الخميس 21 نوفمبر 2024
إنّ بعضنا ليفقد تماسكه في حضرة الأوجاع التي نقرأ عنها في قصص غيرنا.
نور الدين فارح، رواية "روابط".
دافعت الكاتبة والصحفية الأمريكية–الروسية ماشا جيسن، في مقالٍ لها في مجلّة "n+1" عن فكرةِ مقارنة قطاع غزة بالأحياء اليهودية في أوروبا الشرقية، وتوسّلت الكاتبة المقارنة باعتبارها هامّة لفهم العالم. "يوضع لونٌ مقابل ألوانٍ أخرى. وكذلك شكلٌ ما لا يكون شكلاً حتّى يميّز عن الأشكال الأخرى. ولا يُحسّ بفرادة مشاعرَ ما مالم تجرب مشاعرُ أخرى."
توضّح جيسن أن هذه المقارنات تهدف إلى جعل ما هو غير مألوفٍ مألوفًا، إلى مخاطبةِ ذلك المألوف في كلّ منا لنتساءل: "إذا كان هناك شيء ما، فكيف يبدو؟" أثار المقال انتقادات شديدة من أناسٍ اعتقدوا أن المقارنة أضفت طابعاً نسبويّاً على تجارب اليهود الأوروبيين في ظل النازيين، وأنّها، فيما يبدو على نحوٍ سيءٍ، اتهمت أحفاد هؤلاء الضحايا بارتكاب جرائمَ مماثلةٍ. كان رد جيسن على تلك الاتهامات مقتضباً وجريئاً: "يمكن للأشياء أن تتماثل جوهرياً، وتختلف في التفاصيل". مع ذلك، ترى أنّ المقارنة ليست وسيلةً نزيهةً لمساعدتنا على فهم الصراعات المعقدة والبعيدة، لكنها يجب أن تكون جزءاً من "مشروع سياسي"، يسعى إلى "منع ما نعرف أنه يمكن أن يحدث من أن يحدثَ."
لقد لاحظت، في الأسابيع القليلة الماضيّة، كُتاباً يستخدمون مقارنة أخرى، على نحوٍ مكثّفٍ، لفهم التطورات في هايتي وغزة: مقديشو في التسعينيات. يبدو أن الصومال، باعتبارها "نموذجاً للدولة الفاشلة"؛ على حد تعبير كاتب مجلة نيويوركر جون لي أندرسون، تقدمُ صورة واستعارة مثاليتين.
في فبراير/ شباط المنصرم، أفاد موقع "أكسيوس" الإخباري الأمريكي أن المسؤولين الأمريكيين أعربوا عن قلقهم المتزايد من أن غزة في طريقها لتصبح مثل مُقديشو، وذلك مع انتشار الفوضى والجوع بسبب منع إسرائيل قوافلَ المساعدات من الوصول إلى القطاع المحاصر، واستهداف الشرطة المسؤولة عن تأمين مرورها. بعد أيامٍ، وعلى إثر إطلاق إسرائيل النار على طالبي المساعدات، وقتل أكثر من 100 شخصٍ منهم، نشر مراسل أكسيوس السياسي باراك رافيد على منصة X، تويتر سابقًا: "كانت إدارة بايدن تحذّر إسرائيل، منذ أسابيع، من أن غزة تتحول إلى مقديشو. وما حدث اليوم، يظهر أنها بالفعل صارت كذلك". أثار هذا التشبيه عجباً.
فانتقد برونو ماسياس، الوزير السابق في البرتغال والمعلّق السياسيّ البارزٌ، هذه المقارنة المغلوطة قائلاً: "أمقديشو هي المكان الذي يقتل فيه جيشٌ غازيٌ بقذائف الدبابات مئاتِ المدنيين الذين يبحثون عن الطعام؟ غريبٌ للغاية". ولم تكن الصحفية في قناة الجزيرة، ليلى العريان، أقلّ حيرة، حينما قالت: "فليشرح أحدكم مرجع «مقديشو»".
