تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الأحد 6 أكتوبر 2024

كتب

أوروماي: شفق الأحلام السياسية

2 أكتوبر, 2024
الصورة
Oromay
Share

تُعدّ رواية "أوروماى" للكاتب بيالو گيرما رواية قوية ومؤثرة، تعكس الاضطرابات العميقة التي عاشتها إثيوبيا خلال حملة النجمة الحمراء (الإرهاب الأحمر) في ثمانينات القرن العشرين؛ وحملة النجمة الحمراء هي مبادرة عسكرية وبروباغانديّة كبيرة لنظام الدريغ، سعت إلى قمع التمرد الإريتري الذي كانت تقوده جبهة تحرير الشعب الإريتري.

 صُممت الحملة على فكرةٍ طورها الجنرال الفرنسي أندريه بوفر، الذي كان رائداً لأطروحة "الاستراتيجية الشاملة": وهي الاستخدام الاستراتيجي للقوة لتحقيق غاياتٍ نفسية وعسكرية، مما يمهد الطريق في النهايةِ لتحقيق أهداف سياسية. كتب عنه المؤرخ الإثيوبي جبرو تاريكي: "غدت الجزائر مختبره الاجتماعي"، ثمّ وصف لاحقاً الحملة بأنها "كارثة عسكرية" وحشية. جاءت الحملة بإضعاف موقف إثيوبيا في الشمال، وكلّفت أكثر من ملياري دولارٍ، وفقاً لتقديرات وكالة المخابرات المركزية الأميركية، ونجم عنها خسائر فادحة في الأرواح. هذه، إذن، هي الخلفية التي تدور فيها الرواية، وتتعارك معها.

تسبح الرواية، عبر تجارب شخصيّتها الرئيسة تسيگاي هايلماريام، في ثيمات الحب والولاء والخيانة والحرب والخيبة التي تلت تساقط المُثُل، في عصر غسقِ نوعٍ من الاشتراكية الإثيوبية، ويتكشف سرد گيرما على خلفية من الصراع الشخصي والسياسي، جاذباً القراء إلى قصة تعكس الكفاحات الداخلية والخارجية لأمّة في حالة حرب مع نفسها.

السرد المزدوج: الحب والحرب

تتمحور رواية أوروماى في بنيتها حول قصتين متشابكتين: قصّة تتناول الوقائع السياسية لحملة النجمة الحمراء، وقصّةٌ تتبع الرحلة العاطفية لتسيگاي؛ وخاصة علاقته بخطيبته رومان هيليتيوريك وحبيبته فياميتا گيلاي. تسمح هذه الثنائية لگيرما بفحص كيف يفسَد المناخ السياسي في إثيوبيا أوائل الثمانينات ويتسلل إلى كل جوانب الحياة؛ من العلاقات الشخصية إلى الوحدة الوطنية.

إن الدور السياسي لتسيگاي باعتباره داعيّة لنظام الديرگ يضعه في قلب حملة النجمة الحمراء الساعيّة إلى هزيمة جبهة تحرير الشعب الإريتري، وتأمين مكانة إريتريا داخل إثيوبيا. تعرضه واجباته لفظائعِ الحرب، ولكنّها في المقابل تعرّي أمامه المُثل الثورية التي آمن بها ذات يوم. فالتصوير المفصّل الذي تقدمه الرواية لمعركة التل 1702، وتلك لحظة محورية في الحملة، مثّل نقطة تحول عند تسيگاي: ها هي المُثل التي تمحورت حولها حياته تتمزّق، وهو يشاهد الواقع الفظيع للحرب، ويدرك عبثية التضحيات التي تُبذل، كأننا في الرحلة السياسيّة لتسيگاي أمام تكرار لروباشوف الذي نحته آرثر كوستلر في روايته "ظلام في الظهيرة"؛ أي رجل أسير النظام الذي ساهم في بنائه. 

يخوض تسيگاي أيضاً صراعاً عاطفياً، إلى جانب هذا الصراع السياسوي، بترك خطيبته رومان في أديس أبابا عندما يسافر إلى أسمرة لأجل عمله في الحملة، ورومان كأنّها قبسٌ من إثيوبيا التقليدية في ماضي تسيگاي، وهي امرأة ثابتة في قيمها، وتعارض الحملات المستمرة التي تعصف بالبلاد. يعكس رفضها للحرب المستمرة التي يشنها نظام الديرگ القلق المتنامي الذي يختلج صدر تسيگاي حيال الثورة التي ينشط فيها. وتمثّل قيم رومان التقليدية وارتباطها بتراث إثيوبيا الأسس الثقافية والأخلاقية للبلاد، تلك الأسس التي يخونها تسيگاي شيئاً فشيئاً، وهو يتورّط باندفاعٍ في الحملة وفي صراعاته الشخصية.

