الخميس 14 نوفمبر 2024
كثيرة هي التحولات التي عرفتها حياته، من أحد مؤسسي حركة الشباب عام 2006، وواحد من أخطر المطلوبين لدى الولايات المتحدة، إلى رئاسة حكومة جوبالاند منذ تأسيسها في 2013، ثم مصافحة جون كيري وزير الخارجية الأمريكي السابق خلال زيارته التاريخية إلى مقديشو في عام 2015. هو أحمد محمد إسلام، الشهير بأحمد مدوبي، رجل جوبالاند القوي، الذي نجا من الموت على يد أعدائه في 2007، واتخذهم أصدقاء وحلفاء ضد رفاق دربه في الجماعات الجهادية.
تنقسم الآراء حول شخصه، بين من يعده من القادة العسكريين القلائل الذين جلبوا السلام والاستقرار لمنطقته، في بلد مضطرب منذ تفكك حكومته المركزية عام 1991، ومن يصفه بـ"الأب الروحي" الذي يتصرف في جوبالاند مثل زعيم مافيا، يطيح بكل من يعارض سلطته المطلقة.
يقول برونو مايرفيلد عن شخصية مدوبي، إنّ "الشيخ مدوبي يتصرف مثل عراب المافيا أو أمير الحرب أكثر من كونه "رجل دولة حقيقي". وينقل عن شهادات محلية اتهامات لمدوبي، منها تزوير الانتخابات، وملاحقة المعارضين وأعضاء المجتمع المدني، وتسهيل تجارة حركة الشباب في الفحم عبر ميناء كسمايو، ما يحقق له الحصول على عائدات ضريبية كبيرة، والحفاظ على صلات مع رفاق الأمس. على صعيد آخر، نجح مدوبي في بسط الأمن في مدينة كسمايو، وتشجيع النشاط الاقتصادي في الميناء، وإنشاء العديد من المرافق والخدمات العامة بدعم من المانحين الدوليين ودولة الإمارات.
وُلد مدوبي نحو عام 1960 في أسرة محافظة، لوالد اشتهر بكونه رجل دين عارض حكم سياد بري العلماني. التحق بجماعة الاتحاد الإسلامي التي تشكلت منتصف الثمانينات، وأعلنت إمارتين إسلاميتين في بوصاصو شمال شرق البلاد، ولوق في الجنوب الغربي عقب سقوط نظام سياد بري عام 1991. بعد هزيمة إماراتي الاتحاد، الأولى على يد قوات العقيد عبد الله يوسف، والثانية بعد تدخل القوات الإثيوبية عام 1996، تفككت الجماعة، ساهم مدوبي مع صهره حسن التركي في تشكيل ميليشيا معسكر رأس كامبوني، في قرية ساحلية قريبة من الحدود مع كينيا، وتولى مسؤولية التدريب العسكري.
انتقل التركي ومدوبي اللذين عُرفا بعلاقاتهما القوية مع تنظيم القاعدة إلى العاصمة مقديشو، وساعدا في سيطرة المحاكم الإسلامية على المدينة، وحضرا الاجتماع التأسيسي لحركة الشباب المجاهدين في أحد منازل حي ياقشيد في العاصمة مقديشو، في منتصف أغسطس/آب 2006. ذكر المؤلفان هارون معروف ودان جوزيف في كتابهما "داخل حركة الشباب – الحليف الأخطر لتنظيم القاعدة" أنّ اجتماع ياقشيد ضم أربع حركات هي؛ معسكر صلاح الدين بقيادة أحمد عبدي غوداني، ومعسكر رأس كامبوني بقيادة حسن التركي، ومحكمتين إسلاميتين أصوليتين من حي ياقشيد ومنطقة جلجود. اُختير إسماعيل عرالي أميرًا للحركة، وعُين مدوبي نائبًا له. لكن غوداني في الحقيقة، الذي سيصبح الأمير الثاني للشباب بعد اعتقال عرالي، كان هو الشخصية الأبرز، والأهم في مسيرة الحركة حتى مقتله عام 2014.
بعد أشهر، شنّت إثيوبيا عملية عسكرية أواخر عام 2006 لمساندة الحكومة الاتحادية الانتقالية، وتمكنت من هزيمة قوات المحاكم الإسلامية، وطردها من مقديشو. فرّ مدوبي إلى الجنوب حيث مسقط رأسه، بالقرب من مدينة كسمايو التي تضم واحدا من أهم موانئ البلاد، وظل يقاتل القوات الحكومية المدعومة من إثيوبيا والولايات المتحدة. لم يطل الوقت بمدوبي فسقط في يناير/ كانون الثاني 2007 في أسر القوات الإثيوبية والأمريكية، بعد استهدافه وثمانية من رجاله، وكاد أنّ يلقى مصرعه بعد إصابته بالعديد من الطلقات النارية. نُقل إلى إثيوبيا حيث تلقى العلاج، وسُجن لفترة قبل وضعه تحت الإقامة الجبرية في مسكن خاص.
