تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
رأي

الهند في شرق أفريقيا: شراكة أم مواجهة الصين

19 نوفمبر, 2024
الصورة
Brics
جوهانسبرج، جنوب أفريقيا – 24 أغسطس: رئيس جنوب أفريقيا سيريل رامافوسا مع زملائه من قادة البريكس، الرئيس الصيني شي جين بينغ ورئيس وزراء الهند ناريندرا مودي، يلتقطان صورة عائلية. (تصوير بير أندرس بيترسون / غيتي إيماجز)
Share

تستعد الهند لأن تصبح قوة عالمية، مستثمرة نموها الاقتصادي وإمكاناتها البشرية، واستقرار تجربتها السياسية، كل ذلك مشفوع بتحركاتها الدبلوماسية في محيطها الجيوسياسي، بالتركيز على منطقة المحيط الهندي لبناء نفوذها الإقليمي. ناهيك عن طموحها نحو بناء قاعدة لانتقالها لقوة عظمى، توجه تؤسس له بإقامة علاقات دبلوماسية ممتدة مع مختلف دول العالم.

تبرز في هذا السياق عناية خاصة بعلاقاتها الأفريقية التي تشهد تطورا متزايدا، مع تركيز خاص على شرق وجنوب القارة، مستثمرة في ذلك القرب الجغرافي لشبه الجزيرة الهندية بالقرن الأفريقي، والحضور المتميز للجالية الهندية بها.

يتأسس الحضور الهندي بشرق أفريقيا على محددين؛ يتركز الأول على تعزيز التعاون الخارجي، استحضارا لإرادة تسعى لرسم أدوار لها خارج إقليمها. فيما يرتبط المحدد الآخر بالتصدي للتنافس الإقليمي، الصيني بالدرجة الأولى، فأضحت تحركاتها بالشرق الأفريقي رهينة قدرتها على تحقيق التوازن بينهما.

التاريخ والمصير المشترك

أكد رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي خلال قمة تجمع دول البريكس بجنوب أفريقيا في أغسطس/آب 2023، أن أساس تشكيل العلاقات الحديثة الهندية الأفريقية يعود للتاريخ المشترك بينهما ضد الاستعمار والفصل العنصري؛ معتبرا أن الزعيم الهندي مهاتما غاندي طور أفكاره للمقاومة السلمية على أرض جنوب أفريقيا. كما كانت تلك التجربة مصدر إلهام للزعيم نيلسون مانديلا، في نضاله ضد نظام الفصل العنصري، مختتما كلامه بإعادة التأكيد على أهمية أفريقيا في التقديرات الهندية.

تتحدد جذور التفاعلات الهندية الأفريقية على قاعدتي التاريخ المشترك وروابط التضامن بين الشعوب. وقد أسس أول رئيس وزراء الهند بعد استقلالها، جواهر لال نهرو، لملامح العلاقات الأفروهندية، فاعتبر أفريقيا بمثابة القارة الشقيقة للهند. وتحول ذلك  إلى عقيدة راسخة في السياسة الخارجية الهندية؛ فحضر أفريقيا شريكا مميزا لنيودلهي، وهذا ما تجسده مثانة العلاقات وقوة الاتفاقيات المؤطرة لعلاقاتهما. فقد حافظ السياسيون الهنود، من حينها، على استمرار دينامية التعاون التي تعززها زيارات مستمرة للبلدان الأفريقية، آخرها زيارة رئيس الوزراء الهندي لنيجيريا 17 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، دلالة على عمق التعاون، وعلى امتداد الشراكة بين الهند والدول الأفريقية.

على هذا المستوى، تعززت العلاقات الدبلوماسية الهندية بالعالم الثالث وإفريقيا خلال حكم حزب المؤتمر الوطني الهندي، الذي يؤسس توجهاته الخارجية على التعاون مع الدول النامية. كما كانت الهند متوافقة أيديولوجيا مع الاتحاد السوفياتي، غير أنها سرعان ما سعت إلى علاقات متميزة مع الولايات المتحدة بعد نهاية الحرب الباردة، تقلب في المواقف لم يدفعها للتفريط في تفاعلاتها مع الدول النامية.

برزت العلاقات التاريخية والمشتركة بدول العالم الثالث خلال مرحلة محاربتها للاستعمار، كما بزغت أكثر بفضل مكانة الزعيم الهندي المهاتما غاندي، ودوره خلال إقامته بجنوب أفريقيا ونضاله من أجل التحرر الوطني. وتعززت هذه العلاقات خلال حكم جواهر لآل نهرو في إطار حركة عدم الانحياز، ومبادئ باندونغ للتضامن الإفريقي-الأسيوي. استمرت هذه الامتدادات بتقدير الزعماء الهنود للشراكة والتعاون مع إفريقيا كأولوية للسياسة الخارجية الهندية، واعتبارها قطب تحركاتها الخارجية.

