تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الأربعاء 16 أكتوبر 2024

ثقافة

خريطة الرواية الإفريقية (2/3):  مختارات من الأدب العربي الإفريقي 

14 أكتوبر, 2024
الصورة
 أدباء افريقيا
Share

تعج القارة الإفريقية بكتاب وأدباء أبدعوا روائع أدبية نقلتهم من ضيق المحلية إلى رحاب العالمية، فيما الأدب الإفريقي لا يزال نكرة، يطاله التجاهل والنسيان، على غرار الأكثرية من الأدباء الذين لم يصبوا حظهم، فظلوا مجهولين لدى الأغلبية، إذ لا يتعدى صدى أعمالهم حدود القطر، أو النطاق الإقليمي (غرب، شرق، شمال إفريقيا...) أو الامتداد اللغوي (الإنجليزية، الفرنسية، العربية...) داخل القارة في أفضل الأحوال. 

نستكشف في الجزء الثاني، من خريطة الرواية الإفريقية، عناوين مغمورة لأعمال روائية كتبت باللغة العربية، معظمها حديثة التأليف، حداثة لم تثنها عن الوفاء لقضايا ومشاكل الدول والمجتمعات الإفريقية، حيث شكلت خيوطا نسجت منها المتون الروائية لهذه الأعمال. نقدم هنا جزءا آخر من خريطة الرواية الإفريقية، لمبدعين أفارقة بعنوان معظمها مغمور، إلا من أقلية أخرجتها الترجمة إلى دائرة الأضواء، رغم قوة وتميز هذه الأعمال؛ حبكة ولغة وسردا. 

لن نتوقف في هذه المادة عند أدب دول شمال إفريقيا (المغرب والجزائر وتونس وليبيا ومصر)، وذلك لاعتبار أن اللغة العربية تأتي في المقام الأول عند الكتابة والتأليف في هذه المنطقة. ما جعل الخريطة تنحصر في الأقطار التي تكون فيها العربية لغة ثانية أو في الاستعمال الرسمي أو ثانوية في التداول الشعبي. 

البداية من موريتانيا؛ بلاد المليون شاعر، التي تأخر فيها السرد في كثيرا، فأول عمل روائي ظهر في موريتانيا عام 1981، بعنوان "الأسماء المتغيرة" ومؤلِفه أحمد ولد عبد القادر عُرف شاعر قبل أن يصبح روائيا، ما حدا بالنقاد إلى القول بأن الرواية هناك ولدت من رحم الشعر. وسجل الكاتب موسى ولد أبنو (1956) التميز برائعته "مدينة الرياح" (1996)؛ التي دخلت قائمة أفضل 100 رواية عربية، بطرح إشكالي متميز، وظفه فيه الكاتب خلفيته وتكوينه الفلسفي، لمسألة الذات والهوية في عوالم مختلفة. 

صوب الجنوب الغربي، وتحديدا نحو السنغال التي يتنافس مبدعوها على حصد الجوائز الفرنكوفونية، تسعى اللغة العربية إلى إيجاد موطئ قدم لها، بعناوين أدبية تمتزج فيها الرواية والسيرة، مثل: "محطات في حياة يتيم" (2018) و"على آثار القوم" (2020)... يسطع هناك اسم أبو بكر إبراهيم أنجاي، فبعد باكورة أعماله "جريمة ولكن" (2016)، أثارت روايته "الهاربات من الجنة" (2018) جدلا كبيرا في الأوساط الأدبية، بطرحه قضية سفر الإفريقيات إلى دول الخليج، من خلال تتبع تقلبات مسار ثلاث فتيات؛ فام وياسن وكمب، حيث تنقلب الأحلام الوردية إلى ورطات وصدمات بعد السفر إلى الخليج. 

في الغرب الإفريقي دائما، نكتشف مع الروائي عمر الأنصاري من دولة مالي خبايا مجتمع الطوارق، في روايته "طبيب تيمبكتو" (2011)، التي ترصد أحداثها تفاصيل قضية الطوارق المنسية، حتى وصف النقاد الكاتب بروائي الطوارق، مع تعاقب أعماله عن هذا المجتمع (الرجال الزرق، حرز تالا، رحلة البحث عن خيمة...). وصف لم ينفه الأنصاري عنه نفسه، فأعماله الإبداعية ترمي، كما جاء في أحد حواراته، إلى "إنقاذ ما يمكن إنقاذه من ذاكرة جيل يتلاشى أمام تحديات شتى بعد أن هجر من وطنه".  

نحو تشاد في الصحراء الإفريقية، وبالرغم من كون العربية لغة رسمية إلى جانب الفرنسية في البلد، إلا أن نطاق الكتابة بلسان الضاد، لا سميا في مجال الرواية، محدود جدا، فأول روائية عربية ظهرت هناك، بقلم آدام يوسف، عام 2004، بعنوان "سندو". وسطع اسم طاهر النور (1990) في سماء الرواية التشادية، بعد نجاحه في تسخير الأعمال الروائية لتقديم تشاد إلى القراء في العالم العربي. تأخذنا "سيمفونية الجنوب" (2021) في رحلة عن التاريخ الاجتماعي والسياسي لبلاده؛ الانقسام بين الشمال والجنوب والتباين العرقي واللغوي والصراع السياسي... مع انحياز واضح للجنوب كفكرة وانتماء وليس مجرد وجهة. 

