تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الخميس 19 سبتمبر 2024

حوارات

نور الدين فارح: "أمثل كلّ شيء غير صومالي بالنسبة للصوماليين"

1 يونيو, 2024
الصورة
Nuruddin Farah
Share

يتحدث الروائي الصومالي عن علاقته المربكة ببلده الأم، تبنيه للعلمانية الراديكالية، والسبب وراء عدم تحمّله التعصب.

 

وأنا أترجل من سيارة الأوبر التي أقلّتني نحو المجمع السكني الصغير المصمم بأسلوب «Art Deco» حيث يقطن نور الدين فارح لوحده، وحيث سيعدّ ليّ الغداء، لمحت وجهاً ودوداً يطل من الأعلى. «سأنزل لأفتح لك الباب؛» خاطبني، بلطفٍ، الروائي الصومالي الكبير.
لم تمض إلا دقيقة بعد ذلك حتى فتح الباب رجلٌ نحيل بعض الشيء ولكن بهيئةٍ مستقيمةٍ ووقورةٍ يرتدي سروالَ جينز واسع وقميصاً فضفاضاً وحذاءاً خفيفاً من الجلد. حاول مساعدتي في نقل حقيبتي الثقيلة أعلى سلالم الطوابق الثلاث، لكني رفضت بأدبٍ. ما إن وصلنا، دعاني نحو شقة صغيرة متواضعة وغير مرتبةٍ لم تنتهي عملية تزيينها بعدُ بها مكتب ومطبخ وغرفة نوم وتوسيعةٍ صغيرة على شكل غرفة، وعبر نافذتها الكبيرة يطل مشهد بديعٌ لـ «جبل تيبل».

بمسيرة مهنية تمتد لقرابة ستة عقود، غدا فارح، الذي بعمر الـ 77 سنةً حالياً، واحداً من أكثر المؤلّفين تقديراً حول العالم، ومن المرشحين الدائمين—هكذا يُتداول—لجائزة نوبل. وعلى نحوِ الكثير من الناس الذين أجبروا على العيش في المنفى، لفارح علاقةٌ معقدة بوطنه. فهو ليبيرالي يمقت الإسلام الراديكالي الذي اجتاح بلده، وهو فردانيٌّ شرس يكره التقييد بالأعراف التي تفرضها الكثير من العائلات. ولكنّه وقد عاش في 13 دولةً لا يستطيع التفكير إلا في واحدة فقط: الصومال.

«الصومالينمو هي الأمر الذي أبقاني مستمراً،» أخبرني ما إن جلسنا داخل الشقة حيث هو محاطٌ بأبراجٍ غير مستقرة من كتبٍ وآثارٍ عن مُقاديشو فقدت في غياهب الماضي—(في رواياته، دائما ما يشير فارح للعاصمة الصومالية القديمة بـ «مُقاديشيو»– Mogadiscio بدلاً عن Mogadishu–و هي تهجئة إيطالية للاسم استقر عليها بعدما، حسب قوله، فقد الحرف «H» في آلة الكتابة الخاصة به).

«علاقتي بالصومال مبهمة،» يقول، «إني أمثل كلّ شيء غير صومالي بالنسبة للصوماليين بسبب طريقتي في التفكير والكتابة والطريقة التي أتكلّم بها عنهم. فإذا كان الإغريق قد قسّموا العالم إلى إغريقٍ وهُمّجٍ، أنا أقسّم العالم إلى صوماليين وغير صوماليين».

أُلقيّ فارح، المولود عام 1945 ببيدوا في مستعمرة إيطاليا السابقة، لأوّل مرة في المنفى سنة 1976 حيث كان من المفترض أن يعود لوطنه بعد جولة ترويجٍ لأحدِ الكتب في إيطاليا وقد اتصل بأخيه ليُقِلّه من المطار. «يبدو أنك لم تسمع الأخبار،» قال له أخوه. « أيّ أخبارٍ؟، قلت له. وحينها علمت منه بأنني إذا عدت للصومال، سيحكم علي بالسجن لما لا يقل عن 30 سنةٍ».

ارتكب فارح، في روايته الثانية «إبرة عارية،» ذنب السخرية من زعيم الصومال؛ الديكتاتور محمد سياد بري. أما روايته الأولى "من ضلع أعوج" فقد أثارت جدلها الخاص بسرد قصة فتاة صومالية شابة هربت من زواجٍ مرتبٍ مع رجلٍ كبيرٍ في السن. عندما علم فارح بعدم قدرته على العودة للصومال مجدداً، كانت بحوزته 150 دولاراً فقط. ولم يعد لأكثر من 20 سنة. 