على النقيض من رومان، تمثل فياميتا گيلاي -الوردة الشمالية؛ الفتاة الإريترية التي وقع في حبها أثناء تواجده في أسمرة- جانباً أكثر تعقيداً وفوضوية في رحلة تسيگاي. فياميتا حسّية وغامضة، تنزع إلى ما هو مأساويّ في النهاية. تعبّرُ علاقتهما عن الاضطراب العاطفي لتسيگاي، وتعكس التوترات السياسية بين إثيوبيا وإريتريا. تجسد فياميتا الأمل الهش في السلام والوحدة، بيد أنّ علاقتها بتسيگاي تتسم بالخيانة والقلق، تمامًا مثل علاقة الديرگ بإريتريا.

توازي تضحية فياميتا في النهاية -ضحت بحياتها لإنقاذ تسيگاي- التضحيات العبثية التي قدمت في ساحة المعركة. جاء موتها، مثل موت عدد لا يحصى من الجنود، تمظهراً لعبثية الحرب، وخيبة الأمل التي تلت انهيار المُثل. يعكس حب تسيگاي لها، الممسوس بالشك والندم، فقدانه الإيمان في النهاية بالقضية الثورية.

خيبة أمل وانهيار مُثُل

إن خيبة الأمل هي الثيمة الرئيسة في رواية أوروماى، سواء على المستوى الشخصي أو السياسي. يبدأ تسيگاي الرواية خادما مخلصا لنظام الديرغ، مؤمن بشدّة بمبادئه الثورية التي تعِد بالوحدة والتقدم في إثيوبيا، بيد أنّ تجاربه، مع تطور السرد، تضغط عليه في أسمرة وفي ساحة المعركة للتشكيك في هذه المُثل. فقد تحولت حملة النجمة الحمراء، التي هدفت إلى إنهاء الحركة الانفصالية، والحفاظ على وحدة أراضي إثيوبيا، إلى رمزٍ للفشل الأخلاقي والاستراتيجي للنظام. 

تتجسد هذه الخيبة على نحوٍ أوضح في المعركة الحاسمة لتلة 1702، حيث يتلبّس تسيگاي في البداية حماس شديد للحملة، فهو متلهفٌ لأن يشهد نجاح العملية العسكرية، بيد أنّ الواقع المريع للحرب سرعان ما يحطم مثاليته. فالصور الأدبيّة الموظّفة لسرد الواقعة -مشاهد لأنهار من الدم، وصراخ الجنود المحتضرين، والانسحاب الفوضوي- تبرز العبثية الفظيعة للقضية. حالما أدرك تسيگاي أنّ الجنود ضحوا بحياتهم لأجل لا شيء، وأن موتهم في نهاية المطاف كان عبثاً، تهاوت كلّ المُثُل الثوريّة التي نافح عنها، وانهارت مبرراته أمام تيقّظ ضميره؛ مثله في ذلك مثل راسكولينكوف، في "الجريمة والعقاب" لدوستويفسكي، وما بقيّ بعد ذلك إلاّ صحراء جليدية لواقع مفرّغ من أي غاية.

سيؤكد تحليل الصور في رواية أوروماى على هذه المحاججة، وخاصة إذا نُظر للقوّة الرمزية للنجمة الحمراء، التي كانت بمثابة رمزٍ للقضية الثورية، قبل أن تغدو عبئاً على تسيگاي. ففي واحدة من اللحظات الأخيرة، والأكثر إيلاماً في الرواية، ينزع النجمة الحمراء عن صدره، ويضعها على جسد فياميتا الميت. يرمز هذا الفعل إلى رفضه أخيراً للثورة، واعترافه بالتضحيات الشخصية والسياسية التي أوصلته إلى هذه المرحلة من اليأس.

