تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الخميس 7 نوفمبر 2024

سياسة

جاهزية الجيش الصومالي: الاستحقاقات الأمنية ومعضلة الفعالية

4 نوفمبر, 2024
الصورة
Somali army
جنود من قوة كوماندوز الجيش الوطني الصومالي، داناب، عند تخرجهم من التدريب الأساسي في مطار بيليدوغلي حيث يتم تدريبهم من قبل قوات كوماندوز العمليات الخاصة الأمريكية للمساعدة في محاربة مقاتلي حركة الشباب الإسلامية. 3 أغسطس 2023. (تصوير جوناثان تورجوفنيك / غيت
Share

يتواصل التنسيق بين المؤسسة الأمنية الصومالية وقوات حفظ السلام التابعة للاتحاد الإفريقي الانتقالية "أتميس"، استعدادا لانسحاب هذه البعثة وتولي الجيش الصومالي مهام تعزيز الأمن والاستقرار بحلول ديسمبر/كانون الأول، بالتوازي مع بدأ مهلة السنتين لإنهاء مهام بعثة الأمم المتحدة لمساعدة الصومال "أونسوم". لقد انصبت جهود المؤسسات الدولية، في إطار ترتيباتها لبناء السلام بالصومال، على تعزيز قدرات الجيش الصومالي، وتأهيله لتسلم المسؤوليات الأمنية في جميع أنحاء البلاد

تقاطعت الجهود الداخلية والخارجية لإرساء دعائم السلام في الصومال، وبناء قدرات المؤسسة الأمنية، فعززت محورية جهودها الأمنية للقضاء على حركة الشباب، وضمان انتشار قواتها في مختلف المناطق الصومالية الجنوبية. لكن لا تعكس نجاحه في بناء عقيدة عسكرية وطنية، تكفل ضمان كفاءة وتنظيم وحداته القتالية، وتسليحها للقيام بواجبتها، مادامت المؤسسة رهينة الدعم الخارجي، وأسيرة التأثيرات الإقليمية والداخلية. 

بناء القدرات العملياتية للجيش الصومالي

يُصنف الجيش الوطني الصومالي، في أوائل السبعينات، ضمن أقوى الجيوش الأفريقية تسليحا وتنظيما، قبل دخوله في حرب مدمرة مع إثيوبيا عام 1977. تأسس عام 1960 بعد استقلال الجمهورية، بفضل مساهمة الضباط والجنود الصوماليين في الوحدات التابعة للجيش البريطاني ككشافة صوماليلاند، واندماجهم مع الضباط المنخرطين بقوات الشرطة الإيطالية الصومالية التابعة للجيش الإيطالي، بعد الوحدة بين صوماليلاند البريطانية والصومال الإيطالي، تحت قيادة الجنرال داوود عبد الله حرسي. 

حاولت القوى الوطنية بعد الاستقلال بناء الدولة الصومالية، وتعزيز قدراتها الأمنية والاقتصادية، لكن الانقلاب العسكري في أكتوبر/تشرين الأول 1969، بقيادة سياد بري، أنهى مسار الحكم المدني، وبدأ خطوات بناء مجتمع اشتراكي يمنح الأولوية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية. وصف مؤرخون هذه الفترة "بالسنوات الذهبية للصومال"، لكن ما تحقق في بداياتها سيتبخر بعدما انقلب النظام سلطويا استبداديا. 

انخرط نظام بري في تجربة الاشتراكية العلمية، وانزلق إلى مواجهة عسكرية مباشرة مع إثيوبيا. ساهمت تعقيدات هذه الحرب في تأزيم الأوضاع الاقتصادية، فكانت دافعا لانخراط قواته في تمردات وتحالفات عشائرية، وبرزت ملامحها بقوة بعد فشل محاولة للانقلاب على نظامه عام 1978، مُساهمة بذلك في تصاعد القبضة العسكرية لنظامه، وتشظي المؤسسة الأمنية. 

هكذا تعقدت مسارات الدولة الصومالية، فاندلعت مطلع ثمانينات القرن الماضي ثورة مسلحة، انتهت بسقوط نظام بري، وانهيار مؤسسات الدولية وتفكيك الجيش الصومالي. ساهم الانقسام المجتمعي في تعقيد الحياة السياسية والاقتصادية والأمنية، ما زج بالبلد في أتون حرب أهلية. كما تعقد المشهد الداخلي بعد سيطرة أمراء الحرب وزعماء العشائر والحركات الإسلامية على مفاصل البلد. بعد سنوات من الهدر التنموي والانقسام السياسي وعدم الاستقرار، تم التوافق على خطة للسلام عقب مشاورات مكثفة، تقضي بانتخاب حكومة انتقالية، وإعادة بناء مؤسسات الدولة.

