تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الخميس 19 سبتمبر 2024

رأي

الصومال: وسياسة الإدمان على الاتكالية

25 أغسطس, 2024
الصورة
Hassan Sheikh
الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود ينتظر خارج باب 10 داونينج ستريت في لندن، في 4 فبراير 2013، لدى وصوله للقاء رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون. (تصوير جوستين تاليس / وكالة الصحافة الفرنسية)
Share

بعد انهيار الحكومة المركزية في الصومال، في مطلع التسعينات من القرن الماضي؛ وتشرذم الحركات المسلحة، انتشرت في الصومال قوات دولية متعددة الجنسيات تحت اسم عملية الأمم المتحدة في الصومال "يونوسوم"، لفرض الاستقرار وتأمين الممرات لمساعدات النازحين، وضحايا المجاعة التي ضربت مناطق في الجنوب. فشلت يونوسوم حينها في أهم أهداف البعثة المتمثلة في فرض الاستقرار، فانسحبت عام 1994 تاركا الصومال تحت رحمة زعماء الحرب، وفي أتون فوضى عارمة، حولت مناطق واسعة من الجنوب أرضا خصبة لتفريخ التطرف والإرهاب. 

تدخلت إثيوبيا المجاورة، بعد عقد ونصف من انتهاء عملية يونوسوم، لهزيمة تحالف المحاكم الإسلامية، الذي ضم متطرفين وعناصر من تنظيم القاعدة في صفوفه، ولتمكين الحكومة الصومالية الهشة من بناء الذات في العاصمة مقديشو. خفضا للتوتر الإقليمي الناتج عن التدخل الإثيوبي، رعت الأمم المتحدة الترتيبات السياسية والأمنية التي انسحبت بموجبها القوات الإثيوبية من الصومال، نهاية 2008، وحلت محلها بعثة الاتحاد الأفريقي لحفظ السلام في الصومال "أميسوم"، بدعم من الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي. وكان من بين مهام هذه البعثة تأمين المقرات الحكومية والشخصيات المهمة في الدولة، حتى تتمكن الحكومة الصومالية من بناء مؤسساتها الأمنية والاضطلاع بمهامها الدستورية. 

بقيت القوات الإفريقية في الصومال خمسة عشر عاما دون تقدم يذكر، في ترتيبات ما بعد أميسوم أو بناء مؤسسات أمنية قادرة على حفظ الأمن والاستقرار وحماية المقار الحكومية والمنشئات الحيوية، ما اضطر الأمم المتحدة والاتحاد الافريقي، قبل سنتين، إلى وضع خارطة لتسريع عملية نقل السلطات الأمنية للحكومة الصومالية، والشروع في ترتيبات خفض القوات الإفريقية، تمهيدا لإنهاء العملية الدولية في الصومال. 

أنهى الإتحاد الإفريقي، بالاتفاق مع الأمم المتحدة والمانحين، بعثة أميسوم عام 2022، وتم تعويضها ببعثة الإتحاد الإفريقي "أتميس"، لإتمام عملية الانتقال وإنهاء المهام الدولية في غضون عام. انتهت الفترة المحددة لنقل المهام الأمنية للحكومة الصومالية دون أن تبدي استعدادا للقيام بمسؤوليتها، وحماية نفسها في وجه حركة الشباب الراديكالية، ما دفع المجتمع الدولي إلى تمديد صلاحيات البعثة لعام إضافي، وبالتوازي ضغط على الحكومة الصومالية من أجل تبني سياسات جادة، والقيام بخطوات عملية لتأمين بقائها بنفسها، بعد انتهاء مهام القوات الأفريقية. انتهى نصف العام الإضافي، وشرعت الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي في خفض تدريجي للقوات، قصد سحب آخر جندي من أتميس بمتم شهر ديسمبر/ كانون الأول المقبل.