أوروماى: اسم لن يُنسى أبداً

تعني كلمة أوروماى في اللغة التيغرانيّة "حَدث"، أو "قضي الأمر"، أو "انتهى كلّ شيء"، إنها تضمّن نهاية حدث ما، وتستحضر شعوراً بالختام أو بنهاية لا مفر منها. وفي الثقافة الإريترية، تُستخدم الكلمة كثيراً للإشارة إلى انتهاء اللحظات المهمة، سواء كانت شخصية أو سياسية، وغالبًا ما تحمل ثقلًا عاطفياً، مرتبطاً بالخسارة أو الاستقالة أو تقبّل قدرٍ لا يمكن تغييره. وفي الرواية، يعتبر مصطلح أوروماى رمزياً للغاية، ويظهر عبر السرد في سياقات مختلفة، مما يضاعف دلالات القصة. يستخدم الإريتريون الكلمة بانتظام، كما تشير الرواية مذكّرةً أن شعب أسمرة يقول أوروماى "عشر مرات على الأقل في اليوم". ويكشف هذا رسوخ الكلمة في لغة النّاس وحيواتهم اليومية، مما يعكس حتمية العديد من جوانب واقعهم الممزق بالحرب.

تشير كلمة أروماى في الرواية أيضاً إلى مهمة تمرد سريةٍ، تصبح حاسمة بالنسبة للحبكة، حيث يحبط المتمردون الإريتريون الجهود التي بذلها الجيش الإثيوبي خلال حملة النجمة الحمراء، عندما هاجموها وخربوا بنيتها التحتية الاقتصادية. وستنمو الحمولة الرمزية للمهمة مع تطور السرد، حيث لا يمثل مصطلح أوروماى فقط النضال اليائس للمتمردين، ولكن أيضاً الخسائر السياسية والعاطفية الأوسع التي تكبّدتها الشخصيات.

يتردد كذلك صدى الاسم عبر الحيوات الشخصية للشخصيات، فبالنسبة لتسيگاي، بطل الرواية، تصبح أوروماى متعالقةً مع رحلته العاطفية؛ وعلى نحو مخصوص عند إدارته لعلاقاته المعقدة مع رومان وفياميتا. وتتخذ أوروماى، بينما هو يتصارع مع خيبته من النظام الإثيوبي والحرب، بُعداً شخصياً، يرمز إلى النهاية الحتمية لاعتقاداته الرومانسية والإيديولوجية. يتلبّس حبه لفياميتا، تماماً كمهمة المتمردين، قبسٌ خفي من الحتمية والخسارة الوشيكة.

وعليه، فإنّ أوروماى تشتغل على مستويات متعددة على طول الرواية؛ فهي لا تشير حصراً إلى نهاية حملة عسكرية أو فشل المثل السياسية، لكن تشير أيضاً إلى نهاية الأحلام والعلاقات الشخصية. وأوروماى في كلّ تمظهراتها تطارد السرد، وتأتي مثل تذكيرٍ دائم بأنّ بعض الأشياء محكوم عليها بالنهاية، مهما بذلنا في سبيل الحيلولة دون ذلك.

الساردُ المتذبذب بين الحضور والغياب

يوظّف گيراما في الرواية تقنيّة سردية فريدة: راوي يظهر ويختفي بشكل متقطع على امتداد القصة، ويقدم تعليقات وتبصّرات أشمل من منظور الشخصية الرئيسة. يقدّم هذا الراوي، الكلي المعرفة والواعِ بذاته، نفسه في المقدمة شخصا يعرف تسيگاي "أكثرَ مما يعرف نفسه"، لكنه لا يكشف أبداً عن هويته. يبدو ظهوره المتقطع مطابقا لتقنيات السرد ما بعد الحداثي التي تذيب الحدود بين المؤلف والشخصية، مما يسمح للمؤلف أن يلعب دوريْ المراقب والمشارك في القصة.

يشير وجود الراوي إلى مستوى أعلى من التحكم في السرد، سيدعو القارئ إلى النّظر في دور القَصّ وديناميكيات القوة بين الراوي والشخصيات والقرّاء، ومن خلال جعل الراوي يختفي ويظهر، يذكر گيرما القراء بتأليفيّة النّص، متحدياً الحدود التقليدية بين الخيال والواقع.

تسيگاي كشخصيةٍ تراجيديّة

تسيگاي هايلماريام هو البطل التراجيديّ لرواية أوروماى؛ وهذا البطل رجل ممزق بين ولائه للدولة، ورغباته الشخصية، ووعيه المتنامي بالتناقضات الأخلاقية للنظام الذي يخدمه، ويحدثُ كلّ ذلك بينما يحلم بأكثر شيءٍ قيّم عنده. ولكنه لم يحصل عليه قط في حياته: السلام. يصور گيرما تسيگاي كشخصية ذكية ومنطوية سيتعمق صراعها الداخلي مع تطور السرد.

