تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الخميس 19 سبتمبر 2024

رأي

أبعد من نظام الكفالة.. عن العاملات المنزليات في الخليج

15 سبتمبر, 2024
الصورة
sawir
شابات يتدربن بكيفية ارتداء الحجاب في منشأة تدريب للعاملات المنزليات في 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2022 في كمبالا، أوغندا قبل إرسالهن إلى المملكة العربية السعودية كعاملات منازل. (تصوير: لوك دراي / جيتي إيماجيز)
Share

في رحلة من كمبالا إلى دبي، وجدت نفسي محاطًا بصفوف من الشابات الأوغنديات، يرتدين زيًا موحدًا، وكنّ سعيدات ومتحمّساتٍ للغاية. استمعت، مع إقلاع الطائرة، إلى بعضٍ من آمالهن وأحلامهن، وتساءلت: من ستعود منهنّ إلى وطنها حاملةً نفس الابتسامة؟

تشير إحصائيات الحكومة الأوغندية إلى أن حوالي 2000 مواطن يغادرون شهرياً إلى الشرق الأوسط للعمل في المنازل؛ والنسبة الأكبر منهم في دول الخليج العربي. لا تشمل هذه الإحصائيات المهاجرين الذين يسافرون بطرق غير قانونية أو غير نظامية عبر بلدان أخرى. كما أنها لا تعكس أيضا نسبة النساء اللواتي يعدن بأمراض في الكلى أو الرئة أو الصدر أو الجلد، أو يعانين من مشاكل نفسية، ولا حتى اللواتي لا يرجعن أبدًا.

ليست هذه بالقصة الجديدة؛ فمن أصل 11.5 مليون عاملة منزلية مهاجرة في جميع أنحاء العالم، توجد 27.4٪ منهن في الدول العربية. تشير التقديرات إلى أن دول الخليج تستضيف ما يقارب 14٪ من العمال المهاجرين على مستوى العالم، لذلك توارد الحديث عن انتهاكات عمالية في المنطقة على مدى سنواتٍ. بينما تقوم بعض الدول، مثل الفيليبين، بفرض شروط هجرة أفضل لمواطنيها، فإن معظم الدول الأفريقية ما تزال مقصّرةً، ونتيجةٍ لذلك، تواجه المهاجرات الأفريقيات ظروفًا معيشية قاسية للغاية على شكلِ تحيزات وممارسات تميزيّة عنصريّة، تحظى بقبول اجتماعي، ومؤيّدةً، غالباً، قانونيًا، أو متغاضي عنها من قبل البلدان المرسلة والمستقبلة على حد سواء.

تشتهر دول الخليج بنموذجها التنموي الفريد، فكان ازدهار قطاع النفط، وما يزال، المحرك الرئيس وراء توسع الاقتصاد في المنطقة، التي بدأت، في السنوات الماضية، ممارسة قوتها وتأثيرها السياسي، وأصبحت بعضُ مدنها، مثل دبي، وجهات شهيرة للأعمال والسياحة. يتحدث المشاهير والمؤثرون ونجوم كرة القدم بإعجاب عن المنطقة، مظهرين انبهارهم بـ "حداثتها" المثاليّة؛ شوارع نظيفة ومعدلات ضرائب منخفضة وأمان ومواقع رائعة، وجهة للسفر السريع والرخيص، كل هذه الأسباب تجعل الكثيرين ينتقلون وينقلون أعمالهم إلى الخليج.

يستقرّ تحت هذا الثراء الهائل والأمان والاستقرار مشهد من الإقصاء، حيث يعيش ملايين العمال المهاجرين في ظروف شبيهة بالعبودية، يتغاضى عنها أو يقلل من شأنها، أو تحمّل مسؤوليتها، وبشكل حصري، لإساءة المقاولين غير القانونيين ووكالات العمل. ونموذج العمل هذا ليس حصريًا على دول الخليج؛ فالتطور الرأسمالي السريع له تكلفة بشرية عالية، واستدامته مرتبطة باستمرار شروط العمل الاستغلالية. ومع ذلك، تقدم المنطقة مثالًا فريدًا على إعادة الإنتاج الاجتماعي التي سمحت لها بأن تصبح مركزًا لاستيراد العمالة، التي يسند إليها بشكل كامل تأدية أشكال متنوعة من الرعاية الاجتماعية.