في سودان الطيب صالح يبرز الروائي عبد العزيز بركة ساكن (1963)، الذي ترجمت أعماله إلى لغات عديدة منها الفرنسية والإنجليزية والألمانية والنرويجية... وفازت أعماله بعدة جوائز، آخرها جائزة معهد العالم العربي في باريس عن روايته "الجنقو: مسامير الأرض" (2009)، وسبق لها الفوز بجائزة الطيب صالح. 

كان السودان حاضرا دواما في أعمال ساكن، بالكتابة عن قضايا ومشاكل البلد السياسية والاجتماعية والثقافية، ما جعل عليه غضب النظام، لا سميا بعد روايته "مسيح دارفور" (2013)، ما أجبره على اللجوء السياسي إلى النمسا ثم فرنسا بعدها. تروي فيها حكاية شابة شهدت مذبحة عائلتها في إحدى قرى دارفور، فقررت الالتحاق بالجيش المتمرد، بعدما أطلقت على غيرت اسمها "عبد الرحمن"، من أجل الانتقام لعائلتها. وطي السرد طبعا إشارات تفيد بأن الصراع في دارفور ليس عرقيا، بل صراع سياسي مغلق بنعرة عرقية خدمة لأهداف استراتيجية للنظام في السودان. 

في القرن الإفريقي دائما، وتحديدا في إريتريا نختار رائعة حجي جابر (1976) "رغوة سوداء" (2018) التي تزج بك في متاهات السرد مع قصة الشاب الإريتري داويت، التي تهوّد حتى يهرب مع يهود الفلاشا إلى إسرائيل؛ الفردوس الموعودة. هناك نكتشف مع البطل حقائق المجتمع الإسرائيلي من خلال سرد معاناة لا تقل وطأة عن جحيم إريتريا، "كأنما كتب عليه أن ينتقل من بلد إلى بلد، ولا وطن في الطريق". 

في جيبوتي، بدأ الروائي محمود شامي عبد القادر يشق طريقه بتوالي أعماله بعد رواية "9 مارس" (2019) التي صدرت في أكثر من طبعة، عاد بعمل ثاني بعنوان "وثالثهما الفنجان" (2020) حيث تتقاطع ثيمات العشق والفقد والطغيان والظلم... لتصنع حبكة القضية الشتات الناتج عن استبداد الأنظمة، حيث تصنع الملاجئ والمهاجر أواصر إنسانية لأناس متفرقين جغرافيا وعرقيا ودينيا ومذهبيا لكن يوحدهم القمع والاضطهاد.  

في الرواية نكتشف المعنى الحقيقي لحياة التنقل واللا وطن مع الطبيب الإيريتري قبري التي يزوج من إثيوبية أثناء عمله في مشفى هناك، وينضم سر لجبهة التحرير الإرترية، ليضطر بعدها إلى الفرار نحو السودان. 

نحو الصومال، بصم صالح ديما (1980) دخوله عالم الأدب بروايته "موسم القرابين" (2024) حيث يستعرض وقائع الحرب الأهلية الصومالية ومآسي العنف الداخلي وفواجع التشرد والنزوح واللجوء إلى دول لا تمنحه الشعور بالانتماء، والأثمان الباهظة التي تدفعها الشعوب على مذابح الأوطان المبتلاة بالحروب، "كلنا قرابين وطن متخم بكل الطرق". 

كان مرقان بطل الرواية مثالا عن هذه القرابين، بعدما لفظه وطنه الأم، ولم تقبل به أوطان الآخرين، فحتى العثور على عمل، باعتباره أبسط حقوق الإنسان، أضحى مشكلة بالنسبة للرجل، لتتفجر أسئلة الهوية لديه "هل أنا صومالي بحكم طبيعي؟ أم سعودي بحكم تطبعي؟ أم أنا الاثنان معا؟ أو ربما أنا هجين بلا ماض، وبلا حاضر، وبال مستقبل أيضا؟". 

إلى قلب المحيط الهندي شرقي خط غرينتش، حيث "كل شيء هناك له رائحة المحيط" نهيم مع الكاتب أوادي حافظ (1977) في نسيج يوميات المجتمع القمري، في أول رواية باللغة العربية، بعنوان "وجه القمر الأربعة" (2022)، في بلد تقطنه أغلبية مسلمة، تنحصر العربية عندها في ممارسة الشعائر الدينية، فيما يميل عامة السكان إلى استخدام اللغة القمرية في حياتهم اليومية. 

المتن الروائي بسيط في أصله أو ربما حتى هش، حيث يتلخص في العودة الاضطرارية للبطل جعفر لمسقط رأسه، إثر وفاة والده، الصياد في البحر، بعد هجوم سمكة نادرة تدعى السلاكانت عليه فوق القارب. ينغمس جعفر بشكل تدريجي في المجتمع، ليعيش حياته مثل أبناء بلده، ثم يقرر الزواج من جارته الطبيبة المرموقة مونامينة... وهكذا ينساب خيط الأحدث كاشفا عن عادات وتقاليد المقريين التي قيل بأنها العقد الاجتماعي والاقتصادي والثقافي الحاكم داخل البلد، كما جاء على لسان الطبيبة "أنا بنت العادات والتقاليد، التي تحملها صدور النساء القمريات وعقولهن، وينقلنها للأبناء والأحفاد جيلا بعد جيل". 

عناوين لأعمال روائية بلغة الضاد من أعماق إفريقيا، تقرب القارئ العربي من قضايا الأفارقة وأسئلتهم وشجونهم بأسلوب روائي ممتع، يجعله يعيش الأحداث بحماسة وتفاعل ملفتين، تؤكد من جديد أن الأدب الإفريقي صرح شامخ لا ينكره إلا جاحد.