إنّنا نشهد كفاح تسيگاي، في علاقته مع رومان، للتوفيق بين قيمه الشخصية ومتطلبات دوره السياسي. تتناقض تقليدية رومان ووضوحها الأخلاقي على نحوٍ صارخ مع العالم الجديد والمتداعي باستمرارٍ في الفوضويّة الذي يسكنه تسيگاي. ويرمز رفضها له في النهاية إلى بتر علاقته نهائياً مع القيم الإثيوبية التقليدية التي كانت قيّمة عنده ذات يوم.

تمثّل فياميتا، من ناحية أخرى، المغريّ والخطيرَ الذي ينطوي عليه الجديد، وتمثّل الأمل في حياة أفضل. إن حبها لتسيگاي متّقد، ولكنه محفوف بالشكوك والخيانة، تماماً كالوضع السياسي في إريتريا. وجاءت وفاة فياميتا المأساوية، وكانت نتيجة تورطها في الصراع، كاستعارة مفجعة للانهيار الداخلي لتسيگاي. وعلى نحوٍ يشبه إثيوبيا، اجتُث تسيگاي من تقاليده ولكنه فشل في العثور على مسكنٍ في الأفكار الجديدة التي تجتاح الأمة؛ يكتب گيرما: "سيكون الواحدُ في نهايته وحيدًا؛ يشعرُ بالوحدة، بل غارقاً فيها، ويعوي قلبُه برثاءٍ حزينٍ".

وبحلول نهاية الرواية، نرى رجلًا فقد كل شيء: مُثُله، وعلاقاته، وإحساسه بذاته، لقد تُرك تسيگاي واقفاً وحيداً، محاصراً بين ذكرياتِ رومان وفياميتا، ولا شيء غير أصداء الحرب والخسارة لتؤنسه. لقد أصبح تسيگاي على نحوٍ ما تجسيداً للرجل الإثيوبي وهو يطوي عصرَ ما بعد الحداثة.

الصورة والرمزية: أداة للتعمّق

في حين أن الثيمات السياسية والعاطفية في الرواية هي المحرّكُ للسرد، يوظّف گيرما الصورة الأدبيّة ليضيف عمقاً وتعقيداً على القصة. يشدّد تكرار صورِ، على سبيل المثال، النجمة الحمراء ومشاهد المعركة وحتى التفاصيل الصغيرة، مثل خاتم خطوبة رومان على التضحيات الشخصية والسياسية المقدمة على طول الرواية.

إحدى أقوى الصور في الرواية هو غروب الشمس في النهاية: بينما يقف تسيگاي عند قبر فياميتا، يُوصف الأفق بأنه "أحمر"، في إشارةٍ إلى دموية الصراع، ونهاية رحلته الشخصية والإيديولوجية. افتتحت القصّة بصباح ضبابي وغامض، وعلى النقيض، عكس غروب الشمس عبث آمال تسيگاي، وانتهاء خيبته، لتقف الحقيقة أمامه عاريةً. "وداعا، فياميتا"؛ همس تسيگاي، ولكنّه ما كان يودّع حبيبته وحدها، بل كلّ ما كان يؤمن به ذات يوم.

إنّ رواية أوروماى أكثر من رواية سياسية؛ إنها رحلةٌ شخصية عميقة لكشف كُلفة الحرب وهشاشة المُثل الإنسانية. يفحص بيالو گيرما، من خلال رحلة تسيگاي، كيف تستطيع الفظائع الواقعيّة تحطيم الأيديولوجيات السياسية الكبرى. يسمح السرد المزدوج للرواية -سرد الحب والحرب- لگيرما باستكشاف تعالقِ السياسي والشخصي المتين؛ وكيف يمكن أن يؤدي كلاهما إلى الخيبة.

مع التطور الثامرِ لشخصياتها، وتعقيد ثيماتها، وتصوريّتها المؤثرة، تأتي أوروماى واحدة من أهم الأعمال الأدبية في إثيوبيا. إنها رواية لا تخاطب حصراً اللّحظة التاريخية المحددة لحملة النجمة الحمراء؛ ولكن أيضاً التجربة ذات الطابع الإنساني الكوني للخسارة والخيانة والبحث عن المعنى في عالم يفتقده.