تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الجمعة 20 سبتمبر 2024

فكر

ذكرياتي في الخلوة: التعليم القرآني التقليدي في إريتريا

26 يونيو, 2024
الصورة
khalwa
Share

بدأت خطواتي الأولى في التعليم في مدرسة قرآنية، أو الخلوة في أواخر الخمسينيات، مثل معظم الإريتريين الذين ولدوا في أسر مسلمة. كان ذلك قبل ما يعرف بحرب جورج بوش الابن على الإرهاب، أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، والتي اعتبرت هذه الأماكن مراكز لتدريب الإرهابيين. كان ذلك أيضًا، قبل ظهور الجماعات الإسلامية المستوحاة من السعودية التي تسمي نفسها السلفية.

 درست الخلوة في مدينة أغردات، غرب إريتريا، تحت إشراف المرحوم الشيخ محمد عبد الله إدريس، وبتمويل من المرحوم الخليفة عبد الرقيب محمد صادق. تقع الخلوة داخل أكبر جزء من مجمع عبد الرقيب، بين مرآب للحافلات والسيارات القديمة، ولم يكن لدينا أدنى فكرة عن سبب عدم تشغيلها، لكنها أصبحت ملعبنا.

كان هذا مثالاً على كيفية مساهمة الأفراد الأثرياء في التعليم. في تلك الخلوة، كانت تلك خطواتي الأولى في الكتابة بالحروف العربية، ودرست القرآن الكريم، وهو ما وجدته مجزيًا عندما التحقت بمدرسة رسمية. ومع ذلك، كانت معرفتنا بمعاني الآيات القرآنية محدودة، فبالكاد كنا نفهم ما تعنيه الآيات، وهو تحدٍ يواجهه العديد من المسلمين الذين لا يتحدثون اللغة العربية، وفي بعض الحالات، حتى المتحدثين بالعربية.

تعمل الخلوة في جلستين: واحدة في الصباح، وأخرى في فترة ما بعد الظهر. في الصباح الباكر، كنا نجتمع حول سيدنا عبد الله، في شكل مجموعات متعددة، تدرس سورا مختلفة من القرآن في آن واحد. كان لدى سيدنا عبد الله ذاكرة استثنائية؛ كان بإمكانه إملاء الآيات من سور مختلفة، بسرعة ملحوظة، متنقلًا من مجموعة إلى أخرى، ما لا أزال أجده مذهلاً؛ كيف تمكن من الانتقال من سورة إلى أخرى في ثوانٍ. 

كنا نكتب دروسنا على ألواح خشبية تُعرف باللوح، باستخدام حبر مصنوع من الدواة (خليط من الكربون والصمغ)، وأقلامنا مصنوعة من قصبات الذرة الرقيقة. كانت الألواح الخشبية تُنظف وتُبيض بالجير. بهذه الطريقة، تعلمنا صناعة أقلامنا وأورقنا بأنفسنا. استخدام مثل هذه الألواح منتشر في جميع أنحاء إفريقيا. في كتابه" القرآن المسير"، يعكس رودولف وير (Rudolph Ware) رمزية استخدام الألواح والأقلام عبر إفريقيا: "قلم المدرسة القرآنية يمثل قلم القوة. الألواح الخشبية تُشبه الألواح التي تلقاها موسى (عليه السلام) التي حملها إلى بني إسرائيل."

في المساء، كنا نتلو المقاطع التي كتبناها، في وقت سابق من اليوم، أمام سيدنا. لم يكن إلزاميًا أن نحفظها عن ظهر قلب، لكنه كان مشجعًا. القدرة على حفظ أجزاء كبيرة من القرآن إنجاز محترم في المجتمع المسلم، ويُعطي الفرد الذي يحفظه كله لقب حافظ. بعد التلاوة، كنا نغسل الألواح الخشبية باستخدام المقابض المثبتة في الأمام والخلف، ونعدها لدروس اليوم التالي. خلال بقية اليوم، كان الطلاب الأكبر سناً يدرسون الأصغر منهم في الدراسات القرآنية. 

كانت هذه الخلوات تحضرها الفتيان والفتيات معًا، على عكس المدارس الحكومية في تلك الفترة، التي لم تكن مختلطة. لطلب الإذن للمغادرة للحاجات الضرورية، كان يقف الشخص أمام الشيخ، ويشير بإصبع أو إصبعين: إصبع للذهاب إلى المرحاض، وإصبعين لشرب الماء. بهذه الطريقة، تعلمنا شكلًا من أشكال لغة الإشارة.

ليست هناك حفلات تخرج أو نظام للانتقال من فصل إلى آخر أو من مرحلة إلى أخرى في الخلوة، كما هو الحال في المدارس النظامية. لكن في الخلوة يوجد ما يعرف بالشرافة، وهو احتفال بإكمال الطالب لجزء معين من القرآن الكريم. على سبيل المثال، الشرافة الأولى تُسمى "شرافة عم"، وتكون عند وصول الطالب أو الطالبة إلى سورة النبأ. وعند الشرافة يتم زخرفة لوح الطالب برسم قبة ومنارة مسجد وتلوينها بألوان زاهية، ويكتب عليها بخط جميل الآيات الأولى من السورة التي وصلها، وهكذا كانت تعلمنا الخلوة فن الرسم. أظهر بعض الطلاب مواهب استثنائية في هذا الرسم، ما يشير ربما إلى ميول مبكرة. كان أكبر فرح لنا هو الاحتفال بالشرافة.