يوجد سببُ وراء هذه الحكاية؛ فبموجب نظام الكفالة، تكون حقوق المواطن وصاحب العمل بطبيعتها شخصية. وتضرب هذه الممارسة العمالية بجذور استعمارية تعود إلى محاولات الإمبراطورية البريطانية تنظيم العمل في المنطقة، في وقت مبكر من عشرينيات القرن العشرين. وقد حُدّث هذا النظام في ثلاثينيات القرن الماضي (وما زال ساريًا بأشكال مختلفة) لضمان عدم رجوع العمال المهاجرين غير الموظفين إلى المنطقة، دون الحصول أولاً على شهادة عدم ممانعة من وكيل سياسي ومن الكفيل. 

نظام الكفالة إذن هو تأشيرة مرتبطة بصاحب العمل، وهو نظام عنصري ومقيد لحركات العمال الأجانب. يشكّل بالنسبة لمعظم الموظِفين نموذج حكمٍ يقوم على تشكيل علاقة العامل بصاحب العمل، وكذلك بالمواطن المحلي بشكل عام. غير أنّ ما يجعل الأمر أكثر تعقيداً هو النظر إلى البيت باعتباره مكانا للعمل، وفي نفس الوقت مساحة مستقلة تحكمها الأسرة. غالبًا ما يشير العمال المنزليون إلى أرباب عملهم في الخليج بعبارات مثل "بابا" (الأب) و"ماما" (الأم)، مما يعكس أنه على الرغم من كونها عضواً في قوى العمال الأجنبيّة، تصبح العاملة المنزلية، في ذات الوقت، جزءًا من الأدوار والديناميات الاجتماعية العائلية والمنزلية.

تُحكم النساء، بالنظر إلى هذا الفضاء الخاص، بقواعد مختلفة، يمكن في الغالب إرجاعها إلى تنظيمات القوامة والولاية. لا تعتبر ولاية الرجل نظامًا قانونيًا واضحًا؛ بل هي مزيج من القوانين والممارسات التي تملي كيفية ممارسة النساء لعدد من حقوقهن الأساسية، بما في ذلك الزواج والتعليم والعمل والوصول إلى خدمات الرعاية الصحية والتنقل والسفر... وفي جوهرها تعامل النساء معاملة القاصرين قانونيًا. 

توجد عناصر هذه الولاية في جميع أنحاء الشرق الأوسط، ولكنها أكثر انتشارًا في دول الخليج. وعندما تتقاطع هذه الممارسات مع غياب التشريعات التي تجرم الجرائم، مثل العنف المنزلي أو الاغتصاب. فإنها يمكن أن تعزز بيئة من العنف التي تحد أو تقيدُ من استقلالية المرأة. كما تعزز أيضًا أحكام الطاعة في قوانين الأسرة السلطة التي يمكن أن يتمتع بها الرجال على النساء، مما يتعارض مع الحقوق الدستورية للنساء كمواطنات متساويات وعاقلات.

غالبًا، ما تُنسب تنظيمات ولاية الرجل إلى الآية القرآنية 4:34 التي تنص على أن "الرجال قوامون على النساء"، وتُفسر هذه الكلمة عادةً بأنهم "حُماة ومعيلون"، وتُستخدم لتبرير المعاملة غير المتكافئة بين الرجال والنساء. تُفهم القوامة عمومًا على أنها سلطة الزوج على زوجته: فهو يعيل، وهي تطيع. أما الولاية، فهي مصطلح يُستخدم عادة للإشارة إلى سلطة عامة، يتمتع بها الذكور في الأسرة على نظرائهم الإناث. تطور كلا المفهومين على مر القرون، ليصبحا من المفاهيم القانونية للأبوية الحالية التي تمارس في السياقات المسلمة لتبرير تفوق الرجل، وعدم المساواة في الحقوق القانونية، ومسؤوليات اتخاذ القرار، وتقييد حركة النساء، وتحديد أدوارهن العامة، وقدراتهن القانونية.

