تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الخميس 19 سبتمبر 2024

سياسة

الصومال: مأزق مجتمع الأعمال بين ضرائب الحكومة والجبايات غير الشرعية

9 سبتمبر, 2024
الصورة
s
(الصورة محمد عبد الوهاب/ وكالة الصحافة الفرنسية عبر غيتي إيماجز)
Share

"بين نارين"، شبه جملة تعبر عن حال مجتمع الأعمال في الصومال، وخاصة العاصمة مقديشو، بعد الضرائب والرسوم الجديدة التي فرضتها الحكومة الفيدرالية، بينما تمثّل الضرائب غير الشرعية، التي يتورط المسؤولون الحكوميون في فرضها واقتسام عائداتها، إلى جانب الإتاوات التي تُدفع لحركة الشباب، النار الأخرى التي تحاصر بيئة الأعمال في البلاد.

تسببت الإجراءات الحكومية في احتجاجات كبيرة في العاصمة، نظمها سائقو مركبات التوك توك، ونجحوا بفضلها في تخفيض الرسوم المفروضة عليهم. كما حاول مجتمع الأعمال مواجهة الضرائب الجديدة إلا أنّ التوفيق لم يحالفهم، واستخدمت الحكومة قبضتها الأمنية لإجبارهم على التراجع عن تنظيم إضراب عام. ليست المشكلة في زيادة الضرائب التي تعتبر منخفضة للغاية في الصومال، إنما في الإتاوات والرسوم غير الشرعية التي لا تصل إلى خزينة الدولة، والتي تعتبر خصمًا من الإيرادات الحكومية، وعبئًا على بيئة العمل، والمواطن التي يتحمل كل هذه الرسوم والضرائب، الشرعية منها وغير الشرعية.

جبايات جديدة

أثار قرار الحكومة الفيدرالية رفع قيمة رسوم إصدار وتجديد رخص القيادة لمركبات التوك توك، في أغسطس/ أب الماضي، موجة غضب بين السائقين، الذين ردوا بتنظيم وقفات احتجاجية واسعة، دفعت الحكومة إلى خفض الرسوم الكلية من 300 دولار إلى 106 دولارات. أعلنت وزارة المالية من جهتها، عن تطبيق ضريبة القيمة المضافة على الأموال المرسلة عبر الهواتف المحمولة، في 18 أغسطس/ آب الماضي، على أنّ تشمل كافة المعاملات التجارية. وقال الرئيس حسن شيخ محمود إن "هذا الإجراء يأتي في إطار تجديد النظام الضريبي الحالي، وليس فرض ضريبة جديدة"، وأوضح أن عائدات هذه الضريبة تعتبر حاسمة لتمويل الخدمات الأساسية ومشاريع البنية التحتية.

ذكرت وزارة المالية أنّ الضرائب والرسوم الجديدة أسهمت، للمرة الأولى، في تحقيق إيرادات محلية كافية، لتغطية رواتب موظفي الحكومة المدنيين والعسكريين، وأمنت رواتب ستة آلاف معلم تم تعيينهم خلال العامين الماضيين، ما يعد، وفق بيان الوزارة، خطوة مهمة نحو تقليل اعتماد البلاد على المساعدات الخارجية.

لم يبتسم الحظ لرجال الأعمال، في المقابل، فقد امتعضوا من ضريبة المبيعات التي فرضتها الحكومة، وحاولوا تنظيم إضراب عن العمل احتجاجا عليها، إلا أن الأجهزة الأمنية سرعان ما تدخلت، واستدعت كبارهم في مقديشو لمناقشة الأمر معهم، وأُجبروا على التراجع عن الاحتجاج، بينما تمسك البعض بموقفه، ونظم إضرابًا عن العمل في سوق بكارة المركزي.