 ظهر مجددا أن هذه القوات تترك وراءها فراغا أمنيا خطيرا، وأن الأجهزة الأمنية التابعة للحكومة الفدرالية عاجزة عن سد هذا الفراغ أو تأمين مواقعها، فتوقع الجميع سيناريو أفغانستان في الصومال، بعد انسحاب قوات حفظ السلام. استبعدت الحكومة في مقديشو فكرة الانهيار، على غرار أفغانستان، قبل أن تداركت الموقف، وتطالب مجلس الأمن والاتحاد الإفريقي بتأجيل خفض القوات، وإنشاء آلية جديدة لحماية الحكومة الصومالية بعد خروج أتميس. 

شهر أغسطس/ آب الجاري، وافق مجلس الأمن التابع للاتحاد الأفريقي، بالتشاور مع الأمم المتحدة والدول المانحة، على إنشاء آلية جديدة تحت اسم بعثة الاتحاد الافريقي للدعم والاستقرار في الصومال "أوسوم"، بديلا عن "أتميس" سوف تشرع في عملها مطلع العام القادم. بخلاف كل الآليات السابقة لم يحدد مدى زمني لمهام هذه القوات، لأن الحكومات الصومالية المتعاقبة فشلت فشلا ذريعا في إثبات وجودها الفعلي، وتحمل مسؤولياتها الدستورية، لذا تركت الفترة مفتوحة لعملية حفظ السلام في بلد أدمنت فيه النخبة الحاكمة الاعتماد على الآخرين، في كل مقومات الدولة، ليبقى دورها منحصرا في الصراع على سلطة الفساد في محمية المجتمع الدولي – الصومال. 

يري البعض أن مشروع الحكومة الفدرالية هو في الأساس مشروع خارجي، ومن مخرجات مؤتمر آلدوريت، في كينيا، عام 2004، الذي شكل حكومة منفى، تحظى من الشرعية فقط بالدعم الدولي. انتقلت هذه الحكومة إلى مقديشو، في 2007، على ظهر المدرعات الإثيوبية، أثناء التدخل الإثيوبي في الصومال، لدحر حكم تحالف الإسلاميين، ثم بقيت بفضل القوات الإثيوبية والقوات الإفريقية التي شكلها مجلس الأمن الدولي في نفس العام.

ولد هذا المشروع في كنف الدعم الخارجي، واستمد شرعية من الخارج، ولم تعمل النخبة السياسية في المشروع على توطينه، واكتساب المشروعية من الداخل، من خلال إجراء حوار وطني حقيقي ومصالحة داخلية شاملة بين القبائل، لتمثل مرجعية وطنية للدولة. عوضا عن ذلك، استمرت هذه النخبة في تعميق أزمة الثقة بين القبائل الصومالية، وحولت مشروع الدولة الصومالية لمشاريع خارجية تمولها الأمم المتحدة، وتؤمنها قوات الإتحاد الإفريقي، وتستثمرها هذه النخبة في الفساد ونهب الأموال المخصصة من جهات خارجية، لبناء مؤسسات الدولة في الصومال، فأصبحت هذه المؤسسات عالة على أموال المانحين والحماية الأمنية الخارجية، لدرجة الإدمان على السياسة الاتكالية والاعتماد المطلق على الجهات الخارجية. 

بعد عشرين عاما من تشكيلها في كينيا المجاورة بمبادرة أجنبية، لا تزال الحكومة الصومالية معتمدة على المال الأجنبي والقوات الأفريقية لضمان بقائها الهش بعد فشلها الذريع في معظم الأهداف الموضوعة لنقل مسؤوليات الأمن إلى المؤسسات الصومالية، لأن مقاربة النخبة الحاكمة في معالجة القضايا الداخلية ذات الصلة لا تخدم أجندات الدولة، وتقوض أساسها من خلال رعاية الفساد والمحسوبية، وتفتيت النسيج الاجتماعي المفتت أصلا، بفعل العنف الأهلي. هذه المقاربة دفعت كثيرا من الصوماليين إلى تبني موقف محايد بين الدولة المتكئة على الأجانب في بقائها، وبين حركة الشباب المكونة أساسا من الأجانب في عضويتها. 

