الخميس 7 نوفمبر 2024
في صغري كانت الزّيارات التي أقوم بها مع أمي هي الترفيه الوحيد الذي أحصل عليه، وقد استمتعت بها بشكل جنوني، فحين تطرق أمي الباب كنت أشعر بمزيج من الخوف والإثارة، وكانت القشعريرة تصل إلى حد يقف معها شعري، وتلمَع عيناي، تدُوران وتبحثان عن شيء أجهله وعندما أدخل إلى بيت أحدهم تتسع عيناي ويشرق وجهي بفرحة لا توصف أتجوّل بخطوات سريعة وواسعة، أمسك كل شيء من حولي، أتفحص الأثاث والألوان، ويداي تلمسان الجدران وكأنها تكتشف شيئًا سحريًا، كل زاوية تثير فضولي وكل صوت يلفت انتباهي وأتساءل عن كل شيء، مِن هوية أصحاب البيت حتى لماذا تبدو الألوان هنا أكثر إشراقًا، ينكشف لي عالم جديد مليء بالاحتمالات، ودهشتي تتأرجح بين ضحكات خجولة وابتسامات عريضة.
كانت أمي تمتلك متجراً تبيع فيه جمييع الأشياء، الملابس، الأحذية، أواني المطبخ، الفواكه والخضار، الفحم وأدوات التجميل، جميع أنواع اللحوم وحليب الجمل والماعز والبقر، الحلويات والخبز المصنوع يدوياً، كنّ نساء الحارّة يشترون من متجرها، وأحياناً يأخذون احتياجاتهم منها بالدّين، ويوم الجمعة المفضّل لديّ كانت تذهب إلى المماطلات منهن في سداد الدّين، وكنت أرافقها في معظم الأوقات .
أذكر أن غرف النّوم كانت محلّ اهتمام بالنسبة لي، ففي طفولتي كانت تلك المنطقة المكان الوحيد المرتّب في كل المنازل، وغالباً ما يوجد فيه سريرٌ ودولاب بمرآة ضخمة وتفوح منه رائحة جيدة، إضافة لذلك كانت الأمهات تخبّئن فيها النقود والأشياء الثمينة وأحيانًا بعض الأطعمة التي لا يأكلها إلّا الآباء ومن يمرضُ من الأطفال.
كنت أُتْعِب ذاكرتي الصّغيرة كي تحفَظ الطّرق والبيوت التي نزورها، ووجوه الناس واسماءهم لأنني كنتُ أعيدُ تلك الرّحلات وحدي وغالبا بدون علم والدتي، والذهاب إلى بيت أحدهم حتى وإن كنت صغيرا لم يكن غريبا أو مستهجناً في تللك الفترة.
والزيارات التي أقوم بها كانت أفضل بكثير من تلك التي أرافق فيها أمي، كانت تراقبني وتضع لي قواعد صارمة وتحرص على اتّباعي لقواعدها المملّة، تخبرني أن لا أوجّه كلامي إلّا إلى الأطفال، وأن لا آكل أو أشرب شيئًا حتى ولو وضعوه أمامي، وليس من اللّائق أن أستمع إلى أحاديث الكبار وفي نفس الوقت يجب عليّ أن أبقى ملتصقة بها.
أما اذا ذهبت وحدي فكل شيء مختلف وله طعمٌ خاص، أتحدث مع الجميع أعبث بالأشياء وأطلب العصائر بنفسي، ولو خالفني الحظ أحاول التسلُّل والقفز على السرير الكبير.
ذات يوم حدث أن زرت امرأة بينها وبين والدتي عداوة، كانت أمي لا تضيقها وتكرهها بشدة وكنت أعرف ذلك، ولكن لم يكن بيدي أي حيلة فقد كان البيت الوحيد في حيّنا والذي لم أدخله في حياتي، وبدا لي أن فضولي يقتلني، وبعد تردّد قرّرت الذهاب وكانت تلك آخر زيارة لي قمت بها.
قرعت الباب، كان الجو بارداً عندما وصلت هناك وقد أحكمت سترتي على كتفيّ أنظرإلى الباب بتوتر واضح وانتظر أن يفتح لي، سمعت صوت القفل، ثم ُفتح الباب ببطء لتنتصب المرأة التي أعرفها أمامي وملامحها تعبّرعن القلق!
لمحت في الخلفية تفاصيل بسيطة للبيت.
وبعد لحظة صمت طويلة سمحت لي بالدخول، وطوال المدّة التي قعدت معهم لم تفعل تلك المرأة شيئا إنما اكتفت بالنظر إلي وكأنني شخص مخبول، لم يكن هناك شيء مميزا أو مثيرا للإهتمام وتبدّدت سعادتي فورا.
بعدها بيومين اكتشفت أمي الأمر فضربتني وشدت شعري وشعرها وصرخت وتوعدت، ولم أستطع إقناعها بأن زيارتي تلك لا تمت بإي صلة عما حدث بينهم.