أدرك الإثيوبيون أهمية مدوبي، فعملوا على بناء علاقات جيدة معه. نقل الصحفي الفرنسي برونو مايرفيلد الحائزة قصته بعنوان "مدوبي: الجهادي المحترم" بجائزة "True Story Award" عن دبلوماسي قريب لإثيوبيا، أنّ مدوبي "حظي برعاية ومعاملة محترمة، وكأنه من كبار الشخصيات، وأُتيحت له الإقامة في فيلا مريحة، واستمع إلى إفادات كبار ضباط الجيش. ولهذا السبب، ظل ممتنًا للغاية للإثيوبيين، وسيظل مخلصًا لهم".
بينما كان مدوبي تحت الإقامة الجبرية الفاخرة، كانت تؤول الأوضاع الأمنية إلى مزيد من التدهور، بعد تجمع المقاتلين السابقين في المحاكم تحت لواء حركة الشباب والحزب الإسلامي بقيادة حسن طاهر أويس. وتغيرت الأوضاع قليلًا بعد التوصل لاتفاق سلام بين الحكومة الانتقالية وتحالف إعادة تحرير الصومال – جناح شريف شيخ أحمد، وانسحاب القوات الإثيوبية في 2009.
في هذه الأجواء، تلقى مدوبي زيارة هامة من محمد عبدي محمد المعروف بـ"غاندي"، الأكاديمي البارز الذي ساهم بدور كبير في محاولات إعادة بناء الدولة في الصومال، ووزير الدفاع في حكومة الرئيس شيخ أحمد (2009 - 2010). اتفق الرجلان على العمل سويةً لاستعادة المناطق الجنوبية التي سيطرت عليها حركة الشباب، وأُفرج عن مدوبي، وانتقل إلى المناطق القريبة من مدينة كسمايو.
تمت فجوة في المعلومات عن بعض الأحداث في هذه المرحلة، فمن المفترض أنّ معسكر رأس كامبوني بات جزءًا من حركة الشباب، لكن بعد هزيمة المحاكم الإسلامية عاد المعسكر للعمل منفردًا بقيادة حسن التركي، وشارك في التحالف الذي أسس الحزب الإسلامي، حتى عام 2009 حين انشق التركي، وانضم إلى حركة الشباب، بينما قاد مدوبي فصيلًا في الجنوب من المعسكر باسم حركة رأس كامبوني، وأعلن الحرب على الشباب في 2010. أخفق مدوبي في استعادة مدينة كسمايو في المرة الأولى، وتمكن بعد عامين من دخول المدينة، وطرد الشباب بمساعدة القوات الكينية وقوات البعثة الأفريقية.
فرض مدوبي حكم الأمر الواقع على المدينة، التي عانت لأكثر من عقدين من التخريب والصراع بين القبائل، واصطدم طموحه السياسي بمعارضة قبائل وازنة، مثل مريحان التي تسكن المدينة، أما قبيلته أوغادين فتسكن حولها. خاض مدوبي العديد من الصراعات المسلحة ضد قبيلة مريحان والقوات الفيدرالية، وشارك في العديد من مؤتمرات المصالحة مع المكونات الاجتماعية والميليشيات القبلية، بتسهيل من الحكومة الفيدرالية والبعثة الأفريقية في 2013، وتوصل المشاركون إلى تأسيس ولاية جوبالاند، واختيار مدوبي رئيسًا مؤقتًا حتى 2015.
تمكن مدوبي من تسوية العديد من الصراعات من خلال التفاوض، واُنتخب في 2015 رئيسًا للولاية، وفاز في انتخابات 2019 بفترة ثانية، وكان من المفترض عقد انتخابات رئاسة وبرلمان الولاية في 2023، دون مشاركة مدوبي، وفقًا لدستور الولاية الذي يحدد فترتين فقط لشغل منصب الرئاسة.
لم يقبل مدوبي بالتنازل عن السلطة لأحد، فأقدم على تعديل مادتين في دستور الولاية في أغسطس/ آب 2022، لتصبح مدة رئاسة ولاية الرئيس والبرلمان خمس سنوات بدلاً من أربع. مرة ثانية قام مدوبي عبر البرلمان الموالي له بتعديل الدستور في يوليو/ تموز الماضي، ليحذف المادة التي تقصر حقّ الترشح لمنصب رئيس الولاية بمدتين، مانحًا نفسه الحق للترشح لولاية ثالثة جديدة.
لم يكن طريق التعديلات يسيرًا أمام مدوبي، إذ اضطر على ما يبدو لتقديم الولاء ظاهريًا لخصمه الرئيس حسن شيخ محمود، وسايره في مشروعه السياسي الذي يهدف إلى تغيير النظام السياسي والانتخابات من نظام (4.5) العشائري، إلى نظام الانتخاب المباشر الذي يشارك فيه جميع المواطنين.