«علاقتي بالصومال مبهمة،» يقول، «إني أمثل كلّ شيء غير صومالي بالنسبة للصوماليين بسبب طريقتي في التفكير والكتابة والطريقة التي أتكلّم بها عنهم. فإذا كان الإغريق قد قسّموا العالم إلى إغريقٍ وهُمّجٍ، أنا أقسّم العالم إلى صوماليين وغير صوماليين».

اتجه بتثاقلٍ نحو مطبخ صغيرٍ عائمٍ في خردواتٍ من أدوات الطبخِ حيث بعض سمك سيّاف البحر المشوي على مقلاة فوق الموقد القديم. سألني مشيراً إلى الصّلصة الحارة التي يسكبها فوق الطعام: «هل تستطيع تحمل قليل من الحرارة؟»

«علينا الارتجال،» متحدثاً عن وجبة الغداء التي يبدو أنّه حضّرها مسبقاً حتى نتمكن من الحديث دون أن يتشتت انتباهه بالطّبخ. أعدّ صَحنين؛ طبقاً من العدس وطبقاً من الفطر المطهو مع البصل، ووضع الصحنين في المايكرويف. وهنالك أيضاً طبقاً كبيراً من سلطة الخس وزيت الزيتون وصلصة الخل.

اعتذرت له عن الإزعاج. «لا بأس، فأنت لست مسؤولاً عن ذلك،» أجابني مدققاً كلماته على نحوٍ تجعل من أبسط العبارات تلمح لمعنى عميقاً. 

قررنا تناول وجبتنا في التوسيعة الجديدة، والفارغة من الأثات باستثناء مكتبٍ رخيص سنتناول عليه الطعام، كرسي حاسوبٍ جلست أنا عليه، ومقعد جلس عليه هو.

«هل أود بعض النبيذ؟». أخبرته بأن قرائي يفضّلون غالباً أن يرفق الغداء بكأس أو اثنين من النبيذ. قال مجدداً بنبرة هادئة و هو يسكب بعض نبيذ «تول هورس» الأحمر في كأسين من الزجاج: «بمجرد أن تتناول كأساً من النبيذ في منتصف النهار ينتهي يومك»—ومرّة أخرى، بنبرةٍ غير مستعجلةٍ وبإيقاعٍ موزونٍ يعكس نفس إحساس العمق الذي يبثه حتى في العادي.

أغلب روايات فارح الـ 15 تدور أحداثها في الصومال، لكن ثلاثيته الأخيرة (وهي الثلاثية الرابعة له) تدور أحداثها بين الجالية الصومالية في نيروبي، أوسلو وفي—الرواية التي يعمل عليها حالياً—كيب تاون. أتسائل لم يتأقلم بعض الأشخاص جيداً مع المكان الذي يعيشون فيه، بينما يعجز البعض عن الاندماج.

في رواية «شمال الفجر،» والتي نشرت في 2018، زوجان صوماليان أصبحا بشكلٍ كاملٍ نوروجيّين كوزموبوليتيّين، لكنّ ابنهما يلتحق بصفوف «حركة الشباب المجاهدين» ويعود إلى الصومال. وحكاية شابة صومالية المولد تعيش في النرويج وترتدي الحجاب وترفض وضع حزام الأمان في السيارة باعتباره غير إسلامي؛ ستعيش وتموت بمشيئة الله. وفتاة أخرى صومالية المولد مستقرّة في إيطاليا وتتخذ لها ثلاثة عشاق في بلدان مختلفة لتشبع رغباتها المتعددة: الفكرية، الجمالية والجنسيّة—مع الذي يملك أكبر عضو ذكري. و بعض شخصياته مثلية. فما الذي يفسر ردود الفعل هذه المختلفة بشدةٍ على جاذبيّة—أو لا-جاذبيّة—الليبيرالية الغربية؟ 

صراع القيم داخل الوحدة الأسرية هذا—معركة تعكس صراعات أكبر داخل المجتمع—يقبع في قلب كلّ شيءٍ يكتبه. «يتدخل الصوماليين في شؤون بعضهم البعض طوال الوقت، ويخبرونك بما يجب عليك فعله كلّ يوم، وهذا أمر غير مقبول،» يقول، «والتساؤل المطروح هو: كيف يمكن أن تستمر في تحقيق التوازن في الحياة إذا كان قريبك، الذي لم يزر مكانا آخر إطلاقاً غير المسجد، لا يسمح لك بتناول كأس من النبيذ، ولا بالدخول لكنيسةٍ وتأمل جمالها؟».

