الخميس 21 نوفمبر 2024
مضت ستة أعوام ونيف منذ تنصيب أبي أحمد رئيسًا لوزراء إثيوبيا، ومدة تقل بشهور على القمة الثلاثية التي احتضنتها العاصمة الإريترية أسمرا، في سبتمبر/ أيلول 2018، والتي جمعت أبي أحمد ورئيس إريتريا أسياس أفورقي ورئيس الصومال السابق محمد عبد الله فرماجو.
مثّلت القمة صفحةً جديدةً في إقليم القرن الأفريقي، وعلامًة على مستقبل أفضل رافق صعود أبي أحمد، الذي بدأ عهده بالسلام مع إريتريا، وتغذية أحلام النهضة والتنمية بين دول المنطقة، وكافئه المجتمع الدولي بجائزة نوبل للسلام، فمثّل رمزًا يُتطلع إليه.
لكن الخيبة كانت من نصيب شعوب القارة، فسرعان ما تنكر للسلام، وأدخل بلاده في أتون حرب أهلية لم تخرج منها بعد، وتسببت في تهديد السلام مع إريتريا، ثم جاء توقيع مذكرة التفاهم مع صوماليلاند ليحول الصومال من حليف إلى عدو.
بعيدًا إلى الشمال، بدت مصر غير راضية عن تنصل أسياس أفورقي حليفها التاريخي لعلاقاتهما التاريخية، وغير مرتاحة لدفء علاقات الصومال مع غريمتها إثيوبيا، حتى جاءتها الفرصة على طبق من ذهب، لتحصد نتيجة أخطاء أبي أحمد، بمد يدها إلى المنفضين عن حلف أديس أبابا.
تأتي قمة أسمرا الأخيرة نتيجة لتحولات عديدة شهدها القرن الأفريقي، بدايةً بفتور العلاقة بين أسياس أفورقي وآبي أحمد، ثم تحولها إلى حالة من العداء الخفي بينهما، منذ توقيع اتفاق سلام بريتوريا بين الثاني وجبهة تحرير تيغراي. شاركت إريتريا في الحرب التي أعلنها أبي أحمد في نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، بهدف استعادة مناطق تسيطر عليها الجبهة، وتعتبرها أسمرا جزءًا من أراضيها، وللقضاء على الجبهة التي تُعتبر الغريم التاريخي منذ عام 1991.
أدت الحرب التي أدانتها الدول الغربية إلى مآسي إنسانية، وهددت وحدة واستقرار البلاد بعد انتقالها إلى أقاليم أخرى، فيما اتُهم الجيش الإريتري بارتكاب انتهاكات واسعة النطاق ضد المدنيين في الإقليم، وإزاء الضغوط الغربية والأوضاع الداخلية اضطر أبي أحمد إلى القبول بمفاوضات السلام، في الوقت الذي لم يعترف فيه بإشراك إريتريا في الحرب، كما أنّه لم يطالبها بسحب قواتها. لم ترض إريتريا عن اتفاق السلام الذي لم يحقق لها أهدافها من الحرب، وتبنت ميليشيات فانو الموقف نفسه، كون الإبقاء على القوة العسكرية لجبهة تحرير تيغراي يهدد مكتسبات الطرفين، لهذا عملا على تقوية علاقاتهما لمواجهة ما يرونه عدوًا مشتركًا.
ثم جاءت تصريحات أبي أحمد التي تحدث فيها عن الوصول إلى البحر الأحمر، بطريقة سلمية أو بالقوة إن تطلب الأمر، في أكتوبر/ تشرين الثاني 2023 لتزيد من الخلافات مع إريتريا، حيث اعتبرت الأخيرة نفسها مهددة عسكريًا.
في السياق ذاته، دفع توقيع إثيوبيا مذكرة التفاهم مع صوماليلاند التي نصّت على حصولها على قطعة أرض بنظام التأجير على شاطئ خليج عدن مقابل الاعتراف باستقلال الثانية وبنود أخرى إلى أزمة حادة مع الصومال، دفعته إلى البحث عن حلفاء لمواجهة أبي أحمد. وجدت الدول الثلاث؛ مصر وإريتريا والصومال نفسها في مواجهة مع إثيوبيا، تشمل على قضايا خاصة بكل دولة، وأخرى مشتركة، حيث يرى الصومال أنّ مذكرة التفاهم انتهاكًا لسيادته، وتخشى إريتريا تهديدًا مُقبلًا يتعلق بوجودها في تيغراي، وبسلامة أراضيها.