قصد مساعدة مقديشو على إنجاح مهمة بناء الدولة الصومالية، عُقدت عدة مؤتمرات دولية تبحث قضايا الاستقرار والتنمية بالبلد، من أبرزها مؤتمر لندن حول الصومال لإعادة بناء المؤسسات الأمنية وإصلاح القطاع الأمني الصومالي في ماي/أيار 2017، الذي أكد على الحاجة لبناء قوة صومالية وطنية مستقلة. كما ناقش سبل تمويلها وتأهيلها وتطوير قدراتها، ونص على إعداد شراكة استراتيجية، ودعم عملياتي لمؤسسة الجيش، بما يكفل في النهاية نقل المهام الأمنية إلى هذه المؤسسات الوطنية.

لا تزال المؤسسة الأمنية في مرحلة إعادة البناء، وتعزيز فعاليتها للتصدي للتحديات الأمنية. لكنها أضحت عاملا محوريا في الاستقرار وبسط النظام ومكافحة الإرهاب، يجسده ميدانيا نجاحها في استعادة مساحات شاسعة، في ولاية جوبالاند وفي منطقة شبيلي الوسطى وغيرها. كما تواصل التصدي لحركة الشباب وإضعاف قدراتها، وتعزيز سيطرتها على المناطق التي كان يسيطر عليها التنظيم. ويراهن الجيش الصومالي على التعاون والشراكات الخارجية لتعزيز قدراته وجاهزيته، واستعادة مكانته كأهم مؤسسة عسكرية بالمنطقة.

الدعم العملياتي للجيش الصومالي

فشلت العملية العسكرية الأمريكية في الصومال إيذانا بفتح المجال للتدخلات الأممية تحت يافطة تهديد السلم والأمن الدوليين، وتراوحت عمليات القبعات الزرق بين التمديد والانسحاب، ثم التنسيق مع الاتحاد الأفريقي والاتحاد الأوروبي، وتعززت حدتها بانخراط قوى إقليمية مثل إثيوبيا في الصراع الداخلي الصومالي، فحولت البلد إلى "سوق للعسكرة". 

لكن هذه التدخلات الخارجية فشلت في ضمان الاستقرار، وكان التحدي المحوري إرساء دعائم مؤسسات محلية وتسوية سياسية للصراع الداخلي، فعقدت عدة مؤتمرات ومشاورات، ورسم مؤتمر لندن لعام 2017 محددات بناء مؤسسة أمنية صومالية مستقلة، تعهد إليها مهمة الأمن والاستقرار، وتكفل انسحاب القوات الأجنبية.

هكذا يتقاطع الرهان على إعادة تشكيل المؤسسة الأمنية الصومالية الوطنية مع التحدي الأساسي لتسلم مهام بعثة الاتحاد الإفريقي الأمنية، وتجري العمليات على قدم وساق لإنهاء ولايتها، وبدء ولاية جديدة للبعثة تركز على الدعم المحدود للقوات الصومالية الذي ستتكلف بها بعثة "أيصوم"، بالتوازي مع تشجيع تعاون المؤسسات الصومالية مع الشركاء الدوليين والإقليمين لتعزيز جاهزية القوات الصومالية وتطوير قدراتها.

في هذا السياق، تتمحور مهمة المؤسسات الدولية لدعم الجيش الصومالي على تطوير قدراته البشرية والعسكرية، وتأهيل ألويته وكتائبه لاستلام المهام الأمنية، وإعدادها لتسلم المسؤوليات الأمنية. غير أن نجاحها يتوقف على الاستمرار في التعاون معها ودعم قدراتها الذاتية، وعلى وفاء الشركاء الدوليين والإقليمين بتعهداتهم؛ دعما وتدريبا وتسليحا ومواكبة لعملياتها.

تتواصل على الصعيد الميداني عمليات الاستعداد لإنهاء مهمة البعثة الإفريقية، فتم تسليم عشرات القواعد العسكرية التي كانت تابعة لقوات البعثة إلى الجيش الصومالي، كما تتواصل عملياته لمحاربة حركة الشباب، وتفكيك قواعدها ومطاردة قاداتها، واستعادة السيطرة على مناطق كانت تحت سيطرتها. وإن كانت الحركة لا تزال قادرة على شن هجمات مباغتة، ناهيك عن سيطرتها على مناطق شاسعة.