جاءت هذه الخطوات ضمن أخرى ستعلن عنها الحكومة الفيدرالية تباعًا، في إطار خطتها لرفع الإيرادات الحكومية من الضرائب والرسوم، لتمويل الموازنة العامة، التي تعتمد على المنح والمساعدات الخارجية. تعتبر الموازنة العامة لعام 2024 التي أقرّ البرلمان الصومالي، الأكبر منذ تشكيل الحكومة الفيدرالية، فهي تُقدر بـ 1079.23 مليون دولار، من النفقات التشغيلية والاستثمارية. تتضمن تكاليف ثابتة بنحو 569.6 مليون دولار، ونفقات استثمارية (المشاريع) بنحو 509.6 مليون دولار، سُتمول من خلال مصدرين أساسيين، أحدهما؛ العائدات المحلية، وتُقدر بنحو 346 مليون دولار تقريبًا، من الضرائب والرسوم. والآخر؛ المنح المُقدمة من المؤسسات المالية الدولية والشركاء الثنائيين، التي تصل إلى 694.6 مليون دولار، ما يمثّل نحو 66٪ من حجم الإيرادات المتوقعة في الموازنة، مقابل 34٪ من خلال الإيرادات المحلية المتنوعة، مع عجز مالي قدره نحو 0.5٪ من الناتج المحلي الإجمالي الاسمي لعام 2024، المُقدر بنحو 12.8 مليار دولار.

إلى ذلك، لم تتمكن الحكومة الفيدرالية من تحقيق مستهدفات الموازنة العامة، خلال الأعوام الماضية، ففي موازنة عام 2023، حققت الحكومة نحو 80٪ من المستهدفات، بسبب انخفاض المنح بنسبة 35.6٪ عما كان متوقعًا؛ فلم تجمع سوى 408.5 مليون دولار، من إجمالي المخطط المقدر بنحو 633.8 مليون دولار. وبدءًا من النصف الثاني من عام 2025، لن تتمكن الحكومة من الوصول إلى المنح، نتيجة لمرحلة ما بعد الإعفاء من الديون، ما يعني وجوب البحث عن بدائل جديدة لتمويل الموازنة العامة. من هذا المنطلق، وضعت خطةً لرفع حصيلتها من الإيرادات المحلية، بدايةً برفع قيمة الرسوم الحكومية والضرائب والجمارك.

جبايات غير مشروعة

تمثّل الجبايات غير المشروعة أزمة كبيرة تواجه مجتمع الأعمال في البلاد، التي يستشري فيها الفساد، وتحتل المرتبة (11) في قائمة أشد البلدان فسادًا، وفق مؤشر مدركات الفساد لعام 2023، بعد تحقيق 11 من 90 نقطة. فمثلا، تفرض شركة خاصة تُدعي "وطني" رسمًا غير مشروع، قدره 190 دولارًا على كل حاوية تصل إلى ميناء مقديشو البحري، دون أن يصل منه شيء إلى خزينة الدولة العامة، وفق حديث "جيسكا" مع أحد العاملين في الميناء الذي فضل عدم الكشف عن اسمه.

تُقسم هذه الجبايات، بحسب الرجل، بين جهات حكومية نافذة، وهي: بلدية مقديشو ودائرة المرور والميناء، ووزارة النقل، وعدة شركات محلية خاصة، مثل: "وطني" و"هيغن" و"أحسن" و"برواقو"، بالإضافة إلى وكالة المخابرات والأمن القومي، وشخصيات أخرى لها علاقة بحركة الشباب.

تقدم نقاط التفتيش العشوائية داخل العاصمة مثالًا آخر، حيث يُجبر سائقو الشاحنات على دفع رسوم غير مشروعة أثناء نقل البضائع. كما فرضت الحكومة رسومًا جديدة تُقدر بـ 150 دولار، على الشاحنات التي تنقل السلع إلى المحافظات الأخرى، وهي رسوم وُصفت بأنها غير قانونية، وأثارت امتعاضًا لدى سائقي الحاويات.