تقوم أسرة المحتفى به بإعداد فطيرة دائرية كبيرة، تعرف محليًا بالغراسة أو الكتشيت، وشاي لطلبة الخلوة، إذا كان الطالب ينتمي إلى أسرة غنية نسبيًا، كانت التوقعات عالية، خاصة إذا كانت الغراسة مصنوعة من دقيق القمح الأبيض (الفينو)، وربما مصحوبة بمزيد من الشاي. معظمنا جاء من خلفيات متواضعة، وكان يتطلع بشدة إلى مثل هذه المناسبات، خاصة عندما كانت الأطعمة مصنوعة من الدقيق الأبيض، وهو من المأكولات الشهية بالنسبة لنا في ذلك الوقت. بالرغم من أننا لم نكن نعرف الخبز الأسمر، كل الخبز الذي كنا نأكله كان من الذرة السمراء. الأكل معًا في مجموعة كبيرة يضيف إثارة مقارنة بالأكل في المنزل. عندما يحين وقت الأكل، كنا نحضر أكواب الشاي الصغيرة من منازلنا، وكان هذا ما كنا نتطلع إليه. وكنا نتشاركها بالتساوي، متعلمين قيمة المشاركة. كل شخص كان يحصل على جزء من الغراسة، وكوب من الشاي.

في نهاية اليوم الدراسي، كنا نتوق إلى الإشارة للمغادرة، نتسابق لمعرفة من سيكون الأول للخروج من حوش الخلوة. كان لدى سيدنا أو الشيخ سوط جلدي، كان يستخدمه لمعاقبة الطلاب، لكنه كان يفعل ذلك بروح الدعابة. هذا النهج جعل العقوبات، حتى عندما تكون قوية، أكثر تحملًا.

دخل الإسلام والمسيحية إلى هذه المنطقة في مرحلة مبكرة جدًا؛ المسيحية حوالي منتصف القرن الرابع، والإسلام حوالي القرن السابع، عندما وصل أولى اللاجئين المسلمين إلى هذه المنطقة هربًا من الاضطهاد في مكة. الكنيسة الأرثوذكسية في المنطقة هي واحدة من أقدم الكنائس في العالم. يوجد بميناء مصوع في إريتريا، أقدم مسجد خارج الجزيرة العربية، حيث كان اتجاه الصلاة؛ القبلة، موجها نحو القدس، وليست مكة. دخل الإسلام هذه المنطقة قبل دخوله إلى المدينة المنورة. حدث ذلك قبل وقت طويل، قبل إعادة تصدير المسيحية من أوروبا في أشكال مختلفة إلى الشرق الأوسط وأفريقيا بشكل أوسع. شكل المسلمون فيما هو الآن إريتريا ثلثي السكان في عام 1910، حسب تقديرات، القسم التاريخي لوزارة الخارجية البريطانية. ووفقًا لتعداد الإيطاليين في عام 1905 حوالي60٪ ، استنادًا إلى التقديرات حيث كان من الصعب تقييم السكان الرحل، الذين كانوا في الغالب مسلمين.

يعتبر المرحوم سماحة الشيخ إبراهيم المختار أحمد عمر، مفتي إريتريا الأول، مرجعا أساسًا عن الإسلام في إريتريا، وكان عالمًا وكاتبًا ألف العديد من الكتب والمقالات، وشخصا شجاعا لا يخاف لومة لائم عن قول الحق.  كتب جوناثان ميران على نطاق واسع عن تاريخ الإسلام في إريتريا، "تعكس المجتمعات المسلمة المتنوعة في إريتريا هذا التكوين التاريخي المتنوع: تنتمي إلى مجموعات عرقية مختلفة؛ تتحدث مجموعة متنوعة من اللغات السامية، الكوشية والنيلية الصحراوية؛ تمارس أساليب إنتاج مختلفة، ويتم تنظيمها اجتماعيًا وسياسيًا بطرق متنوعة. والأهم من ذلك، بالنسبة لأغراضنا، أن المجتمعات المسلمة في إريتريا تبنت الإسلام في فترات مختلفة، وبطرق مختلفة، وتبنت المعتقدات والممارسات الإسلامية بطرق وأنماط كثافة مختلفة."

وفقًا لميران، لعبت عدة عائلات متدينة أدوارًا محورية في نقل ونشر الدين الإسلامي والقانون والثقافة، في المناطق الممتدة بين البحر الأحمر ووادي النيل، خلال فترة "النهضة الإسلامية". كانت إحدى هذه العائلات عائلة عد شيخ، وهي عائلة متدينة في إريتريا. كانت الطريقة الختمية التي أسسها محمد عثمان الميرغني (ولد في مكة عام 1794-1852)، تشارك بشكل خاص في نشر الإسلام. بالإضافة إلى ذلك، لعب التجار ورجال الدين المرتبطين بعائلة النايب البلوية السياسية القوية، المفوضة من العثمانيين لحكم مصوع، دورًا هامًا في نشر الإسلام.