علاوة على ذلك، حافظت المنظمات الدولية على دعم الجيش الصومالي، فوافق الاتحاد الأوروبي على دعم مالي يناهز 70 مليون يورو، بالإضافة إلى تعهدات بتوفير معدات وإمدادات عسكرية، وإن كانت الشكوك تثار حول ضمان استدامة هذه التمويلات. كما أعادت الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي تأكيد التزامهما بدعم بناء وتعزيز قدرات المؤسسة العسكرية.

من جهة  أخرى، تراهن الصومال على التنسيق مع القوى الدولية، وفق هذا المقتضى تعهدت الولايات المتحدة الأمريكية ببناء خمس قواعد عسكرية جديدة لصالح الجيش الصومالي، بموجب مذكرة تفاهم بين البلدين. لكنها ليست إلا تعويضا لمحاولة الرئيس السابق دونالد ترامب تفكيك قواعدها في البلد، قبل أن يتراجع الرئيس الحالي جو بايدن عن هذا الالتزام، بإعادة ترتيب الحضور الأمريكي، بشكل غير مباشر، بالمنطقة عبر مساهمة الجيش الأمريكي في تدريب وتجهيز لواء الداناب للقوات الخاصة الصومالية، منذ عام 2014، وفي بناء القدرات القتالية للجيش الصومالي.

بالتوازي، تتواصل على صعيد آخر عمليات التنسيق مع القوى الإقليمية، فكثفت الحكومة من توقيع مذكرات للتعاون العسكري أثارت جدلا ونقاشا، كما جسدت الرهان والاتكالية على القوى الخارجية، لضمان بقاء النخب السياسية وحماية مصالحها، عوض أن تساهم في تعزيز قدرات الدولة ومؤسساتها. وفي تفاصيلها، تثار الشكوك عن الحضور التركي بالشرق الإفريقي ومدى محورية التعاون الصومالي التركي العسكري. لكن تأكدت مكانته بإنشاء قاعدة عسكرية تركية بمقديشو عام 2017، وترسيخ التعاون بينهما، بمساهمة أنقرة في تدريب وتقديم المعدات العسكرية للجيش الصومالي. 

كما تجدد الجدل في الأشهر القليلة الماضية بعد تعزيز مقديشو لعلاقات مشتركة مع الجمهورية المصرية، ردا على توقيع مذكرة تفاهمبين إثيوبيا وصوماليلاند، تضمن للأولى منفذا بحريا، فيما تمنح للثانية اعتراف أديس آبابا بها دولة مستقلة. فشكلت هذه المذكرة إطارا لإعادة ترتيب التحالفات بالمنطقة، كما أحييت الانقسامات بين الصومال وإثيوبيا من جهة، والخلافات الإقليمية المصرية الإثيوبية من جهة ثانية، فتقاطعت إرادة البلدين لتثبيت معالم التعاون المشترك بينهما في كافة المجالات، وتوجت باتفاقية للتعاون العسكري المشترك في أوغسطس/آب الماضي، تخللها تقديم مساعدات عسكرية ساهمت في تأجيج التوترات مع أديس آبابا.

أعادت القمة الثلاثية الصومالية المصرية الإريترية المنعقدة الشهر الماضي بأسمرة ذات الجدل، فأكد بيانها الختامي على مثانة هذا التعاون الثلاثي، ودعم الجيش الصومالي بشكل ثنائي ومشترك.

وفي سياق متصل، برزت سياقات أخرى لتعاون الجيش الصومالي، لكن مع مجموعات مسلحة داخلية، حيث ساهمت مليشيات قبلية وقوات الدفاع الشعبية التابعة للولايات إلى جانب الوحدات العسكرية في العمليات ضد حركة الشباب، وأبرز هذه الوحدات مقاتلو معويسلي، الذين انخرطوا في التصدي لهجماتها، ومواجهة سلوكياتها، لاسيما عمليات التجنيد الإجباري للشباب، وفرض إتاوات على العشائر في مناطق سيطرتها. يبدو واضحا أن خطوة تسليح العشائر ستؤدي لاستهداف التوازنات العشائرية الهشة، وتؤجج عودة الصراع والاقتتال القبائلي.