انتهت شرعية مدوبي بصفته رئيسا للولاية في أغسطس/ آب 2024، ولكنه حصل على موافقة ضمنية للبقاء في منصبه من الرئيس حسن شيخ مقابل دعمه لتطبيق التعديلات الدستورية بشأن الانتخابات في ولاية جوبالاند.
حافظ مدوبي على علاقة حذرة مع الحكومة الفيدرالية، حتى انعقاد المجلس الاستشاري الأخير في أكتوبر/ تشرين الثاني الماضي، فانقلب على الرئيس وانسحب من المؤتمر، رافعًا شعار مشاركة ولاية بونتلاند و"إدارة خاتمو"، ورفض التمديد لرؤساء الولايات الإقليمية حتى عقد الانتخابات وفق النظام الجديد.
يدعو توقيت تحول موقف مدوبي إلى التساؤل، فلم تشارك بونتلاند في أي من اجتماعات المجلس الاستشاري، منذ تنصيب حسن شيخ في مايو/ أيار 2022، بسبب الخلافات الشخصية بين الرئيس ورئيس الولاية سعيد عبد الله دني، والأمر نفسه مع إدارة "خاتمو". أما قضية التمديد، فمدوبي نفسه فعلها لصالحه، بل عدل الدستور مرتين ليضمن بقائه في السلطة.
يبدو التفسير الأقرب للصحة أنّ مدوبي انتقل إلى معسكر المعارضة الذي يضم رئيس ولاية بونتلاند والرؤساء السابقين الذين يعارضون مشروع التعديلات الدستورية، وذلك لضمان عدم تطبيق نظام الانتخاب المباشر، الذي سيمنح الفرصة لمعارضيه لمنافسته بقوة في انتخابات برلمان ورئاسة الولاية. فمن خلال نظام (4.5) العشائري يملك مدوبي الفرصة لضمان فوز الموالين له في انتخابات البرلمان الذي بدوره ينتخب رئيس الولاية.
قام مدوبي لتحقيق خطته الجديدة، بتعيين اللجنة الانتخابية الإقليمية المسؤولة عن تلقي طلبات الترشيح، واختيار المندوبين القبليين الذين ينوبون عن المواطنين في التصويت، وهي الخطوة التي أغضبت مقديشو، ودفعتها لإعلان عدم موافقتها على إجراء الانتخابات، ورفض الاعتراف بنتائجها. أعلن مدوبي بدوره قطع العلاقات مع الحكومة الفيدرالية، واتهمها بالتدخل في شؤون الولاية الداخلية، ملتحقًا بصديقه القديم رئيس ولاية بونتلاند سعيد عبد الله دني الذي قطع العلاقات مع مقديشو، وسحب اعترافه بمؤسساتها.
عرفت العلاقة بين مدوبي ومقديشو صدامات أكثر من التوافق، بدايةً مع حسن شيخ في عهده الأول في 2013، ثم خلفه محمد عبد الله فرماجو، ومرة ثانية مع حسن شيخ في ولايته الثانية. يراهن الرجل على تكرار خطة الإطاحة بفرماجو التي لعب فيها دورًا كبيرًا مع صديقه سعيد دني. وفي المقابل، تراهن مقديشو على رئيس الوزراء حمزة بري الذي يشارك مدوبي الانتماء لقبيلة أوغادين، ما ينذر بتصاعد الخلافات بين الطرفين، ويزيد من احتمالات تحولها إلى مواجهات مسلحة.
في هذا السياق، نشرت صحف تقارير عن طلب مقديشو من قوات البعثة الأفريقية "أتميس"، تولي مسؤولة الأمن في مطار كسمايو بدلًا من قوات ولاية جوبالاند، كما ذكرت أنّ حمزة بري يخطط للانتقال إلى كسمايو لحسم تمرد مدوبي.
هكذا وصلت الأزمة بين الطرفين إلى طريق مسدود، وسيسعى كلاهما إلى بناء تحالفات للإطاحة ببعضهما البعض، ويحظى مدوبي بدعم من إثيوبيا وحليفته التاريخية كينيا، إلى جانب علاقاته الجيدة مع المعارضة ورؤساء الولايات الإقليمية. لطالما نجحت رهانات مدوبي، صاحب الشخصية المُحيرة، كما وصفه البروفيسور غاندي، لكن هذه المرة قد لا تسير الأمور وفق هواه، فالحكومة الفيدرالية باتت أقوى، وتبعات الأزمة مع إثيوبيا ليست ببعيدة عن قصر الرئاسة في كسمايو، كما أنّ لمقديشو علاقات جيدة مع بعض خصومه الداخليين.