«في كلّ عائلة صومالية توجد أبويّة،» واصل حديثه بينما كان يضع في فمه لقمةَ فطرٍ بنكهة حامضة رائعةٍ. ولكوني كنت جائعاً، أكلت أكثر منه، فألقي بسؤالٍ وأغطس في صحني باحثاً عن لقمة من العدس الحار أو السمك الطري. «وفي غياب الأبويّة، تحضر الأموية،» يضيف فارح، «الصومالي كفردٍ ليس له صوت. عليه احترام الأشخاص الأكبر سناً. عليه احترام الإسلام. عليه احترام كل شيءٍ لدرجة أنه كفردٍ يصبح مدينا لشخص آخر،» يقول وهو يحوم بشوكته فوق الصحن.

«الفكرة التي أحاول إيصالها هي أن الفرد يولد حراً، ما يعني أنه يجب أن يبقى حراً. هذه هي فكرتي. وأي شيء آخر يشوه نزاهة وشرف الفرد ديكتاتوريٌّ.»

«الصومالي كفردٍ ليس له صوت. عليه احترام الأشخاص الأكبر سناً. عليه احترام الإسلام. عليه احترام كل شيءٍ لدرجة أنه كفردٍ يصبح مدينا لشخص آخر،»

يصف فارح نفسه بأنّه «علماني راديكالي». فهو غالبا ما يكتب عن الأفارقة من الطبقة الوسطى وهم يمارسون حياتهم العلمانيّة. أخبره ذات مرة ناشر ياباني بأنّه لن يترجم كتبه لأنها لا تبدو إفريقية بما يكفي. «ليس بها ضرب طبولي بما يكفي،» قال مكفهراً. لا يسافر فارح للبلدان التي لم تترجم كتبه.

آرائه حول الحفاظ على السلم بين أفراد العائلة المتنازعين، الأبويين المتنازعين، العشائر المتنازعة أو البلدان المتنازعة ليبيرالية على طول الخط. «أحترم الإعتقاد، وأي شخص يمارسه، لكني لا أقبل أحداً يفرضه علي،» يقول، «لا أستطيع اقتطاع خمس دقائق من وقتي للأشخاص الذين لا يتقبلون آرائي،» يضيف قالباً مقولة غروتشو ماركس. (غروتشو ماركس لم يكن لينضم أبداً لأي نادٍ يقبل به كعضو).

«هل تفهم قصدي؟ مستوى تسامحي عال جداً إلاّ مع شخصٍ يحاول فرض الأمور علي.»

هاجر والدا فارح من الصومال إلى إثيوبيا واستقرا في المنطقة الصومالية الإيثوبية عندما كان عمره 18 شهرا. اشتغل والده مترجماً عند الحاكم البريطاني، بينما كانت والدته الشاعرة تنظم قصائد لحفلات الزفاف. «لو لم تنجب أمي عشرة أطفال، لكانت أصبحت شاعرة عظيمةً،» يقول بلوعةِ حزنٍ، وأضاف بأن مسيرته الأدبية تمثل، إلى حدٍ ما، تكريماً لموهبتها التي قُمعت. «لم تلتحق أمي بالمدرسة قط. وكانت كتابيّة في الأدب الصومالي الشفهي. ولكنّها لم تكن كتابيّة بالمعني الذي عليه أنا وأنت».

بعمر الثامنة أو التاسعة، برزت أولى محاولاته في الكتابة بفضل والدته. فقد نظمت قصيدة لأحد الجيران ولم يكن لديها الوقت الكافي لتسليمها شخصياً له، وبدلا من ذلك، تلتها عليه ووكلت إليه مهمة إيصالها.

«كنت ألعب بالكرة ونسيت بعض الأبيات،» يتذكّر مستدعيًاً سحر الشرود الطفولي، «عندما وصلت لمنزل الجار، غيرتهم بأخرى من عندي. استدعتني أمي لاحقاً وقالت لي: تلك ليست كلماتي. فأجبتها: لقد نسيتها واستبدلتها بأبياتٍ من عندي، فهل هي جيدة؟ فأجابت: نعم».

يصف فارح نفسه بأنّه «علماني راديكالي». فهو غالبا ما يكتب عن الأفارقة من الطبقة الوسطى وهم يمارسون حياتهم العلمانيّة. أخبره ذات مرة ناشر ياباني بأنّه لن يترجم كتبه لأنها لا تبدو إفريقية بما يكفي. «ليس بها ضرب طبولي بما يكفي،» قال مكفهراً. لا يسافر فارح للبلدان التي لم تترجم كتبه.