أنجز جوزيف فينوسا  أطروحة دكتوراه عن مساهمات الناشطين المفكريين المسلمين في تشكيل الهوية الوطنية الإريترية، واستكشف أهميتهم داخل الرابطة الإسلامية الإريترية، أكبر وأبرز منظمة قومية ظهرت خلال الأربعينيات والخمسينيات. يقول: "ظهرت رابطة المسلمين الإريترية كأول منظمة مؤيدة للاستقلال في البلاد، لتحدي دعوات الحكومة الإثيوبية للضم، والخطط الدولية لتقسيم إريتريا بين السودان وإثيوبيا. ساهمت الرابطة وأنصارها أيضًا في توسع المجتمع المدني في إريتريا، وصياغة الحجج الأولى الجوهرية حول ما جعل إريتريا كيانًا وطنيًا منفصلًا جوهريًا."

إريتريا دولة محفوفة بالسرية، فعدد السكان يعتبر مجهولًا. تذهب التقديرات الرسمية إلى أن تعدادهم حوالي 6 ملايين، على الرغم من أنه لم يكن هناك إحصاء رسمي منذ الاستقلال. ومع ذلك، يقدر الخبراء الذين يراقبون المنطقة أن عدد السكان الفعلي يتراوح بين 2.5 مليون و3 مليون. وفق النظام الإريتري، فإن عدد المسلمين يعادل عدد المسيحيين، والتشكيك في ذلك غير مسموح به.

الحكومة لا تحترم الحريات والقيم الدينية، تعترف رسميًا بالإسلام وثلاث طوائف مسيحية فقط. وقد تم احتجاز مئات السجناء، بما في ذلك المسلمين والمسيحيين، لأكثر من عقدين، البعض منهم منذ تأسيس الدولة، بسبب معتقداتهم، مع معرفة قلة فقط داخل النظام بمكان وجودهم. تأثر بشكل خاص بين المسيحيين شهود يهوه والإنجيليون، مع سجن عدة قساوسة، أساتذة جامعيين، والطبيب النفسي الوحيد في البلاد لسنوات عديدة، ومصيرهم غير معروف.

قضية المسيحيين المضطهدين بسبب معتقداتهم معروفة عالميًا، حيث هناك العديد من المنظمات المدافعة عن المسيحيين. بالكاد يحصل المسلمون المضطهدون على اهتمام، إلا في تقارير حقوق الإنسان العامة. في 5 ديسمبر/ كانون الأول 1994، تم اعتقال مئات من المعلمين المسلمين الشباب في مناطق مختلفة، عندما قطعت إريتريا العلاقات الدبلوماسية مع السودان. ثم اتهمت الحكومة الإريترية السودان بتسليح ودعم جماعات المعارضة الإسلامية الإريترية للعمل من السودان. وقد أفاد حارس سجن انشق عن النظام، في عام 2013، أن هؤلاء المحتجزين تم إعدامهم خارج نطاق القانون، في يونيو/ حزيران 1997.

في عام 1999، زرتُ قرية منصورة، حوالي 30 كم شمال أغردات، لأغراض بحثية. صدمت عندما وجدت بارًا بجوار خلوة؛ مكان التعليم الديني. لقد اقتحم البار الخلوة، وليس العكس، في مجتمع يغلب عليه المسلمون. كان الأطفال على بعد أمتار قليلة من البار، يشهدون شرب الخمر والسلوك غير اللائق، حتى مدير المدينة، الذي يحمل اسمًا مسلمًا، والجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة التي يمثلها، لم يبدو أي احترام لمثل هذه المؤسسات الدينية.

بحلول نهاية عام 2017، تحدى الناشط الإريتري المخضرم، الشيخ موسى محمد نور (92 عامًا)، تدخل النظام في مدرسة إسلامية في أسمرة. بعد ذلك، وقعت أول مظاهرة مدنية عامة منذ الاستقلال في المدينة. توفي الشيخ موسى في السجن، بعد ثلاثة أشهر، وتم اعتقال جميع الشباب الذين حضروا جنازته لسنوات.

بمرور الوقت، تتغير ديناميات السكان، ما يجعل الأرقام الدقيقة أقل أهمية. في إريتريا، تظهر المجتمعات مثل البلين انسجامًا دينيًا، حيث يتعايش المسيحيون والمسلمون في كثير من الأحيان داخل نفس الأسرة، مما يعكس التسامح الديني. على الرغم من مستويات المعرفة الدينية المختلفة، تبقى المجتمعات متجذرة بعمق في إيمانها. رغم تغير المشهد، تستمر الخلوات في الوجود، أكثر شيوعًا في المناطق الريفية منها في المناطق الحضرية. في بعض الدول الأوروبية، تُدرس الدروس القرآنية الآن عبر منصات مثل سكايب أو زوم.. سأظل دائمًا ممتنًا لسيدنا عبد الله لتعليم الأساسيات لي في القراءة والكتابة.

المزيد من الكاتب