أعاد الرئيس الوزراء الهندي الحالي خلال زيارته لأوغندا، في يوليو/تموز 2018، في خطاب أمام البرلمان الأوغندي التأكيد على الأولوية القصوى للتعاون الهندي الأفريقي، واعتبر أن التعاون بينهما تؤطره عشرة مبادئ.

رسمت هذه المبادئ خريطة التعاون الهندي الإفريقي؛ بدء بأولوية أفريقيا كمحدد للعلاقات الخارجية الهندية، ثم التركيز على تعميق محاور الشراكة في كافة المجالات، وليس انتهاء بعمل الهند على تعزيز مكانة أفريقيا، ونضالها من أجل نظام عالمي جديد. شكل هذه المبادئ أساسا للعلاقات الهندية، ومحددا لأدوارها في المنطقة.

على المستوى الاستراتيجي، حددت هذه المحطات قناعة هندية بالدفاع عن مصالح دول الجنوب العالمي، ورؤيتها لدعم نيودلهي لها، وفق تقديرها لتصحيح الظلم التاريخي، وتعزيز الشراكات والتعاون المشترك، والدفاع عن تمثيلية دول الجنوب في المنظمات العالمية، مثل: مجلس الأمن ومنظمة البريكس، وبامتدادات اقتصادية وأمنية لعلاقاتهما.

سطرت نيودلهي إطارا للعلاقات الممتدة بينها وأفريقيا على قاعدة الشراكة والتعاون، مما رفع حجم المبادلات بينهما، فأصبح الاتحاد الأفريقي رابع شريك تجاري للهند. كما سعت إلى تأطير تحركاتها بآليات سياسية وتوجهات اقتصادية وحوار استراتيجي، وهذا ما تجسد في قمة الهند الأفريقية.

الشراكة الهندية الأفريقية

تعتبر قمة الشراكة الهندية الأفريقية التي تعقد كل ثلاث سنوات، منذ انطلاقتها بنيودلهي، لأول مرة، في أبريل/نيسان 2008، الإطار المؤسساتي للتعاون الأفروهندية. ترسم هذه القمة معالم الشراكة الاستراتيجية بينهما، لكنها لم تعقد أي قمة منذ تسع سنوات، ورغم ذلك تحرص على إذكاء علاقاتها بالمنطقة وتوسيع مجالات التعاون لتعزيز حضورها بإفريقيا.

دافعت الخارجية الهندية في قمة العشرين بنيودلهي على منح العضوية الدائمة للاتحاد الإفريقي بمجموعة العشرين، واستثمرتها كدعاية لعملها الذؤب من أجل أفريقيا؛ فاستندت على التاريخ المشترك والعلاقات الممتدة بينهما للدفاع عن هذا المقتضى، تأكيدا لدورها كمدافع عن المصالح الافريقية. فارتقت بموجبها كثالث مستثمر وثاني مقرض في إفريقيا، فتحولت إلى حليف موثوق، مستندة على التعاون المشترك وفق قاعدة التعاون جنوب.

ضمنت هذه المحددات التاريخية والآليات الدبلوماسية والاقتصادية ارتفاع حجم التبادل الاقتصادي والتجاري بينها وأفريقيا، فانتقلت من 51,7 مليار دولار عام 2010/2011 إلى 66,7 مليار عام 2019/2020. وتراهن على رفعه إلى 200 مليار دولار خلال السنوات السبع المقبلة.

تشكل شرق أفريقيا قاعدة الهند المحورية في القارة، بعلاقاتها الاقتصادية الممتدة مع دول المنطقة، ما أهلها لتكون ضمن أكبر خمس مستثمرين في القارة. ركزت نيودلهي على التجارة البحرية وذلك بتعزيز شراكاتها مع الدول الجزرية بالمحيط الهندي، ووسعت نطاقها امتداداتها الأفريقية، بالرهان على الجزر مثل جزيرة موريشيوس.

تراهن الهند أيضا على مجال الدفاع والأمن كطليعة للاهتمام الهندي بأفريقيا، وهذا ما تجسدت معالم الشراكة الأمنية مع أفريقيا، خلال أول حوار دفاعي في مارس/آذار 2023، ضمن فعاليات مؤتمر قادة الجيوش الهندية والأفريقية، الذي أسس لمحددات التعاون التقني، وتعزيز التدريب العسكري للجيوش الأفريقية. كما أتاح لها المشاركة في مناورات الشراكة البحرية الهندية في المحيط الهندي، وتعززت هذه الدينامية الدفاعية بإبرام اتفاقات للتعاون الدفاعي والتدريب العسكري مع دول من شرق أفريقيا، وعلى وجه التحديد إثيوبيا والصومال.