كقرّاءٍ ليسوا على درايةٍ بماضي المدينة الدنيء، قدّمت لهم هذه الملاحظاتُ السياق التالي لفهم سبب استدعاء مقديشو، أوائل التسعينيات، هاهنا: كانت مقديشو - عاصمة الصومال المتمركزة في القرن الإفريقي- ذات يومٍ أكثر مدينة سائبة وخطرة في العالم". وعلى نفس الخطى، حذر توماس فريدمان، كاتب عمودٍ في صحيفة نيويورك تايمز، من أن مسار الحرب يهدد بخلق واحدٍ من سيناريوهين في غزة: "حكم ضعيف لحماس" أو "أرض عصابات شبيهة بالصومال على البحر الأبيض المتوسط". وعلى الرغم من وصفه لحماس سابقاً بأنّها "فاشية ثيوقراطية"، كتبَ: "لو كنت مكان إسرائيل لفضلت حماس الضعيفة على الصومال".
في إبريل/نيسان الماضي، أصدرت صحيفة الغارديان تقريراً مروعاً عن الوضع الإنساني المتدهور في غزة. ونقل التقرير عن عامليين في المجال الإنساني، لم يذكر أسماءهم، قولهم إن القطاع يتحوّل إلى "مقديشو على البحر الأبيض المتوسط"، قبل أن يضيفوا بأن غزة ليست بعدُ بذلك السوء. وقال المسؤولون بأنّه: "من التعجّل مقارنة القطاع حالياً بالصومال أو بدولٍ فاشلةٍ مماثلةٍ".
أثار هذا التقرير ردود فعلٍ أكثر من تصريحات رافيد، بسبب العنوان اللاّفت، ثمّ أيضًا، وهذا يبدو محتملاً جداً، بسبب أنّ الصوماليين يقرؤون صحيفة الغارديان أكثر من أكسيوس. فقالت الكاتبة الصومالية البريطانية، نظيفة محمد القصة، بأنّ القصة تحمل "عنواناً فظيعاً". ونشر حساب مجهول: "يجب على المقديشيين الدفاع عن مدينتهم ضد هذا التشهير. الجارديان، مثل غيرها من وسائل الإعلام الليبرالية الغربية الرئيسة، لا تنفك تصوّر إفريقيا كمكانٍ للموت والدمار والبؤس. لم لا يوظّفون ماريوبول أو حلب بدلاً عن مقديشو؟".
وفي ردٍ أيضاً على المقال، حاول الكاتب الأمريكي نيل رومانيك الوصول إلى جوهر المسألة بلغةٍ أكثر إيلاماً: "مقديشو" ترمز لـ "أناس غير بيض عنيفيين يجب احتلالهم (من قبل أناس بيض) لأجل مصلحتهم". وفي منشور منفصل أسفله كتب: "هل تتذكرون عندما كان المقاولون العسكريون يسمون نيو أورليانز بـ "مقديشو" بعد إعصار كاترينا؟".
كان الهدف وراء المقارنة بعث الصدمة والغضب، ولقد تحقق ذلك. تداول الناسُ التقريرَ على نطاق واسعٍ، وكذلك رسالته الأساس - والتي هي أنّ الجوع ينتشر في غزة والقانون والنظام ينهاران بسرعةٍ، مما أدى إلى إنتاج خليطٍ سام ومتغيّرٍ - بلغت جمهوراً واسعاً. باعتباري قلقاً بشأن الوضع هناك، فإنّ مثل هذه القصص هي التي تجعلني منتبهاً، ومتابعاً للتطوراتِ.
في مقال بعنوان "تقسيم إسرائيل إلى مقديشو لغزة" على موقع "فاشتي ميديا"، وهو موقع يساري يهودي بريطاني، يتتبع ماثيو بيك جوردون، الخبير في شؤون القرن الإفريقي، الطريقة التي أصبحت بها "مقديشو" مفهوما مجردا يشير إلى الموت والمجاعة - لم تعد مدينة فعليّةً أو حالة دراسة حقيقية، يمكن الرجوع إليها عند المقارنة- صفةً يوصف بها التدمير الذي يشهده القطاع الفلسطيني. يكتب: "أنت تعلم أن وضعاً جيوسياسيّاً ما قد خرج عن نطاق السيطرة حينما يبدأ الناس في استدعاء الصومال". ولمعرفةِ سبب راهنيّة مقديشو هاهنا، يقول جوردون إنّ الوضع الإنساني في غزّة وصل إلى مستوياتٍ مقلقةٍ، والمراقبين "يرتكزون على الصور البالية للصومال على أنها "دولة فاشلة" على "نحوٍ دائمٍ" لتوصيل الرسالة.
