الخميس 21 نوفمبر 2024
يجهل الكلُّ ما ينبغي فعله إزاء أول إبادة جماعية تُبثُّ مباشرة على الهواء في التاريخ، لقد توقفت عن المحاولة منذ أشهر، وذلك حين لقي أصدقائي مصرعهم في غزة. أكتب هذه الكلمات بينما تستمر حملة الإبادة الجماعية في شمال غزة؛ والتي وصفها نائب سفير فلسطين لدى الأمم المتحدة بأنها "إبادة جماعية تُرتكب داخل إبادة جماعية أوسع".
لقد فُرض على الفلسطينيين - لأكثر من 75 عاما سواءً عبر خطاب هنا أو احتجاج هناك - أن يُظهروا للعالم دون توقف أنهم يُقتلون لمجرد الحصول على اهتمام هامشي. ومع ذلك؛ فقد تطلب الأمر حدوث عملية عسكرية منسقة - بحجم السابع من أكتوبر - لإحداث صدع في جدار هذا السجن المفتوح، كي يستوعب العالم فظاعة الحصار الشامل والمستمر لما يقرب من عقدين بشكل لا يُطاق. لستَ بحاجة إلى أن تكون محللا متمرسا لتكتشف أن ما حصل كان نتيجة حتمية لمسار تطور الأوضاع هناك، فالمقاومة هي الخيار الذي يلجأ إليه الناس حين يقعون ضحية للاستعمار. نحن بصفتنا صوماليين لسنا في موقف يسمح لنا إطلاقا بانتقادهم أو توجيه أفعالهم؛ لكننا ندرك تماما معنى النضال من أجل الحرية وتقرير المصير.
لن أنسى أبدا زيارتي الأولى لفلسطين، حيث لا أتذكر سوى دفء مشاعر الفلسطينيين؛ ذلك الشعب الذي لا يزال يقاوم متشبِّثا بالأمل وحب الأرض التي تحمَّل من أجلها الكثير. غالبا ما يقول لي أحد أصدقائي: "لا نطلب سوى الحرية، وبعدها سنجد حلا لكل شيء". الشعور الوحيد الذي ينتاب المرء حين يغادر فلسطين - وخصوصا بعد زيارة غزة - هو الإحساس بالغضب.
أجد نفسي عاجزة عن إيجاد الكلمات المناسبة للتعبير عما حدث حين يسألني أحدهم: "كيف كانت غزة؟"، وخاصة بعد أن شهدت تدميرها بالكامل على مدى الأشهر الاثني عشر الماضية. إن استخدام صيغة الماضي هو ما يجعلني أشعر بالانزعاج؛ لدرجة الجزع الذي يجعلني أتجمد من الذهول، مثل الغزال حين تُسلط عليه في الليل أضواء مصابيح السيارة الأمامية، فأنا أكافح لاستيعاب حقيقة مفادها أن أكثر قطاع في الأرض اكتظاظا بالسكان في العالم لم يعد موجودا، وهو مكان له تاريخ أقدم بآلاف السنين من الاحتلال الذي يدمره حاليا.
يتأمل وسام نصار - المصور الفوتوغرافي المقيم في غزة، والذي وثق ثقافة القطاع منذ فترة طويلة - كيف تبدو غزة اليوم: "لسوء الحظ، دمرت إسرائيل كل شيء جميل في غزة، إذ لم تكن تهدف إلى إبادة الناس فحسب، بل وأيضا تدمير البنى التحتية والمباني التاريخية والحجر والشجر، راغبة في استئصال الحياة البشرية والتراث الثقافي".
لم نشهد إبادة جماعية فحسب، بل وأيضاً تدميرا معرفيا في صورة الإبادة الكاملة لأنظمة المعرفة، فقد دمرت إسرائيل جميع مؤسسات التعليم العالي الاثنتي عشرة، وفجرها جنود يحبون لفت الأنظار إلى جرائم الحرب التي يرتكبونها بشكل معتاد.
لقد قيل لي إنني بحاجة إلى الحداد على الأصدقاء الذين رحلوا، الأصدقاء الذين ماتوا مع عائلاتهم، والأصدقاء الذين وعدتهم بأنني سأراهم قريبا مرة أخرى، وعائلات أصدقائي الذين ما زالوا يحاولون البقاء على قيد الحياة. كيف يمكن للمرء أن يتعامل مع أحزان ومصائب لا تتوقف؟ الحقيقة هي أنه لا يمكنك ذلك. ففي نهاية المطاف، يتسلل الخدر إلى نفسك.