كان ذلك هو التشجيع الذي احتاجه فارح. وما يزال لحد الآن يردد كلماته بصوتٍ مرتفع بعد خربشتها بخط يده بأقلام ملونة مختلفة، قبل تدوينها على شكل نص– هذه الأيام على حاسوب محمول. «العيش وحيداً نعمة. لا أحد يعتقد أني فقدت صوابي عندما أصرخ مردداً الحوار، » قال مبتسماً.

وعلى عكس والدته، تلقى فارح تعليماً جيداً. وكثيراً ما تحدث عن مدى سخافة تفضيل تعليم الأولاد على تعليم البنات. تعلم الصومالية و العربية و الإنجليزية، والإيطالية لاحقاً التي تعلمها من أخيه الأكبر الذي درس في مدرسة حدودية في الصومال الناطقة بالإيطالية. أخوه، الذي توفي، أدخله أيضاً إلى عالم الأدب، ومن ضمنه دوستويفسكي. «هو الذي شكّل حياتي الفكرية،» يقول.

وكانت تلك بداية لعلاقة حب كثيفة بشكلٍ غير عادي مع الكتب. يقول إنّه يحتاج أن يكون محاطاً بها في كل الأوقات. مرّة كان في نيويورك يحاول إنهاء رواية في شقة خالية من الكتب، يقول: «أتذكر أني تحدثت عن عدم قدرتي على العمل في هذه الظروف،» فأحضر له وكيل أعماله 150 كتاباً بعد يومٍ لكسر اللّعنة.

لهذا السبب لا يستطيع الكتابة في الصومال التي قال عنها ذات مرة بتهكمٍ محبطٍ بأنّ «شراء سلاح فيها أرخص من شراء رواية».

للكتب، يقول فارح، حياةٌ خاصة بهم. «يحاورون أشخاصاً آخرين. لا يتوقفون عن الحديث مع كتبٍ أخرى. فإذا نظرت إلى نبذةٍ عن أحد الكتب، ستجد أنّ 'هذا الكتاب يذكرني بغونتر غراس'، 'هذا الكتاب يذركني بسلمان رشدي'. وذلك راجع لكون الكتب تكمل حوارها من خلال كتبٍ أخرى، والقارئ هو الشخص الذي عليه اكتشاف أي الكتب يتحاورون معها».

ومن هذا المنطلق، يقول إنّه ما أن يؤلف كتاب ما، عليه أن يشق طريقه لوحده في العالم. «أستطيع العيش دون كتبي، فهي تصنع أصدقاءها بنفسها. فبعض الناس يحبّون كتبي أكثر مما أحبها أنا». 

سألته عن ماذا يفعل بينما تُكوّن كتبه معارفَ جديدة. «أكتب كتاباً آخرى،» أجابني مقهقهاً. انصرف إلى المطبخ وعاد بزجاجة النبيذ ليملأ كأسي من جديدٍ.

إذا كان هدف فارح الفرار من قيود الأسرة، فقد نجح في ذلك بشكلٍ جيد؛ على الرغم من كونه على تواصلٍ دائم مع أخواته الثلاث الباقيات على قيد الحياة. مطلقٌ مرتان، آخرها من كاتبة نيجيرية-بريطانية، وقد انتقلت مع طفليهما للعيش في كاليفورنيا.

يعيش حالياً لوحده في شقة صغيرة—بعدما باعوا منزلهم المكون من 7 غرف نومٍ—وهو الآن في إجازة سنتين من عمله في كلية بارد في نيويورك، حيث يشغل منصب أستاذ مرموق في الأدب. و رغم أن لديه أصدقاءاً عدة في كيب تاون، يقول إنه يستطيع البقاء في شقته لأيامٍ دون أن يرن هاتفه.

أخته الرابعة، والتي اشتغلت كأخصائية تغذية في أفغانستان مع اليونيسيف، قتلت على يد طالبان بعد هجوم لهم على مطعم كانت تتناول فيه وجبة الغداء. في روايته «الاختباء على مرأى من الجميع،» جزء من ثلاثيته الأخيرة، يصور الفصل الافتتاحي حادثة مشابهة بشكلٍ رهيبٍ. يتلقى رجل صومالي يعمل للأمم المتحدة في مقديشو ورقةً كتب عليها «Deth—تحريف لكلمة موت–Death بالإنجليزية—و ينتهي الفصل بانفجارٍ يقطعه شظايا. نشرت الرواية في 2014، بعد فترة ليست بطويلةٍ من مقتل شقيقته، لكن الكلمات كانت قد كتبت قبل ذلك. «كما لو تمنيت موت أختي،» يقول بحزنٍ شديدٍ.