يعترف جوردون بأنّه، وإن كانت المقارنة ربما داعيّة إلى، وحتى مفيدة في تطوير استجابة سياسيّةٍ، "فهي تُديم" استعاراتٍ إستشراقيّة تقدم بعض الشعوب والبلدان على أنها مجرد "توافه" على نحوٍ أصيلٍ. ولكن مع وضع المخاوف بشأن إساءةٍ محتملةٍ جانباً، يجادل جوردون أنّ غزة أسوأ من مقديشو على عدّة أصعدةٍ، والمقارنة تحجبُ أكثر مما تضيء. لقد دخل الصومال، توضيحاً، في حرب أهلية مدفوعاً إليها، بسبب تنافس أمراء الحرب الصوماليين، في أعقاب انهيار الدولة، بينما تواجه غزة هجوماً خارجياً، تخشى محكمة العدل الدولية من أنّه يشكل إبادةً جماعيةً.
يعتمد جوردن على آليكس دي وال في إضاءة جوانب أخرى من الاختلاف. فيما يلي اقتباس كاملٌ ومطوّل، أعتقد أنّ قراءته مهمة لفهم ليس فقط سبب اختلاف الحالات، ولكن أيضاً حجم هذا الاختلاف:
في الحقيقة، كما بيّن المختص في العمل الإنساني والصراع والسلام، أليكس دي وال، إنّ "مجاعة غزة هي بالفعل الكارثة الأكثر شدّة في العقود الأخيرة"، وستنتهي هذه المجاعة، بسبب فشل إجراء تغييرات جذرية على الطريقة التي تحكم بها إسرائيل المنطقة، إلى وفيّات وأمراضٍ، تتضاءل أمامها حتى الأحداث الكارثية التي وقعت في الصومال عام 2011، "أسوء مجاعة في سجلات [لجنة مراجعة المجاعة]". وفي حين أدت الحلقات المتقطعة من الصراع العنيف إلى تعرض المشهد الحضري البارز في مقديشو لدمارٍ شديد، على مدار عقودٍ، شهدت غزة تضرر أو تدمير 63% من المساكن و84% من المرافق الصحية في جميع أنحائها، في غضون أشهر معدودةٍ. إن سرعة وشدة هذا الحرمان، والإبادة، هما ما دفع دي وال إلى تصنيف أفعال إسرائيل على أنها "حملة لتدمير كل ضروريٍّ لاستمرار الحياة".
من نواحٍ عديدة، تعد مقارنة مقديشو بغزة محاولة لتبرئة إسرائيل من خلق هذه الكارثة الإنسانية، باعتبارها قوة احتلالٍ تنفذ حملة مميتة. يوجد فرق نوعيّ بين دولة تمحي من الوجود جارتها، وبين فصائل داخل دولةٍ تتقاتل لضمان حصول ناخبيها على السلطة. يفسر جوردون وجهة نظره بوضوح صاخبٍ: "إن ما نراه يحدث الآن في غزة... ورغم أنه على نحوٍ مماثل حصيلة اختلالات سياسيّة عالقةٍ، فهو ليس انفجاراً ذاتيّاً ناجماً من تناقضات بينيّةٍ، بل هو طاقة مدمرة فرضت عليها من الخارج عن قصدٍ".
هنالك مقالة، تنظر في خطر المجاعة في غزة، أُعدّت لـ Vox تعقد مقارنة بناءة أكثرَ مع الصومال. ليست المجاعة ببساطةٍ انتشار الجوع بين مجموعة سكانية معينةٍ؛ إنّها تصنيف فني صادر عن هيئة مدعومة من الأمم المتحدة، تسمى التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي. وفقاً لموقعها، تعتبر مجاعةٌ عندما "يواجه ما لا يقل عن 20% من الأسر في منطقة ما نقصاً شديداً في الغذاء، ويعاني ما لا يقل عن 30% من الأطفال من سوء تغذيةٍ حادٍّ، ويموت شخصان من كل 10,000 شخص يوميّاً بسبب المجاعة، بشكلٍ مباشرٍ أو نتيجة تفاعلٍ بين سوء التغذية والمرض". وقد أعلن حتّى الآن عن مجاعتين فقط، منذ أن بدأت المنظمة عملها، في عام 2004: في الصومال (2011) وجنوب السودان (2017).
