تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الأربعاء 23 أكتوبر 2024

قص

سيدة شمسة

30 يونيو, 2024
الصورة
ملصق تجريدي أنثوي في لوحة ملونة.
ملصق تجريدي أنثوي في لوحة ملونة.
Share

عندما وصلتني يوميات تلك السيدة، كانت السماء داكنة، تغطيها غيوم كثيفة رمادية اللون، تنذر بهطول المطر، كنت في المطبخ أعدُ معكرونة باللحم المفروم، اتصلت بي والدتي، وقالت أن خبر وفات قريبة لها وصلها قبل قليل، عبر سيدة مسنة إثيوبية، زعمت أنهما عاشتا معا في دار رعاية للمسنين في باريس، ولم أكن سمعت عن هذه القريبة من قبل. وقالت أن موتها كان منذ سنوات طويلة، ولم تترك غير دفتر، أوصت أن أعطيه للمهتمين بخبرها من عائلة سليمان ديرية علي.

 بعد فترة وصل إلي الدفتر، بغلافه البني الغامق، وملمسه الناعم الذي يحمل آثار الزمن عليه، على شكل تشققات دقيقة باهتة، وبأوراق صفراء متآكلة من الحواف ومليئة بالغبار، تحمل رائحة عتيقة ومميزة، وقد وضعت عليه قفلا معدنيا صغيرا صدئاً، يحمل مفتاحًا نحاسيًا معقوفًا، في داخله رسومات يدوية باهتة، تصور أشخاصًا ومناظر طبيعية ومنازل، ورسائل مكتوبة بلغات مختلفة، تحمل توقيعات أصحابها. لم يكن مجرد دفتر للكتابة، إنما رحلة عبر الزمن، ونافذة على حياة شخص عاش هائما على وجه الأرض!

لاحقاً، أخبرتني أمي أن خالتها هربت، واختفت بعد أيام من تزويجها لابن عمها نور، ولم يرها أحد بعد ذلك. نتيجة لذلك تبرأت منها القبيلة، ومنع أبوها إحضار ذكر اسمها في البيت، واعتبرها ميتة بالنسبة له، الأمر الذي كان متوقعا من جدي لأمي، ومن يومها تمَّ محوها من سجل العائلة. وأضافت بنبرة متشككة، سمعت أنها عاشت في السعودية تعمل خادمة، ولا أعرف عنها شيئا آخر.

كتبت في دفترها بالفرنسية أنها في السادسة عشرة أجبرت على الزواج من نور، ابن عمها الذي كان يسيء معاملتها، فهربت منه إلى أثيوبيا في ظروف لم تذكر تفاصيله.

في سبعينيات القرن الماضي، التقت بماني نسبة إلى ماني، النبي البابلي والذي كان والده معجبا به، بالرغم من أنه كان رجلا مسيحيا متشددا، وأغرمت به حتى آخر صفحة من دفترها، ومع أنه كان يعنّفها معظم الوقت، إلاّ أنها أشارت إليه في يومياتها ب"الحب الأعظم في حياتي". عاشت معه عشرة أعوام في مدينة أكسوم، بالقرب من كنيسة مريم سيدة جبل صهيون في بيت صغير مكوّن من غرفة واحدة وحمام مظلم ومليء بالألغاز، وبعد سنتين من وصولها المدينة أجادت التغرينية، والتحقت بمركز أفادينا الخاص بالنساء الذي تديره أم ماني، هناك تعلمت الكتابة والقراءة، وكيف تخيط الملابس وأشياء أخرى، وأصبحت بارعة في تطريز الملابس وتعديلها، وتقدم خدماتها لنساء الحارة طوال النهار.