بعد تناولي للطبق الرئيس بالكامل، سألني ما إذا كنت أرغب ببعض المانغو والقهوة. انتقلنا إلى المطبخ، حيث حضّر قهوة كينية في موقد آلة قهوة إيطالية الصنع. وفي تلك الأثناء، قسم المانغو إلى نصفين وأزال البذرة بمهارةٍ. المانغو من ديربان، وهي، دونما شك، ألذ مانغو تذوقتها على الإطلاق: مليئة بالعصير ولاذعة المذاق.

عاش فارح في الهند وبريطانيا وألمانيا والسويد والولايات المتحدة الأمريكية، لكنه يشعر بالراحة أكثر، كما يقول، في بإفريقيا، حيث أقام في غامبيا وكينيا ونيجيريا وأوغندا والسودان والآن في جنوب إفريقيا. وتحدث عن الرضى والنجاح اللذين وجدهما في حياته المترحلة: «أنا، نور الدين، ساعدني العالم الذي وجدت نفسي فيه».

عدت به إلى موضوع الصومال الذي يجذب الانتباه بقوةٍ. يتذكّر مُقاديشو ستينيات وبداية سبعينيات القرن الماضي حينما كانت المدينة مختلفة تماماً عما هي عليه اليوم حيث مثقوبةٌ بسنواتٍ من الحرب الأهلية وهجمات «حركة الشباب،» وخاضعةٌ لقيود الإسلام الراديكالي. المدينة التي يتذكرها هي التي هضمت موجاتٍ من الغرباء على مر القرون—من العرب والترك والفرس والزانجيباريين والإيطاليين—الذين تركو بصمتهم على المدينة الساحلية الكوزموبوليتانيّة ذات العمارة المبهرة.

عاش فارح في الهند وبريطانيا وألمانيا والسويد والولايات المتحدة الأمريكية، لكنه يشعر بالراحة أكثر، كما يقول، في بإفريقيا، حيث أقام في غامبيا وكينيا ونيجيريا وأوغندا والسودان والآن في جنوب إفريقيا. وتحدث عن الرضى والنجاح اللذين وجدهما في حياته المترحلة: «أنا، نور الدين، ساعدني العالم الذي وجدت نفسي فيه».

«أتذكر عندما كانت مُقاديشو مدينةً مسالمة، عندما كنت تستطيع التجول في أزقتها في الثالثة صباحاً دون قلقٍ،» يقول فارح. كان يذهب مجموعات من الرجال والنساء معاً إلى حفلة ما، وينامون ببراءة في نفس الغرفة إذا لم يجدوا سيارة أجرة. «أتذكر ذلك الصومال، حينما كان يمكنك تخيل عالم مشتركٍ».

في تلك الأيام، يقول، كانت النساء ترتدي الغانتينو، وهو فستان به شق من الجانب يكشف جزءاً من الصدر، لكن الآن، عندما أصبحت النساء تغطي جسمها بالكامل، أصبح الرجال أكثر هوساً بالجنس.

أخبرته بأنه يتناول أحياناً هذه المواضيع بصراحةٍ يكاد يقصد بها الإساءة. ففي رواياته، يصف لباس النساء اللواتي يغطين أجسامهن بالكامل بـ «الخيام،» أما إذا ارتدت شخصية فتاة قميصاً عصرياً «فحتما سترجم بمجرد رؤيتها» بهكذا لباسٍ في أي «بلاد مسلمة». ويتأمل أحد الشخصيات الرئيسة قائلاً: «إن بعض الصوماليين يعانون من تفكير رجعي أصيلٍ». سألته عن رأيه في مقارنة بوريس جونسون المثيرة للجدل للبرقع بصندوق البريد المنزلي، فأجاب ضاحكاً: «أنا كصومالي أستطيع تأكيد ذلك».

إذا كان لا يعترف بالصومال الجديدة، فهل هنالك أمل، أتساءل، في عودة ذلك الصومال الليبيرالي القديم أم أنه مات للأبد؟ سؤال أجاب عنه دون تردد: «الصومال القديمة ستعود». «فهذا الجيل بالضبط من الصوماليين غير العلمانيين سيزول. في كل جيل، هنالك تغييراتٌ. كانت هناك فترة عندما كنت في الصومال ظننت فيها أن أغلب الناس كانوا مثلي. سيأتي مجدداً اليوم الذي سيصبح فيه الصوماليون أفضل أو قريباً مني».

 

تُرجمت المقابلة من هذا المصدر.