توظّف مجاعة 2011 في الصومال، هاهنا، لتساعد في إضاءة الوضع في غزة، حيث يأخذ المؤلفون في الاعتبار الاختلافات في أسباب انعدام الأمن الغذائي. كتبت إلين إيوانيس ونيكول ناريا: "هذه أزمة تكشفت بسرعة غير مألوفةٍ على الإطلاق في هذا القرن". وأضافتا: "ولكن على عكس الصومال، فإن المجاعة التي تلوّح في الأفق في غزة ليس لها أسباب طبيعية". وبذلك الاعتبار، فإن المجاعة التي تلوح في الأفق في غزة "يمكن الحيلولة دون وقوعها". ويتّفق تماماً منسق السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوسيب بوريل، مع الإجماع المتّهم لإسرائيل، والقائل بأنّ المجاعة تستخدمها"كسلاح حربٍ".
ظهر اتجاه مماثلٌ في هايتي، حاول خورخي هاين، سفير ووزير تشيلي السابق، لفت الانتباه للأوضاع في هايتي، وذلك في مقالِ رأي كتبه لموقع (بروجكت سينديكيت) حيث قدّم صورة قاتمةً للوضع في الجزيرة الكاريبية. وينهي مقالته تلك بتحذيرٍ: "هل نريد حقاً صومالَ في منطقة البحر الكاريبي؟". وفي منشور على موقع (إكس) يشارك فيه مقالته، كتب: "هل ستصبح هايتي صومال البحر الكاريبي؟ لم لا يحرّك أحدٌ ساكناً في الأمريكيتين لمنع سقوط أرض اليعاقبة السود في الهاوية؟".
يمكن الافتراض أن مقديشو قد سقطت فعلاً في تلك الهاوية، وبالنسبة له، ما تزال فيما يبدو قابعةً هناك. وقد شارك الصحفي في شبكة سي أن أن، فريد زكريا، ذلك المقال حول هايتي، وشارك كذلك نفس السؤال التحذيري. ربما لم يكن واعياً بأنّ شبح تكرار مقديشو كان، تحديداً السبب، وراء عدم تسليم الولايات المتحدة شحنة مساعداتٍ إلى هايتي، عام 1993.
ويتذكر هوارد فرينتش، الأستاذ في جامعة كولومبيا، والذي كان في هايتي عام 1993، الحدث في مقالٍ في مجلّة (فورين بوليسي): "كان السر وراء القرار في إعادة إرجاع السفينة هو هتافهم "الصومال، الصومال". كان استدعاء معركة مقديشو - المعروفة لدى الأميركيين باسم "حادثة سقوط طائرة بلاك هوك"، والتي وقعت قبل أسبوعٍ، وقُتل فيها 18 أمريكيّاً- أشدّ تأثيراً من تعويذة أي ساحرٍ".
دفعت المقارنات مع هايتي - وقد تكون راهنةً في بعض النواحي بالنظر إلى كيفية انهيار السلطة المركزية في بورت–أو–برنس؛ مما فسح المجال أمام مجموعات مسلحة ومنظمة، على نحوٍ ما، لتخوض حربًا مع الدولة -في النهاية إلى تشكيل منتدى على موقع Reddit بعنوانِ "المقارنة التي لا تكلّ للصومال بالدول الفاشلة – لمَ لا تتوقف؟"، يتبادل فيه الصوماليون الآراء حول هذه المسألة. ويعكس هذا "الثريد" مجموعة آراءٍ سمعتها تتداول في المجتمع الصومالي، كما يكشف عما يحسّه الصوماليون تجاه استخدام بلادهم معيارٍا لقياس فشل الدول.
لقد كانت العشائرية، وهي عدوة العديد من الصوماليين، السبب الأوّل وراء غياب الحكم المركزي في الصومال. وكتب أحد ناشطيReddit : "إنهم يقارنون بلادنا بهايتي؛ ببلدٍ ليس فيه جيش أو شرطة. إنّني ألوم القبائليين على ما يحدث". ومع ذلك، فإنّ ناشطاً آخر، على ذات الموقع، شكّك في هذا التصوّر، فحاجج بأن العشائر كانت السبب في عدم انزلاق الصومال لمستويات هذه الفوضى التي تشهدها بورت–أو–برنس، لكون العشائر أنشأت نظاماً لمساءلة الأشخاص الذين ينتهكون القوانين العرفية - القوانين غير الرسمية في الصومال.