إن الحقيقة التي لا لبس فيها هي أن هناك شعبا يتعرض للإبادة، لأنه تمسك بحقه في التحرر، ويشكل تهديدا لأطول احتلال عسكري في التاريخ الحديث. إن حملة ممنهجة من المجازر الجماعية تحدث في مدينة جباليا الشمالية بينما أكتب هذه الكلمات، لأن السكان رفضوا المغادرة.
إذا كنت تبحث عن أطروحة حول "الدلالات الدقيقة" للاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي؛ فلن تجدها هنا. عاهدت نفسي بعد عودتي من الضفة الغربية وغزة - قبل سبعة عشر عاما - بألا ألتفت مطلقا لمشاعر أو آراء الإسرائيليين. إن وسائل الإعلام الرئيسة تفعل هذا بالفعل بالنسبة لنا، الصحافة الغربية والمسؤولون الذين يكررون السردية الإسرائيلية حول الدروع البشرية لا ينظرون لجثث الناس تحت أنقاض المباني إلا مثل ملحق حين يتوقفون عن شيطنتهم، ويقرون بأنهم بشر.
لقد شاهدت هذا الأسبوع كيف يبذل بعض أبرز الكتاب الغربيين قصارى جهدهم لتجنب استخدام الإساءة العنصرية ضد تا نهيسي كوتس، بسبب جرأته على إضفاء الصفة الإنسانية على الفلسطينيين. إن التيار المناصر للتفوق الأبيض وسيادة البيض سوف يحمي هياكله وبؤره الاستعمارية على الدوام، وسيجعل شعوبا بأكملها تدفع ثمن جرائم لا ناقة لها فيها ولا جمل، وهي جرائم الفاشية الأوروبية.
لقد أخبرني والدي الراحل، ذات مرة، عن اليوم الذي شاهد فيه أحداث انهيار الصومال على شاشة التلفزيون، وتحدث عن الدموع في عينيه، عندما رأى شوارع مقديشو تتحول إلى ساحة حرب. كما وصف الإحساس العميق بالخذلان الذي شعر به الصوماليون، حيث لم يرفض العالم الصومال باعتبارها "مشكلة أبدية" مستعصية فحسب، بل وصف شعبها بأنه "متوحش" في اللحظة التي تعرضت فيها القوات الغربية للأذى.
لقد أعطاني مشهد انهيار الدولة والحكومة في الصومال فكرة عما سيحدث بعد السابع من أكتوبر، كنا جميعا ندرك أن الرد مؤكد، وكنا نعلم أنه سيكون غير متناسب، وأنه سيكون متسقًا مع تاريخ إسرائيل في ضرب غزة لمدة تقرب من عقدين من الزمان.
ولكن أن يأتي الرد في صورة إبادة جماعية؟ هنا أعتقد أنه لم يعد بوسعنا التظاهر بالبراءة. لقد أدى الحصار الذي دام 17 عاما إلى عزل غزة، وترك سكانها البالغ عددهم مليوني نسمة تحت رحمة مستعمريهم. عندما كانت إسرائيل قادرة على التحكم حتى في عدد السعرات الحرارية المسموح للفلسطينيين باستهلاكها، فقد كانت تمتلك القوة لسحب البساط من تحت أقدامهم في أية لحظة؛ وهذا ما فعلته. إن التجويع جزء من ترسانة إسرائيل التي تم نشرها لإحداث تأثير فتاك.
هذه أيضا إبادة جماعية ممولة من الغرب، مما يجعلنا جميعا متواطئين. لم تردع كل الاحتجاجات أو المعارضة داخل وزارة الخارجية التزام بايدن البارد بإبادة الفلسطينيين. "... الحكومة مدمنة، تنفق مليار دولار أسبوعيا لترويض ذوي البشرة السمراء"، هذا ما قاله مغني الراب الأمريكي Brother Ali في إحدى أغانيه الشهيرة. على مدى الأشهر الاثني عشر الماضية، كنت ألتقي، كل أسبوع تقريبا، بأشخاص أدركوا هذه الحقيقة، وهو إدراك مفجع لا يبعث إلا على الأسى.
الأشخاص الذين يرتكبون إبادة جماعية لا ينتمون إلى أي دين، لذا لم أشر ولو لمرة واحدة لمفردة "اليهودية" في هذه المقالة، فالعديد من اليهود كانوا جزءا أساسيا من تحالف النشطاء والمثقفين المعارضين للإبادة الجماعية. ووصفت نعومي كلاين الصهيونية بأنها "صنم زائف" يستخدم معاناة اليهود والقصص التوراتية "أسلحة وحشية لسرقة الأراضي الاستعمارية، وخرائط طريق للتطهير العرقي والإبادة الجماعية".