ذكر عبدي أبشر طورى، المدير العام للغرفة التجارية، في حديث لـ "بي بي سي"، أن الغرفة التجارية حذرت وزير المالية من أنّ تطبيق هذه الضريبة قد يؤدي إلى إغلاق العديد من الشركات في مقديشو، ويثير احتجاجات وانتفاضات شعبية، مشددًا على أن الطريقة التي تُفرض بها الضرائب هي ما يثير الاعتراض، وليس مبدأ جمع الضرائب ذاته.

يرجع المحللون الاقتصاديون رفض التجار للضريبة الجديدة إلى مخاوف بشأن الشفافية، ومساءلة النظام الضريبي، ويرغب التجار في الحصول على ضمانات بأن عائدات الضرائب ستُستخدم بشكل مناسب في مشاريع تخدم المجتمع، وأنه سيتم القضاء على الابتزاز غير القانوني الذي يعاني منه التجار في كثير من الأحيان.

يعتقد الباحث الاقتصادي، حسين عبد الله يوسف، أن ضريبة المبيعات تؤثر بشكل كبير على الاقتصاد، وتقلل من القوة الشرائية للمستهلكين. يقول لـ"جيسكا" إنّه رغم زيادة الحكومة دخلها المحلي بنسبة 25٪ في عام 2023، مقارنة بـعام 2022، فإن فرض ضريبة القيمة المضافة قد يُضعف قدرة المواطنين على شراء الخدمات والمنتجات، مما يُهدد الاستهلاك المحلي، وبالتالي مستهدفات الحكومة من الإيرادات، والنشاط الاقتصادي ككل. يعقب بأنّ ثقة رجال الأعمال في الاقتصاد ستتراجع، وسيؤثر ذلك بالسلب على الاستثمار المحلي والدولي، وقد تلجأ شركات إلى تصفية أعمالها، مما سيرفع من مستوى البطالة المتفشي للغاية.

صدام مع الولايات

لم تتوقف تبعات القرار على العاصمة، مقديشو، إذ أعلنت وزارة المالية في ولاية جوبالاند رفضها بشكلٍ قاطع نظام ضريبة المبيعات الجديد. وعبرت في بيان صحفي، عن استيائها من عدم استشارة الولاية قبل فرض الضريبة الجديدة، معتبرةً أن هذه الضرائب لا تراعي استقلال السلطات الضريبية في الحكومات الإقليمية. وأوضحت أن هذا الإجراء الأحادي قد يضر بالتعاون بين حكومات الولايات والحكومة الفيدرالية.

وازداد الوضع تعقيدًا، بعد تهديد حركة الشباب باستهداف البنوك التي تحصل الضريبة الجديدة، وذلك على لسان ناطقها، علي محمود راغي، الذي تحدث في مقطع فيديو حول هذه الضريبة. ردًا على التهديد، أصدرت البنوك ومزودو خدمات الدفع الإلكتروني بيانات، ذكروا خلالها أن ضريبة المبيعات لن تُطبق من خلال سحب الأموال من أرصدة العملاء، مؤكدة حرصها على حماية أموال المودعين.

أكدت الحكومة من جانبها العزم على المضي قدمًا في تطبيق الضريبة، بغض النظر عن مقدار النقد والمعارضة، فهي بأمس الحاجة اليوم لكسب ثقة رجال الأعمال والمواطنين، واتخاذ خطوات لتعزيز الشفافية والمساءلة، وبناء نظام ضريبي على أسس قانونية واضحة، مع ضمان حق رجال الأعمال في الطعن في أي ضرائب غير قانونية من خلال نظام قضائي عادل، وعدم فرض أعباء إضافية على المواطنين من ذوي الدخل المحدود، واستثناء القطاعات الحيوية التي لها تأثير مباشر عليهم. 

ختامًا، على الحكومة الفيدرالية القضاء على تعدد الجهات التي تفرض الضرائب والرسوم على الأعمال التجارية، وميكنة نظام جباية الضرائب، والموازنة بين الجباية والحفاظ على النشاط الاقتصادي، حتى لا تتحول الضرائب إلى عبء يهدد القطاع الخاص، الذي يقوم بمهام الحكومة في توفير جميع الخدمات.