تواجه النساء العاملات الأجنبيات، اللواتي يعتمدن على أزواجهن وآبائهن كفلاء لتأشيراتهن، هذه القيود أيضًا بموجب قوانين الكفالة وممارسات ولاية الرجل. تحتاج النساء، في معظم دول الخليج، إلى إذن كفيلهن للحصول على وظيفة، أو تلقي الخدمات الصحية، أو متابعة منحة دراسية، أو حتى الحصول على رخصة قيادة. إذا كان الحال هكذا مع النساء المواطنات، فأين تضع هذه القوانين العاملات المنزليات؛ النساء الأجنبيات اللواتي يعملن تحت نفس السقف؟ 

تحتل العاملة المنزلية في دول الخليج إذن مساحة تتجاوز المجالين العام والخاص: كعاملة أجنبية، تحكمها قوانين الكفالة، وفي الوقت نفسه، بصفتها امرأة تقيم في المجال الخاص، تحكمها نظام ولاية الرجل. يعمل النظامان معًا على جعل العاملات المنزليات عرضة لأنواع مختلفة من الإساءة، ويضعهن في موقعِ ضعف طبيعي حيث يفضّل القانون الرجل على المرأة.

لا تحدث كلّ هذه الأشياء في الفراغ، فالطابع الأنثوي للعمل المنزلي بطبيعته يتسم بالتهميش المستمر، سواء في بلد المنشأ أو بلد الوجهة، يتقاطع ذلك مع إثنيّة وعرقية مع ما يُعتبر ذا قيمة، أو ما يُعد "عملًا". يُعامل العمل الرعائي، بما في ذلك العمل المنزلي، كمسألة شخصية أو عائلية لا علاقة لها بالدولة أو الاقتصاد. عندما يُطبّع العمل الرعائي على أنه عمل فطري، فإنه يفقد قيمته تلقائيًا. بمعنى آخر، في البلدان الأصلية (بلد العامل)، يُعتبر العمل المنزلي عادةً عملًا أنثويًا ويُنجز مجانًا. وعندما يُنجز هذا العمل في البلدان الوجهة، فإنه يُدفع له أجر زهيد، ويبقى هذا العملُ النسائي غير مقدر. 

أظهرت النظريات النسوية منذ فترة طويلة أن خلق صورة مشوهة لماهية العمل، بالإضافة إلى التحيز الجنسي والتمييز ضد العمل المنزلي، أتاح تطبيع هذه الظروف الاستغلالية. ونتيجة لذلك، عندما لا تؤدي العاملة المنزلية "وظيفتها"، كما يتوقع أصحاب العمل، تُعتبر امرأة غير طبيعية؛ غير قادرة على أداء دور المرأة في التضحية والمحبة. وعندما تطالب العاملة المنزلية براتب أفضل، وتحسين ظروف العمل، لا تُعتبر عاملة مضربة عن العمل، بل امرأة سيئة ترفض التصرف وفقًا لطبيعتها. بإضافة العرق والإثنية والجنسية والدين إلى هذه الصورة المعقدة، تجد العاملات المنزليات أنفسهن يعملن في تقاطع شديد الهشاشة.

يرتبط ضمان حقوق العاملات المنزليات في دول الخليج في الغالب بإلغاء نظام الكفالة، على الرغم من أن هذا مطلب مشروع، فإن محدودية حرية الحركة للعاملات المنزليات، وحرمانهن من الوصول إلى خدمات الرعاية الصحية الكريمة والحقوق الجنسية والإنجابية، وسوء المعاملة والعنف، كلها أمور مُفعلة تحت قوانين الكفالة وولاية الرجل معًا. 

أضف إلى ذلك، أنه وفي نظام عالمي يزداد فيه التحرر الاقتصادي، تستمر الدول في أجزاء كثيرة من الجنوب العالمي، بما في ذلك أفريقيا، في تصدير شعوبها، وتصبح اقتصاداتها أكثر تعرضًا للحوالات المالية. على هذا النحو، لا يمكن تحليل ظروف العاملات المنزليات دون تبني إطار عمل مناهض للرأسمالية. كما لا يمكن ضمان الاستقلالية الجسدية للنساء، ووكالتهن، والوصول إلى حقوقهن الأساسية إلا عندما يُنظر إلى النساء على أنهن متساويات قانونيًا، وعندما يُعترف بعملهن ويُقدّر. وأخيرا، لا يمكن فصل حقوق العاملات المنزليات عن حقوقهن القانونية والاقتصادية.