وعلق معلق آخرُ- تحت اسم "2armored—" على ربط الصومال بالفوضى؛ فتقبّلَ تحميل الصومال مسؤولية القضايا التي تواجهها، فكتب بأنّها كانت "نموذجاً للدولة الكارثية لعدة عقودٍ". ولتوسيع النظر أكثر حول السؤال المتكررِ "ما الخطأ الذي حدث" في الصومال؟. نشر ناشط آخر على Reddit تحت اسم "SomaliAvenger2" ما يلي: "سبب فشل دولتنا هو محاولتنا استعادة الأراضي التي خسرناها أمام الاستعمار" - يشير هاهنا إلى محاولة الصومال الفاشلة ضم منطقة أوجادين الإيثيوبيّة، ذات السكّان الصوماليين عام 1977.
حاجج "KingRider25" الناشطين الآخرين في المنتدى بأن "هايتي أكثر خطورة [من الصومال]، ولكن من ناحية البنية التحتية المدعّمة بالخدمات المصرفية والصرف الصحي والكهرباء، فهايتي أكثر تطوراً من هذه الناحية الفنية حتى ولو ضربها زلزال". واستشهد "Shoddy_Vanilla643" بتوماس هوبز، في رده، مشيراً إلى عدم وجود منتصرٍ حاسم في الحرب الأهلية التي دامت 30 عاماً في الصومال، ومع استمرار التنافس بين العشائر والإيديولوجيات الدينية: "من يفوز يعرف أنه يتعين عليه تأسيس بنيّة للسلطة والحفاظ عليها. وهذا ليس هو الذي يحدث في هايتي". بينما كان التعليق الأكثر إيجازاً، ولكن أشدّ وقعا،ً من "MiddleGoose7330" الذي كتب ببساطةٍ: "الحقيقة مؤلمةٌ".
في ديسمبر 2022، أعرب الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود - ومحتملٌ أنه هو أيضاً منزعجٌ من الربط الدائم بين الصومال وفشل الدوّل- عن وجهة نظره الخاصة في صحيفة الغارديان، قائلاً: إن "الصومال ليس قصة واحدة عن العنف وفشل الدولة". واحتج الرئيس قائلاً: "إن وضعنا اليوم وضعٌ يبعث على الأمل في التغلب أخيراً على مآسي الماضي التي جعلت مجتمعنا بأكمله ضحيةً، وأعاقته". لا يحاول الرئيس التغاضي عن الحقائق، كما يشير هو نفسه، ولكن هذه السرديات، كما يقول: "لا تساعد في تنميتنا الوطنية، ولا تشكل، بشكلٍ حكيمٍ، أساساً، يمكن البناء عليه في تخصيص واستخدام تمويل المانحين الذي نحن في أمسّ الحاجة إليه".
عودا إلى الوظيفة الأخلاقية والسياسية التي تقوم بها المقارنة بين المآسي لأجل تقريب الفهم، يكتب محمود أن كل "مجتمع معقدٌ وفريد من نوعه"، ويوضّح أن التركيز كلياً على المشاكل في الصومال باعثٌ على اليأس. وعلى الرغم من أن جيسن على حقٍ بكلّ تأكيدٍ، بخصوص مدى فائدة المقارنة كأداةٍ تعليميّة، وكدعوةٍ للعمل لضمان أن "لا يحدث ذلك أبداً مرة أخرى"، فالمقارنة أكثر من مجرد شعار جذّابٍ. ولكنّ محمود يعارض إساءة استخدام هذه المقارنات، لكونها قد تكون مؤذيّة للدول التي تستخدم كمعيارٍ لقياس المأساة والفظاعة. نعلم أنّ جيسن، بالطبع، استخدم مثالاً تاريخيّاً، ولكن المقارنات بين مقديشو اليومَ والأماكن التي تشهد حالياً فظائعَ إنسانيّة، قد يقود الناس إلى الاعتقاد بأن مقديشو ما تزال "مثالاً لما بعد نهاية العالم الذي توصّفه أفلام ميل گيبسون: الماد ماكس"، على نحو ما عبّر الصحفي الأمريكي مارك بودين؛ أي "عالم تحكمه عصابات متجولة من البلطجية المسلحين".