يأتي ذلك تتويجا لمساهمة متميزة للهند في عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة خاصة بأفريقيا، ما أهلها لتكون الأبرز حضورا ومساهمة بحفظ السلام بالمنطقة؛ بحضور نحو 80٪ من مجموع قواتها المساهمة في البعثات الأممية. بذلك تصبح رابع أكبر مشارك في القبعات الزرق، منذ أول مهمة هندية بالكونغو عام 1960.

يشمل التواجد الهندي عشرات الآلاف من الجنود المنشرين في عدة دول أفريقيا، ويحظى الشرق الأفريقي بحصة وافرة، في الصومال وجنوب السودان والسودان وإثيوبيا، إضافة إلى كل من المغرب والكونغو بشمال وغرب القارة. مشاركة كلفتها خسائر بشرية وتحديات سياسية عديدة، من قبيل إشكالية فشلها في حماية المدنيين، واتهام جنودها بالاستغلال الجنسي والفساد المزعومة، مما يثير أسئلة عن فعاليتها وأدوارها. 
تتحرك الهند في أفريقيا باستراتيجية للشراكة والتعاون المشترك غير أنها تصطدم بالمنافسة الإقليمية، ويجسد النفوذ الصيني بالمنطقة أبرز تحد يعرقل مساراتها، فتستحضر دعم سياستها وتعزيز علاقاتها مع دول القارة من أجل إعادة تموضعها إقليميا ودوليا.

التنافس الصيني الهندي

تستعد الهند لبناء مكانتها كقوة عظمى، مراهنة على التوقعات الاقتصادية التي تؤهلها كثالث اقتصاد بحلول عام 2027. كما تتكئ على إعادة رسم لمعالم أدوارها في القضايا الجيوسياسية الإقليمية والدولية، لاسيما بعد حضورها المحوري في عدة مؤسسات دولية، على غرار المنتديات الاقتصادية والسياسية، ومحاولاتها مقاربة الملفات الدولية الشائكة كالأزمة الأوكرانية، وجهودها إلى جانب قوى أخرى لإعادة تشكيل النظام العالمي.

تؤسس الهند هذه الانتقالة على مكانتها الاقتصادية الواعدة كقوة صاعدة، فتعتد منذ استقلالها على محددات ذاتية لقوتها الوطنية وتربطها بمتانة تحالفاتها الخارجية، في تقاطع مع طموحاتها الجيوسياسية لتعزيز قدراتها وتوسيع محاورها. غير أنها تعي أن تحقيق ذلك رهين باستحضار خلافاتها مع دول الجوار؛ التي تتراوح ما بين النزاع التاريخي والمستمر مع جارتها باكستان، وبين التنافس على النفوذ مع الجارة الأخرى الصين، وبينهما علاقات متقلبة مع باقي دول الجوار الأخرى، كالنيبال وبنغلاديش وأفغانستان وسريلانكا.

وفي خضم هذه الديناميكية، تحضر أفريقيا في صلب اهتماماتها، لتحقيق هدفها الاستراتيجي، قصد ترسيخ معالم التعاون المشترك على قدم المساواة. سعيا منها نحو تحقيق توازن مع هذه القوى الإقليمية المنافسة لها، طورت الهند آليات ومبادئ ومجالات للتنسيق والحضور المتميز بالمنطقة، وتوسيع هوامش تحركاتها عالميا باستثمار الإمكانات والقدرات في أفق توسيع محاورها أمام تراجع الاقتصاد الصيني، غير أنها تواجه تحديات داخلية، كالفساد والتفاوتات الاقتصادية، والأهم من ذلك تعاظم التحديات الإقليمية بينهما، إذ شكلت طموحاتهما إطارا للتنافس المحتدم بينهما خارج الإقليم.
يدافع الرئيس الهندي على ما يعتبرها مخاوف الجنوب العالمي، واستثمر منصتي مجموعة العشرين والبريكس، معتبرا بأن الجنوب العالمي في تقدير الدبلوماسية الهندية ليس مجرد مصطلح دبلوماسي، إنما نهج هندي يستحضر أولويات ومخاوف وهواجس بلدان الجنوب.

هكذا، تراهن الهند على هذا الخطاب والمقاربة من أجل ضمان الدعم الأفريقي لها للحصول على مقعد دائم في مجلس الأمن. كما تستحضر أهمية الصوت الأفريقي في النقاشات السياسية العالمية لإعادة هيكلة النظام العالمي.