أدى الدعم الخارجي المستمر منذ عقود إلى نتائج عكسية، فالسياسة الاتكالية للنخبة الصومالية الحاكمة على الخارج لا تتعزز قدرة الدولة على وضع استراتيجيات وطنية، تطرح تصورات صومالية لمشاكل الصوماليين. ما ولّد لدى السياسي الصومالي شعورا بضرورة الاعتماد الدائم على جهات خارجية في كل شيء، من تسيير شؤون الدولة إلى العمل مثل سياسي مغمور يبحث دوما عن دولة أجنبية تتبناه. ما أدخل الصومال في دوامة غير منتهية من واقع اللادولة، وتحكم جهات دولية وإقليمية في مصير الصوماليين، كلفتهم عدم الاستقرار وتقرير مصيرهم بأنفسهم. علاوة على ذلك، تجذب السياسة الاتكالية على الخارج تدخلات إقليمية ودولية متناقضة، تزيد من تعقيدات الوضع الأمني والسياسي في الصومال، فالحكومة مدمنة الاعتماد على الأجانب، أبرمت في الآونة الأخيرة اتفاقيات أمنية وعسكرية مع دول تتعارض مصالحها الإقليمية، مثل: إثيوبيا ومصر وتركيا والإمارات العربية المتحدة من بين العديد من الدول في المحيط الإقليمي والعالم. 

تشكوا الدول والجهات المانحة للصومال من إنهاك مزمن في توفير الأموال، وأنها قد تفشل قريبا في تمويل عمليات حفظ السلام، ودعم موازنة الحكومة. لكن هذه الأموال لا تقدم إلا حلولا قصيرة الأمد في الصومال، وتبني هياكل وهمية للدولة لم تستطع بعد عقدين ضمان وجودها دون الاعتماد علي الخارج. فضلا عن تحرير مناطق واسعة من جنوب الصومال من قبضة حركة الشباب، التي لا تزال تمثل خطرا على استقرار القرن الإفريقي. فما جدوى هذا الدعم؟ إنه أشبه بالمخدر السياسي للنخبة الصومالية، يحجب عنها المفهوم الصحيح للدولة والمخاطر المحدقة بالبلد، ولا تستطيع الإقلاع عنه بفعل التعاطي. 

يتعين قصد بناء دولة حقيقية في الصومال، نقل المسؤوليات إلى الصوماليين، والتوقف عن فرض الحلول الخارجية الجاهزة، وسيولة المال الأجنبي الذي ينقلب مالا جاهزا للتوظيف السياسي المحلي، في شراء الذمم والتربح بالفساد. ما يأتي بنتائج عكسية تقوض مشروع الدولة، وتزيد من الاعتماد على الخارج. 

صحيح أن بعثة الأمم المتحدة في الصومال والدول المانحة استثمرت الكثير في العملية السياسية، قصد إعادة بناء مؤسسات الدولة، بغض النظر عن الأهداف الاستراتيجية لهذه الجهات. لكن هذا الاستثمار لم يفض، بعد عقود، إلى قيام مؤسسات فعلية، تتولى مسؤولية حماية نفسها، فضلا عن دولة تبسط سيطرتها على ربوع البلاد، وتفرض سيادة الدولة.

يواجه الكل في الصومال اليوم، واقعا ماثلا أمام المجتمع الدولي يؤكد أن خروج القوات الأجنبية يعني الفراغ الأمني والمؤسساتي، وعودة النزاعات الأهلية بين القبائل التي لم تتصالح بعد. فضلا عن احتمال اجتياح حركة الشباب، وتكرار سيناريو أفغانستان. 

تفاديا لهذا السيناريو، جدد الاتحاد الافريقي تواجده في الصومال من خلال بعثة جديدة. لكن دون تغيير الاستراتيجيات التي كرست الاتكالية وسلوك اللامبالاة السياسي لدي النخبة الحاكمة والمتنفذة في مقديشو، ما يعني أن الإتحاد الإفريقي والمجتمع الدولي أعاد جرعات الإدمان لمشروع الدولة، دون أن تؤدي هذه الخطة إلى تعافيها بشهادة التجربة التي استمرت لعقود متطاولة. 

المزيد من الكاتب