ومع ذلك؛ يتم تعليم الفلسطيني المولود في ظل الاحتلال أن التمييز والفصل العنصري الذي يقاسيه يهدف إلى حماية "الدولة اليهودية الوحيدة في الشرق الأوسط". وذهب جو بايدن - رئيس الولايات المتحدة - إلى أبعد من ذلك، وادعى مرارا وتكرارا أنه لن يكون أي يهودي في العالم آمنا بدون إسرائيل. وفي عام 1986؛ قال إنه لو لم توجد إسرائيل لاضطرت الولايات المتحدة إلى اختراعها اختراعا. وصرَّح لمجلس الشيوخ: "إنها أفضل 3 مليارات دولار استثمرناها".
لذا ينبغي ألا نتفاجأ برفض حق الفلسطينيين في تقرير المصير عندما لا يقترن بالإرهاب، إن فلسطين الحرة لا تهدد نظام الفصل العنصري بين النهر والبحر فحسب؛ بل إنها تشكل أيضا تهديدا لواحدة من البؤر الاستيطانية الرئيسة للولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، والتي تعد ركيزة لمشروع هيمنتها على العالم.
كيف يمكن لمثل هذا الوضع أن يستمر في مواجهة مثل هذا الانتهاك الصارخ لحقوق شعب؟ إن قوانين اللعبة قديمة ومألوفة، إذ تم استخدامها معظم هذا القرن لتبرير حروب الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. يتم تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم، وتصوير إيمانهم بأنه بربري، ثم يتم خلط قضيتهم المشروعة بحرب أوسع نطاقا ضد الغرب. في هذه السردية؛ يتم رفض حماس ببساطة باعتبارها منظمة إرهابية إسلامية ووكيل لإيران، وليست إحدى المنظمات الفلسطينية التي تقاتل لتحرير أرضها.
وبصفتي شخصا مسلما، فإن حزني يزداد اتساعا، فالأحداث أثارت موجة من الإسلاموفوبيا في جميع الدول الغربية، حيث يتعرض المسلمون للمضايقة، ويتم تجاهل مخاوفهم بخصوص غزة، وتُتخذ إجراءات أمنية ضدهم سواءً في الحرم الجامعي أو سوق العمل.
ربط أحد أعضاء البرلمان البريطاني ربطا مباشرا - وذلك ردًا على أعمال الشغب في جميع أنحاء المملكة - بين نزع حكومة المملكة المتحدة الإنسانية عن الفلسطينيين والهجمات على المسلمين في مدن في جميع أنحاء بريطانيا. كتب كلايف لويس على منصة X قائلا: "إن اللاإنسانية التي تظهر لأحدهم تمنح "تصريحا" للآخر".
لقد أُزيل الغبار عن الدليل الإرشادي للإسلاموفوبيا في الحادي عشر من سبتمبر، والساسة والمؤسسات الحاكمة يتبعون نصوصه بشكل مميت في قابليته للتوقع. ويهدف هذا إلى إسكات أصوات أولئك الذين يرفعون الوعي بما لا تريد إدارة بايدن والدول الغربية الأخرى أن تعرفه مجتمعاتنا.
وفقا لبرنامج الغذاء العالمي، لم يدخل أي طعام إلى شمال غزة منذ بداية هذا الشهر. لقد ظهرت صور ومقاطع فيديو لأطفال يعانون من سوء التغذية على أغلب شاشاتنا، وهذا يحدث على عتبة أحد أغنى المجتمعات في العالم. وبصرف النظر عن الدعوات الفارغة لإسرائيل للسماح بمزيد من المساعدات، رفضت الولايات المتحدة، المتبرع الرئيس لها، اتخاذ المزيد من الإجراءات لوقف الهجوم ورفع الحصار، وهو السبب الجذري لمعاناة غزة.
ومن ناحية أخرى؛ لم نكن نعتقد أن الفلسطينيين سيضطرون إلى تسجيل كل لحظة من اللحظات الحية للإبادة الجماعية التي يحاولون النجاة منها، مما يشير إلى الهاوية الأخلاقية التي سقطنا فيها.
كيف أتجاوز هذا الجزء من الحزن؟ بعد مرور عام، لا أزال أجهل كيف أفعل ذلك..