تحديات مستمرة

لم يكن التحول لبناء قدرات المؤسسة الأمنية الصومالية بالأمر السهل، لكن كل الآمال معلقة عليها لتسلم المهام الأمنية والدفاعية، بعد انسحاب القوات الأجنبية، وقد أكسبته العمليات الميدانية المتواصلة لإرساء دعائم الاستقرار ثقة المجتمع الدولي والصومالي، وهذا ما يؤكده التنسيق الجماعي والدعم العملياتي والتدريبي لتجاوز تحديات داخلية وخارجية لا تزال تعرقل مساره.  

يظهر التحدي الأساسي في قدرة الجيش الصومالي على مجابهة خطر حركة الشباب وباقي الحركات المسلحة المتطرفة، فعلى مدى عقود استطاعت هذه الحركات التغلغل داخل النسيج المجتمعي الصومالي، وتمكنت من السيطرة على مناطق جغرافية واسعة، والاستحواذ على أسلحة ومعدات عسكرية متنوعة. كما راكمت خبرات من المواجهة المباشرة مع الجيوش النظامية، بما معناه قدرتها على الصمود، وإعادة بناء شبكاتها، بما يؤهلها للقيام بعمليات تخريبية تستهدف المؤسسات والمواطنين الصوماليين.

يتقاطع هذا الأمر مع سؤال عن مدى جاهزية الجيش لمواجهتها في ظل ضعف قدراته التسليحية، وارتبطت معضلة نقص التسليح وغياب الدعم اللوجيستي بالحظر الأممي على توريد الأسلحة المفروض على الصومال منذ عام 1992. وقد تمكنت أخيرا، قبل حوالي سنة، من رفع الحظر على الحكومة الصومالية مع إبقاء الحظر المفروض على حركة الشباب. يُراهن على قرار رفع الحظر لتسليح الجيش، وتطوير قدراته القتالية، لكن في حقيقته يتوخى تقليل تأثير المليشيات والفصائل العشائرية على المدنيين، والحد من النزاعات المحلية، غير أنه استثمر لأهداف سياسية، فيما بقي تدفق الأسلحة مستمرا إلى هذه الجماعات المسلحة.

لا يقتصر الأمر على هذا التحدي، إنما يتقاطع مع إشكالية قدرة ألويته القتالية على مواجهة هذه الحركة، وتعويض انسحاب القوات الأجنبية، فالفراغ الأمني الذي قد يعقب انسحاب هذه الأخيرة يعتبر تحديا حقيقيا، لاسيما أن تجارب مماثلة أكدت بأن هذه التحولات قد تعيد البلد إلى دوامة العنف وعدم الاستقرار. وقد تابع العالم قبل سنوات انهيار الجيش الأفغاني بعد خروج القوات الأمريكية، رغم أن جل التقارير الاستخباراتية كانت تؤكد جاهزيته، وتستعرض قدراته، إلا أنه لم يصمد كثيرا أمام تقدم قوات حركة الطالبان بعد خروج الجيش الأمريكي.

تثار كذلك مخاوف عن إمكانية تحول المليشيات القبلية المسلحة الداعمة للجيش إلى تحدي أمني جديد؛ فالمخاوف من تغيير الولاءات واستغلال قدراتها العسكرية والتنظيمية لتهديد الاستقرار واردة جدا، والخشية من إعادة تجربة تمرد المليشيات على النظام أو توظيف أسلحتها في النزاعات العشائرية حاضرة، وهي من المخاطر التي يستحضرها الفاعل الصومالي. مما يستوجب إصلاح القطاع الأمني، بإدماج هذه المليشيات داخل مؤسسة الأمنية وتسليم أسلحتها، بما يكفل حصر السلاح في مؤسسة الجيش فقط.

ختاما، يبدو أن القدرات القتالية والعملياتية للجيش الصومالي التي تحسنت قليلا، في السنوات الأخيرة، ضمنت له الاستعداد لتسلم المهام الأمنية، بعد انسحاب القوات الدولية. لكنها لا تزال غير كافية للتصدي لتهديدات الجماعات المسلحة، إذ يتطلب الأمر إرادة حقيقية ومصالحة سياسية، واستحضارا للمخاطر الداخلية والتحديات الإقليمية، أكثر من حاجتها للتعهدات الدولية لتدريب وتمويل وتأهيل الجيش الصومالي لهذه المهمة.