بالنسبة لمصر، أخفقت المفاوضات في حلّ أزمة سدّ النهضة، وكانت آخرها جولة الربع الأخير من عام 2023، وأعلنت القاهرة انتهاء المسارات التفاوضية والاحتفاظ بحق الرد، وذلك في 19 ديسمبر/ كانون الثاني 2023، قبل عدة أيام من الكشف عن مذكرة التفاهم بين إثيوبيا وصوماليلاند. كما أنّ القاهرة تتخوف وجود إثيوبي عسكري على ساحل خليج عدن، الذي يمثّل المدخل الجنوبي للبحر الأحمر وقناة السويس.
دفعت هذه القضايا بالدول الثلاث إلى إعادة ترتيب علاقاتهم الثنائية والثلاثية، وكانت البداية بإريتريا التي طالما كانت حليفًا لمصر منذ حرب الاستقلال عن إثيوبيا. عقدت البلدان الثلاثة العديد من اللقاءات على مستوى الرؤساء والوزراء وكبار المسؤولين بشكل ثنائي ومشترك، عقب توقيع مذكرة التفاهم مطلع العام الجاري، وكان من أهمها زيارة حسن شيخ إلى إريتريا، وزيارته إلى القاهرة، ولقاءات وزراء خارجية الدول الثلاث، وزيارة وزيري المخابرات والخارجية المصريين إلى أسمرا.
تُوجت هذه الجهود بالقمة الثلاثية في أسمرا، والتي صدر عنها بيان ختامي بين الرؤساء الثلاث، وإعلان سياسي مشترك بين رئيسي مصر والصومال. خرجت القمة واللقاءات الثنائية بما يلي؛ التأكيد على دعم الصومال في أزمته السياسية مع إثيوبيا، وتقديم دعم عسكري للجيش الصومالي بشكل ثنائي ومشترك بين مصر وإريتريا، والترحيب بمشاركة مصر بقوات في بعثة "AUSSOM" التي ستحل محل بعثة "أتميس" مطلع العام المقبل، وتعزيز العمل المشترك في التنمية والاستثمار، وتكوين لجنة ثلاثية مشتركة من وزراء الخارجية للتعاون الإستراتيجي في كافة المجالات.
تختلف قمة أفورقي وحسن شيخ والسيسي عن قمة الثلاثي السابق الذي ضم أفورقي وأبي أحمد وفرماجو من عدة أوجه. أولها، تعويل دولتي إريتريا والصومال على مصر السيسي بدلا من آبي أحمد. ثانيها، أنّها جاءت في إطار التصدي لما يصفه المشتركون بتهديدات إثيوبية، في حين كانت الأولى تطلعًا نحو التنمية والسلام التي مثّلتهما الأخيرة آنذاك. والثالث، غياب العامل غير الأفريقي عن القمة الأخيرة، بينما كانت وساطة دول من خارج القارة ممهدة للسلام بين إريتريا وإثيوبيا، والرابع، حصول مقديشو على نصيب أكبر من الاهتمام.
تأتي مخرجات القمة تأكيدًا على موقف مصر وإريتريا المؤيد للصومال ضدّ إثيوبيا، ويهدف تعاون الدول الثلاث إلى مواجهة خطط أبي أحمد لإجباره على القبول بتحقيق مطالب كل دولة، وهي التوصل لاتفاق قانوني مُلزم بشأن ملء وتشغيل وإدارة سدّ النهضة، والاعتراف بحقوق إريتريا في الأراضي المتنازع عليها في الشمال، والانسحاب من مذكرة التفاهم مع صوماليلاند.