ومآل هذه المقارنات بالنسبة لسكان مقديشو هي تهميش القصص الأخرى الأكثر إلهاماً، مما يعني أنّ المدينة نادراً ما يُنظر إليها كمكان ديناميكيّ تغيّرت وتتغيّر فيه الأشياء. ومن نتاج هذه المقارنات أيضاً هو دفعنا إلى التطبيع مع حلولٍ فظيعةٍ؛ كإسقاط المواد الغذائية من الجو إلى جانب القنابل، أو مطالبة إسرائيل في السماح بدخول المزيد من المساعدات - بدلاً عن وقف ما وصفته مقررة الأمم المتحدة الخاصة فرانشيسكا ألبانيز بأنه "مرحلة تصعيدية من الدمار الشامل لعملية استعمارية استيطانية طويلة الأمد". تلك وجهة نظر قديمة، تتبناها شرائح من النخبة بخصوص الوضع في غزة؛ وهي وجهة نظر تعاند الأصوات الفلسطينية والإسرائيلية وغيرها من الأصوات العالمية التي تحاول توظيف لغة مختلفة لوصف ما يرونه.
التحدي الأكبر والأكثر جدية بالنسبة لنا هو أن نكون أكثر جرأةً وأكثر رزانةً عند البحث عن الأمثلة، إن رغبنا في استخدامها. اختار جيسن مقارنة غزة بالگيتو، والذي أصبح الآن غنيمةً للمشاة. يتكدّس الفلسطينيون في قطاع غزّة في "مجمع مكتظ بالسكان ومُعدَمٍ ومحاط بالأسوار، حيث لا يحق إلا لجزءٍ صغير من السكان المغادرة فقط لفترة قصيرةٍ من الوقت". ذات يوم وصف ديفيد كاميرون بنفسه غزة بأنها "سجن مفتوح".
لم يقفز جيسن فوراً إلى المقارنة مع الگيتو النازي، لكنه تتبع تلك الرحلة. لا تشبه غزّة "الحي اليهودي في البندقية أو الحي اليهودي في مدينة أمريكيّة، بل تشبه الگيتو اليهودي في إحدى دول أوروبا الشرقية التي احتلتها ألمانيا النازية". هذا المثال مهم، لأنه يزودنا بمفرداتٍ ومنظورٍ مختلفٍ، سيساعدنا في وصف وفهم ما يحدث في غزة الآن. "عملية تصفيةٍ يشهدها الگيتو حالياً"، يكتب جيسن بإيجازٍ. فقد قُتل أكثر من 40 ألف شخص، من بينهم 15,000 طفل - مما يقرب على 2000 طفلٍ شهرياً منذ أكتوبر- وفقاً لهيئة حقوقية مستقلة بارزةٍ. وأصيب ما لا يقل عن 77,000 شخص، كما هُجّر جميع سكان غزة تقريباً. وتوقع فريق من الباحثين في جامعة جونز هوبكنز وكلية لندن للصحة والطب الاستوائي، في أواخر فبراير/شباط، أنه حتى إذا تُوصّل إلى اتفاق على وقف إطلاق النار، فقد يموت ما بين 6550 إلى 11580 شخصاً إضافياً بحلول 6 أغسطس/أب المقبل.
إن مآلات الطريقة التي نفذ بها الجيش الإسرائيلي حملته في غزة - لنتذكر بأن وزير الدفاع يواف غالانت قال بأنّه رفع "جميع القيود" المفروضة على الجيش الإسرائيلي- دفعت الباحث في شؤون الإبادة الجماعية إليز سيمردجيان إلى القول بأننا دخلنا مرحلةً جديدة من الحرب العالميّة "بدون مدنيين". ويحدث كل هذا بدعمٍ متحمّس من القوة الأعظم في العالم: الولايات المتحدة.
هل ما تزال الآن مقديشو تحضر في ذهنك عندما تفكر في غزة؟ ربما لا، ولهذا السبب فإنّ توظيفها لشرح محنة الفلسطينيين اليوم، يخلق للصوماليين دون داعٍ وصمة عارٍ، ويلحق أيضاً ضرراً كبيراً بالفلسطينيين.