غير أن هذه الارتباطات تتأسس على محاولات نيودلهي احتواء الصين، وعلى مدى السنوات الأخيرة، أعادت الهند تشكيل علاقاتها الخارجية تحت هذا المقتضى. حضر التقارب الهندي الأمريكي كمحدد مضاد للنفوذ الصيني، وذلك بانخراطها في مجموعة الحوار الأمني الرباعي، المعروفة باسم ''كواد''، المعروف كحوار استراتيجي لمواجهة طموحات الصين العسكرية والاقتصادية. وتستثمر الهند في التقارب مع القوى الغربية لهذه الغاية، وقبل عام، وعلى هامش اجتماعات مجموعة العشرين، صادق قادتها على مخطط لإنشاء ممر اقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، بهدف التصدي لمبادرة الحزام والطريق الصينية.

وللمفارقة، تبدو حريصة على الانخراط في مختلف المؤسسات والمبادرات، فتدرك من جهة مخاطر الانخراط مع القوى الغربية. لكنها في الجانب الآخر، تحافظ على حضور في المنتديات المناوئة للغرب، للتعاون مع غريمتها الصين، مؤسسة سياستها الخارجية على قدر من البرغماتية، يتيح لها البحث عن مصالحها القومية وتحقيق طموحاتها. لكنها بالرغم من كل ذلك، توصف بافتقارها لاستراتيجية واضحة وطويلة الأجل، وإن كانت تحاول استدراك الأمر في المحطات الأخيرة، بتوسيع محطاتها ومجالات التعاون.

من أجل نهج جديد للتعاون

تتقاطع طموحات الهند مع الاستراتيجية الصينية لبناء مكانة إقليمية على قاعدة التنسيق مع الدول الإفريقية، فيشتد التنافس مع محاولاتهما المتواصلة لتكريس حضورهما كلا على حدة؛ واستطاعت بكين بناء شبكة ممتدة لمصالحها، يحتل الشرق الإفريقي مكانة متقدمة في ارتباطاتها الاستراتيجية بالمنطقة، أهلتها كأكبر شريك تجاري لأفريقيا. فيما تحاول نيودلهي إرساء دعائم رؤية جديدة لشراكات متجددة، وتوطيد معالم علاقاتها مع الدول الجنوبية، ويحضر شرق القارة كقاعدة لتحركاتها.

تحاول الهند وفق هذه المعادلة تعزيز هذه العلاقات، فتستثمر تباطؤ الاقتصاد العالمي والصيني، وتراهن على علاقاتها الوطيدة بشركائها الأفارقة، وتطمح أن تشكل العلاقات التجارية الممتدة والفرص الاستثمارية التي تلتزم بها قاعدة لدول المنطقة من أجل تطوير نماذجهم التنموية، وتعزيز هياكلهم الاقتصادية. كما يمكن الرهان على المساهمة الهندية في دعم الاستقرار بالقارة وتجربتها في آليات حفظ السلام، لاسيما بعد محدودية دور الأمم المتحدة، بالإضافة لاستثماراتها المتعددة وبرامجها التنموية.

تستند الهند على تقارب مواقفها مع المواقف الإفريقية بشأن قضايا الديون والتغير المناخي والأمن والاستقرار، فتركز على دورها القيادي في المرافعة على قضايا الجنوب العالمي، لينظر لها بأنها بمثابة "صين جديدة في أفريقيا". مما يعطيها أفضلية عن منافستها؛ إذ تحضر عدة إشكاليات تعرقل المسارات التعاونية لبكين بالمنطقة، كفخ الديون الصينية وتحديات الفساد وتركيزها على الجوانب الاقتصادية أكثر من العسكرية والأمنية والتنموية.
ورغم ذلك، يصعب على الأفارقة المفاضلة بين الشراكة الهندية أو الصينية، لكن من المؤكد بأن عليهم استثمار هذه التقاطعات بين القوتين من أجل تنمية بلدانهم وتعزيز مصالحهم القومية، والحرص على تعميق الشراكة معهما ومع مختلف القوى الإقليمية والدولية خدمة لمصالح شعوبهما.
بخلاصة، تستثمر الهند علاقاتها بشرق القارة من أجل توطيد التعاون والتنسيق مع دول المنطقة، لكن يبرز التنافس مع الصين كمحدد لتفاعلاتها بالمنطقة، إلا أن انجراراهما للمواجهة يبدو أقل احتمالا، وإن كانت مستويات التنافس بينهما تتعاظم في كافة المجالات. وتستدرك الهند هذا الأمر باستثمار كل المحاولات الممكنة لتوسيع هوامش تحركاتها في المنطقة وخارجها من أجل بناء نفوذها كقوة عظمى عالمية صاعدة.