الجمعة 22 نوفمبر 2024
يأخذنا الفيلم الوثائقي بعنوان "صُنع في إثيوبيا"، الذي تم إنتاجه عام 2024، وعُرِض رسميًا، للمرة الأولى، شهر يونيو/ حزيران الماضي، في رحلة استكشافية جريئة إلى قلب القطاع الصناعي في إثيوبيا، مسلطًا الضوء على التحديات الاقتصادية والاجتماعية المعقدة التي تواجهها البلاد، وبيئة العمل القاسية في مصنع منسوجات وملابس مملوك لسيدة أعمال صينية.
يقدم العمل، من وجهة نظر غربية، رؤية نقدية للاستثمارات الصينية، وتأثيرها على المجتمعات المحلية في إثيوبيا، من خلال ثلاثة نماذج لسيدات تعملن في المصنع، من خلال إبراز التناقض بين الآلة والطبيعة، والآمال بالرفاهية والواقع المتردي.
يستعرض الفيلم التنوع الكبير للقطاع الصناعي في إثيوبيا، بدءًا من مصانع النسيج الضخمة، وصولًا إلى ورش الحرف التقليدية، كاشفا عن التناقضات الصارخة بين الثراء الفاحش لبعض المستثمرين الأجانب، وظروف العمل القاسية التي يواجها العمال. تعاون صانعا الأفلام الوثائقية، الصحفية شينان يو (Xinyan Yu)؛ من أصول صينية تقيم في الولايات المتحدة، والصحفي البريطاني ماكس دنكان (Max Duncan) في كتابة وإخراج الفيلم. أجرى صانعا الفيلم أبحاثا ميدانية، لمدة ثلاثة أعوام، في المجتمعات المحلية في ضاحية "دوكم"، في العاصمة أديس أبابا، واستغرقا عامين في التصوير، بتمويل من جهات دولية مانحة، منها الرابطة الدولية للأفلام الوثائقية (IDA)، ومنظمة النساء تصنع الأفلام.
يعتبر الوثائقي "صُنع في إثيوبيا" شهادة سينمائية على التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي تشهدها إثيوبيا، التي كانت حتى وقتٍ قريبٍ، إحدى أسرع الدول نموًا في القارة الأفريقية. فهو يقدم نظرة متعمقة عن حياة العمال المهمشين، ويكشف عن طموحاتهم وتحدياتهم اليومية، ويطرح أسئلة مهمة حول مستقبل الصناعة الإثيوبية، وتأثيرها على حياة المواطنين، من خلال قصص نساء تتقاطع مصائرهن مع مصير الاستثمارات الصينية التي تتمدد بشكل متسارع في البلاد.
تظهر شخصية المستثمر الصيني مع سيدة الأعمال، موتو ما، التي تتمتع بطموح غير عادي، وتتحدث بثقة كبيرة عن تحويل المجمع الصناعي إلى نقطة جذب سياحية. تتحدث موتو الأمهرية بطلاقة، وتحاول الحصول على ما تريده بأي وسيلة، معتقدة أنها تفهم احتياجات الإثيوبيين، عكس نظرة العاملات المختلفة إليها. تقول موتو في مشهد من الفيلم: "لقد جوعت نفسي حتى الموت لمدة يومين، لكي أتمكن من ارتداء هذا الفستان".
تجمع موتو متناقضات في شخصها، بين القوة والضعف، والطموح والتعاطف، فهي سيدة أعمال ناجحة وقائدة حازمة. لكنها أيضًا أم مشتاقة لابنتها، ناهيك عن ضغوط العمل الكثيرة والمستمرة. تظهر أحيانا صبرًا وتفهمًا في بعض المواقف، لكنها أعصابها في مواقف أخرى تخرج عن السيطرة، خاصة عندما يتعلق الأمر بالتوفيق بين مصالح الشركة واحتياجات المجتمع المحلي.
يتطرق الفيلم التسجيلي لمفهوم ثقافة العمل في الصين، من خلال خطاب موتو التي تحاول إقناع السكان المحليين بأنها موجودة لنسخ تجربة نجاح الاقتصاد الصيني، الذي حقق الإنجازات بفضل ثقافة العمل، وتضحيات العمال. لكن حديثها لا يصل للعاملات الإثيوبيات؛ الغارقات في صعوبات اقتصادية واجتماعية لا حصر لها.