كان ماني فلاحاً بسيطاً، يذهب قبل شروق الشمس ولا يعود قبل المساء، بجسد نحيف يتسم بالصلابة، وملامح وجه تعكس السنين الطويلة من العمل في الحقول. كانت تعشق بشرته الداكنة المسمّرة من أشعة الشمس، ويداه المتشققتان والخشنتان، ورائحة العرق التي تلتصق بجلده وملابسه والممزوجة بالطين.
لكن ماني قرّر الزواج من هيلينا الجميلة بضغط من والدته، وهذا لم يترك لها خيارا غير الرحيل، فقامت بتوديعه بلا دموع، وتواعدا بالمراسلة، وكل ما يقتضيه الموقف من غير أن تعني شيئا لكليهما، ثم رحلت مع مجموعة متجهة إلى السعودية، مدينة يُنبع بالتحديد التي كانت توجد فيها فرص عمل أفضل. 

كانت رحلتها شاقة، كما وصفت أحداثها في الدفتر الأوّل، وكان الجميع يعاملونها معاملة أبيها تماماً.
كتبت بالصومالية هذه السطور ليلة وصولها إلى السعودية:

"أنا الآن متشتتة وأشعر بالوحدة والتعب، أريد أن أنام، ولكنني لا أستطيع.. بل أستطيع أن أنام ولكنني لا أريد ذلك".
وفي الصفحة التالية كتبت: "لست محبوبة ماني".

خمسة وعشرون سنة قادمة سوف تتقن شمس اللغة العربية كما التيغرانية، وأصبح تنقلها في أرجاء المملكة سهلاً، حيث قامت بكل عمل يمكنها القيام به، خادمة في البيوت ومساعدة في الكوافير أوعاملة نظافة في المستشفيات، وسوف تتزوج ثلاثة مرات من دون أن تحصل على طلاق واحد.

لم تذكر اسمها الحقيقي أو عائلتها في أي مكان، وكانوا ينادونها بالإثيوبية فقط.

فكرة العودة إلى الوطن كانت تداعب رأسها، ولكنها لم تجرأ أبدا، كانت تخشى أن لا يتعرف إليها أحد، وفضلت العيش في حالة من الخوف والقلق من هاجس الترحيل والإبعاد إلى الوطن.

وفي لحظة من اليأس، قررت الرحيل مرة أخرى، ورحلت مع قافلة من أولئك الذين تعبث معهم الحياة باستمرار المتعودون على الضياع والتيه.

خاضت معهم رحلة الموت بتفاصيلها، ووصلت هناك امرأة خمسينية بلا جذور أو انتماء، مجردة من كل أمل أو حلم، وجهها فارغ من أي معنى، لا يعرف سوى الخيبات والترحال والهجرات غير الشرعية، وبعد فترة قصيرة تحوّل مظهرها بسهولة إلى أوروبية، تلبس معاطف فضفاضة وقبعات بونيه الصوفية وأوشحة رمادية بمجوهرات من اللؤلؤ المزيّف، ولم تفقد مهارة تعلّم لغة جديدة، فتعلمت الفرنسية وعملت مترجمة مستقلة لسنوات كثيرة.
لم يكن لها أصدقاء، وكانت علاقاتها لا تدوم طويلة كالعادة، في شقتها الواقعة في حي شعبي متواضع في باريس، كانت أخيرا شبه هادئة وغير مصدومة من أحد، غير أنها في سنواتها الأخيرة أحبطها التقدم في العمر والوحدة والبرد وآلام المفاصل، وأصيبت باكتئاب حاد مصحوب بأرق لا يحتمل، وأصبحت تنسى كثيرا من تفاصيل حياتها، وتقضي أياما تقلب ما تبقى من ذكرياتها في أكسوم.

قبل سبعة أعوام، ماتت خالة أمي في دار رعاية للمسنين في باريس، وتركت يومياتها مع سيدة إثيوبية، تحملت عناء إيصالها إلينا، بعد بحث طويل ومتعب.

تقول في منتصف إحدى الصفحات "لست مخلصة أبدا، لم أكن يوما مخلصة لوالدي، ولا لأزواجي، لمبادئي أو حتى للرّب.. إنني أخون في نهاية المطاف، الخيانة تغطي كل شيء أفعله، ولهذا السبب عشت حياة تافهة".