موغلة في التجريدِ. في عام 2007، وصف مسؤول في وزارة الدفاع الأمريكية صوماليلاند لواشنطن بوست بـ «أنّه كيان فعّال»، وبأن البنتاغون «يرى صوماليلاند مستحقةً للاستقلال». 

لكن حتّى ولو كانت الحكومات غير الإفريقية متعاطفة بشكلٍ عام مع صوماليلاند، فذلك ليس كافياً لخلخلة الوضع الراهن. يقول لنا الصوماليلانديون ممازحةً بشكلٍ مربكٍ، إنّهم كانوا كيّسين على نحوٍ مبالغٍ فيه. فالدول التي حصّلت اعترافاً في السنوات الأخيرة، نجحت في ذلك بعد حروبٍ ومجازرَ. «أن تكون دولة مستقرة، ديمقراطيّة ونامية، لا يفيدك ذلك بالحصول على اعتراف دولي»، يقول حاجي. «صوماليلاند هادئة. مكان وديعٌ. والمجتمع الدولي لا يكترث بالأماكن المستقرّة. يتواجد فقط عندما تواجه دولةً ما مشكلةٌ، كالصومال والعراق وسوريا وليبيا. ولكن عندما تنتفي المشاكل، تختفي الرغبة في القدوم لبناء دولةٍ». وكما يبيّن أدان: «لا أريد، وأنا في 78 من عمري، مواجهة احتمال أن كلّ شيءٍ تعلمته عن الديمقراطية وحقوق الإنسان ما هو غير سرابٍ. ربما عليّ الانضمام لطالبان».

على الرغم من كونهم يمزحون، إلاّ أنه مع غيابِ تحوّل جذري في الأولويات الدوليّة، من الصعب رؤية صوماليلاند تحقق اعترافها. سيواصل العالم المرافعة عن مبدأ مجردٍ عن الأمانة الإقليميّة في وجه الإرادة الصاخبة لشعب صوماليلاند.

مؤخراً، كانت هنالك بعض التلميحات المزعجة إلى أنّ الاستقرار والسلم الذي يحتفى به في صوماليلاند حقيقةً واهنٌ، على عكس ما يبدو. فقد قتل العشرات في صراعٍ بين صوماليلاند وبونتلاند -إقليم فيردالي تابع للصومال- كجزءٍ من صراعٍ طويل، حول منطقة حدودية متنازع عليها. وحذّر المراقبون من احتمالية تصاعد الصراع إلى حربٍ مفتوحة. كما أنّ الحكومة مدانةٌ باحتجاز وإساءة معاملة الصحفيين الذي يغطّون الصراع.

مع كلّ مشاكلها الجدية، من الصعوبة المجادلة ضدّ النجاح النسبي لصوماليلاند. ربما هذا تعصّب للتوقعات المنخفضة، ولكن مهما يكن؛ فهذه ليست الصومال. مع مساعدة خارجية خجولة، حققت صوماليلاند الكثير من الأشياء بنفسها وفعلتها أحسن من نظيراتها المعترف بها. 

«توجد معاناة في الكثير من الدول المعترف بها في إفريقيّا. لذلك، نقول بعض الأحيان إنّ كوننا معترف بنا واقعيّاً أفضل بكثيرٍ. فالعديد من الدول المعترف بها في إفريقيا فشلت، وتحولت إلى ديكتاتورية الحزب الواحد مع غيابٍ لحرية الإعلام، ومساحة تخوّل للمواطنين تقديم مساهمة. بالنسبة لنا، نحن نمتلك أشياءً كثيرة، لا حدود هنا، لا قيود،» يقول برواني.

بالنظر لعقود من الدعم الأمريكي لدكتاتوريين مثل: مبوتو سيسه سيكو، وبالنظر للدور المخرّب لشركات النفط الغربيّة في دولٍ مثل نيجيريا، فإذا كان تعامل الدول الإفريقية الهشّة مع الخارج يتأتّى منه ذلك، فلا حاجة لصوماليلاند به. إن حدث مستقبلاً، واعترف العالم باستقلالها، فصوماليلاند ستكون في موقعٍ أقوى للتعامل مع تبعات ذلك الاعتراف - من استثماراتٍ وتشابكاتٍ ديبلوماسية. يحمل شيري تفاؤلاً بقدوم هذا اليوم. «لقد انتظرنا لـ 25 عاماً، ولا يضرنا انتظار 25 عاماً أخرى».

 

هذا المقال  مترجم من هذا المصدر، وهو مقتبس من كتاب "بلدان غير مرئية" لجوشوا كيتنغ، صدر الكتاب عن مطبعة جامعة ييل.