يقدم الوثائقي معاناة العاملات من خلال قصص ثلاث نساء، منهن بيتيليهم أشنه، المعروفة بـ"بيتي"، العاملة الهادئة، التي تحمل في قلبها أحلامًا من نوع خاص، تسعى إلى تحقيقها من خلال العمل الدؤوب. لكنها تصطدم بمرارة الواقع، وتجد نفسها مُحاصرة بين الفقر والديون، فيما تصر سيدة الأعمال الصينية على تغذية أحلامهن بوعود التقدم الصيني.
لكن ما لا تريد موتو الاعتراف به هو الثمن الذي دفعته المجتمعات المحلية لتوفير الأرض، وهو ما يظهر مع الفتاة ووركينييش تشالا وأسرتها، فقد تم الاستيلاء على أرضهم، وتقديمها للمستثمرين الصينيين. يسلط الفيلم، من خلال قصة هذه الأسرة، الضوء على تأثير الاختلافات الثقافية والفجوة بين النوايا الطيبة للحضور الصيني، وبين ما تحقق على أرض الواقع.
يناقش الوثائقي الوجه الآخر للتنمية في إثيوبيا، التي قامت على مصادرة الأراضي دون تقديم التعويضات، وترك المواطنين فريسة للاستغلال الصيني، الذي عانى منه المواطنون في الصين قبلا.
يلقي الفيلم بالجمهور في عالمين متصادمين: عملاق صناعي مدفوع بالربح والتقدم، وريف يتلاشى حيث لا تزال الحياة تقاس بدورة الفصول. تتجاوز تفاصيل الفيلم وتعقيداته، ونهجه المتعدد الزوايا تلك الروايات السوداء والبيضاء عن الضحايا والأشرار. فمع تطور قصص النساء الثلاث، يدفعنا فيلم "صنع في إثيوبيا" نحو إعادة التفكير في العلاقة بين التقاليد والحداثة، والنمو والرفاهة، وتنمية بلد ورفاهة شعبه.
لجأت الحكومة الإثيوبية لجذب الاستثمارات الصينية إلى تقديم وعود بتوفير العمالة الرخيصة، من خلال عدم فرض حد أدنى للأجور في القطاع الخاص. في أحد المشاهد، يتمرد عمال المصنع على ظروف العمل القاسية، ويتعرضون لتوبيخ أحد المشرفين الأجانب، ويجد المترجم نفسه متأرجحًا بين واجباته تجاه زملائه العمال والمشرفين الصينيين. كما تصطدم الثقافة الصينية التي تمجد العمل على حساب الإنسان، بالثقافة الإثيوبية والأفريقية عامةً، التي لا ترى قيمة في التضحية بالنفس في سبيل العمل.
يتضح أنّ العمل يكشف عن الثمن الذي دفعه المواطنون في الصين، في سبيل تحقيق النهضة الاقتصادية، التي اعتمدت على اليد العاملة الرخيصة، ويرافق ثقافة العمل الصينية في خارج موطنها. باختصار، يؤكد الوثائقي، أنّ الرأسمالية الصينية تبحث عن يد عاملة أقل تكلفةً من المواطن الصيني الذي تحسنت حياته، وارتفع دخله نسبيًا، لهذا يبحث المستثمرون عن أيادي عاملة أرخص في الدول الأفريقية.
يقدم فيلم "صُنع في إثيوبيا" رواية مثيرة حول تأثير النفوذ الصيني في إثيوبيا، على الوافدين والمواطنين. تتميز الكاميرا بالصبر والعمق، وينجح السرد في دمج السياق السياسي والاجتماعي لتقديم تصور شامل حول تأثير الاستثمارات الصينية على حياة العمال والطبيعة في إثيوبيا. كما يبرز الوثائقي الأثر البيئي للاستثمارات الصناعية الصينية على البيئة، التي تفقد نضارتها جراء التلوث الصناعي، وهو الأمر ذاته الذي يحدث للعمال، الذين يفقدون تفاؤلهم بحياة أفضل، كانوا يأملون تحقيقها من خلال العمل في المصانع الصينية.