سيواجه هذا التعاون الثلاثي اختبارًا مطلع العام الجاري، حيث سينتهي تفويض بعثة "أتميس"، التي سينضم جزء من قواتها إلى البعثة البديلة، عدا القوات الإثيوبية التي يشترط الصومال لمشاركتها الانسحاب من مذكرة التفاهم مع صوماليلاند. إلى ذلك، ففي حال انسحبت إثيوبيا من المذكرة ستُحل جزئيًا خلافاتها مع الصومال، والذي يضغط لانسحاب قواتها خارج تفويض أتميس، كما سيفاوض لتحجيم نفوذها في البعثة. وفي حال لم تنسحب من المذكرة فمن المحتمل أنّ تتصاعد الخلافات، وسيكون على القاهرة وأسمرا تقديم الدعم لمقديشو في هذا الصدد.
من جانب آخر، ليست صوماليلاند بعيدة عن هذه التحولات، حيث استفادت مقديشو من الدعم الإقليمي في تشديد الخناق عليها، من خلال الإجراءات التي شملت الطلب من شركات الطيران حذف اسمها واستبداله بالصومال في تعريف مطار هرجيسا، وكذا الطلب من شركات تحويل الأموال حذف اسم صوماليلاند وهو ما استجابت له شركة "دهبشيل".
من المؤكد أنّ مذكرة التفاهم وتبعاتها لن تكون بعيدة عن الانتخابات الرئاسية والحزبية المقبلة التي ستشهدها صوماليلاند في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، حيث لم تُظهر المعارضة موقفًا مؤيدًا للمذكرة، بل انتقدها حزب "وطني" المعارض، والذي يحوز النسبة الأكبر من عدد مقاعد مجلس النواب، وقد يوظف تبعاتها ضدّ الحزب الحاكم.
في سياق متصل، تتضاءل آمال الحل السلمي بين الصومال وإثيوبيا، بعد إخفاق ثلاث جولات من المفاوضات غير المباشرة بين الطرفين برعاية تركية، كما أنّ حسن شيخ يواجه مشاكل داخلية متزايدة، من رؤساء ولايات يعارضون خططه بشأن التعديلات الدستورية والانتخابات، وكذا بشأن مغادرة القوات الإثيوبية، وعلى رأس هؤلاء ولاية جنوب الغرب وجوبالاند وبونتلاند.
علاقة بما سبق، خص الرئيس المصري في المؤتمر الصحفي لقمة أسمرا الجيش الوطني الصومالي بالذكر، حين تحدث عن دعمه لمحاربة حركة الشباب وبسط الأمن، لكن هذا التدخل المصري الجديد يحمل مخاطر في تأجيج الصراعات القائمة بين سلطة مقيشو مع رؤساء الولايات، خصوصا في ظل رفض ولايتي بونتلاند وجنوب الغربي نشر أي قوات مصرية في أقاليمها.
يأتي هذا في سياق إقليمي يميل إلى توظيف القوة لحسم الخلافات الداخلية بعد انسداد الجهود الدبلوماسية والتفاوضية، في ظل انشغال القوى الدولية بالحرب في أوكرانيا وحرب الإبادة الإسرائلية على غزة ولبنان. دلالة على ذلك أعلن السيسي استعداد بلاده للتدخل العسكري لدعم الصومال، ووقع بروتوكول التعاون العسكري بين البلدين.
بدوره لم يكن أبي أحمد ببعيد عن هذا التوجه أيضًا، فقد استخدم العنف لتسوية خلافاته مع جبهة تحرير تيغراي، ولوح بالقوة العسكرية للحصول على ميناء بحري. وفي السودان انزلقت الأطراف العسكرية إلى تسوية خلافاتهما بالقوة.
من جانب آخر، بيد إثيوبيا أوراق ضغط لمواجهة هذا التعاون الثلاثي، منها المراوغة في مفاوضاتها مع الصومال، وتثبيت وجودها في جنوب الصومال من خلال دعم رؤساء الولايات ضدّ حسن شيخ، والضغط على إريتريا من خلال اللجوء لتوجيه طلب رسمي إليها لسحب قواتها من المناطق المتنازع عليها في تيغراي.
يحمل ما سبق مخاطر من انزلاق منطقة القرن الأفريقي إلى صراعات جديدة بالوكالة، بعد التدخل المصري المتسجد، في ظل حالة السيولة الدولية والإقليمية، والتطبيع الإقليمي مع الخيارات العسكرية بين العديد من الصراعات، فضلًا عن حالة التوتر التي تسود العالم، والتي تدفع نحو مناخ عام تسوده القوة في تسوية الخلافات.