تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الجمعة 22 نوفمبر 2024

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
فكر

ديكارت كان مخطئاً: "يكون الشخص شخصاً عبر أشخاص الآخرين"

8 فبراير, 2024
الصورة
Descartes
Share

وفقاً لفلسفة (الأوبونتو)، التي تنحدر جذورها من أفريقيا العتيقة، الطفل الوليد ليس شخصاً. يولد الناس بلا (إيناEna ) أو شخصية، بل يكون عليهم اكتسابها بالتفاعلات والتجارب مرّ الزمن. لذا فإن القسمة الثنائية (ذات/ آخر) البديهية في الفسلفة الغربية تبدو أكثر ضبابية في فكر الأوبونتو. وكما وضع الفيلسوف كيني المولد (جون مبيتي) في كتاب "فلسفات أفريقيا وأديانها: 1975" صياغة العبارة "أنا موجود؛ لأننا موجودون، وبما أننا موجودون؛ إذاً، أنا موجود". 

نعلم من التجربة اليومية إن الشخص يتشكل جزئياً في بوتقة المجتمع. والعلاقات تغذي بناء الفهم الذاتي. وماهيتي "من أنا" تعتمد على "آخرين" عديدين: أسرتي، أصدقائي، ثقافتي، زملاء عملي. الذات التي اتخذها في شراء حاجياتي، تختلف عن الذات التي أتحدث بها مع مشرفي في بحث الدكتوراه. حتى أكثر تأملاتي شخصانية وخصوصية متشابكة مع منظورات وأصوات أناس مُختلفين، أيَّاً كانوا، أولئك الذين يتفقون معي، أو ينتقدونني، أو الذين يثنون عليّ. 

 بالرغم من ذلك، فإن تصور الذات بوصفها متذبذبة وغامضة، ما زال بوسعه أن يكون مربكاً. يمكننا أن نعزو هذا الإرباك، إلى (رينيه ديكارت) بشكل كبير. في القرن السابع عشر، افتكر الفيلسوف الفرنسي أن الإنسان محتوىً في ذاته بالضرورة، ومكتفياً بها، وعقلاني بالجبلة، ومقيد بالعقل، ويتوجب عليه أن يجابه أو يلتقي العالم خارجه بنزعة شكوكية. بالرغم من أن ديكارت لم يخلق العقل الحديث بمفرده، إلا أنه قطع مدىً بعيداً في تحديد خارطته. 

نصب ديكارت لنفسه لغزاً شديد التحديد. أراد أن يعثر لنفسه على نقطة ثابتة لوجهة نظر ينظر منها إلى العالم دون حاجة للاستناد على الحِكم الممنوحة من الرب. أي أن يعثر على مكان يستطيع منه تشريح البنيات الثابتة خلف الظواهر المتغيرة للطبيعة. اعتقد ديكارت أن ثمة مقايضة بين اليقين وبين نوعٍ من الثراء الاجتماعي الدنيوي. الشيء الوحيد الذي يمكنك التأكد منه هو (الكوجيتو) الخاص بك: حقيقة أنك تفكر. الآخرون والأشياء الأخرى متقلبون وشاذون بطبيعتهم الداخلية. لذا، لا ينبغي أن يكون لهم أي دور البنية الأساسية للذات العارفة: التي هي بالضرورة كلٌّ منفصل، ومُحكم، وتأملي.

قلةٌ من الفلاسفة وعلماء النفس من يعرِّفون أنفسهم كـ ديكارتيين ثنائيين بالمعنى الصارم، أي في سياق الإعتقاد  أن العقل والمادة منفصلان كليةًّ. بيد أن الكوجيتو الديكارتي لا يزال مِلء الاشهاد إينما تنظر. على سبيل المثال، يميل التصميم التجريبي لفحص الذاكرة للانطلاق من افتراض إمكانية التمييز الحاد بين الذات والعالم. إذا كانت الذاكرة  ببساطة تقطن الجمجمة، يكون من المقبول تماماً عندها أن ننزع إنسانة من بيئتها وعلاقاتها، ونختبر تذكرها باستخدام بطاقات الذاكرة المُدمجة، ضمن محابس المعمل الاصطناعية. تعد الإنسانة (المرء) كياناً قائماً بذاته، دون اعتبار لما حوله، منقوشاً على الدماغ كسلسلة من العمليات الإدراكية. يجب أنت تكون الذاكرة شيئاً يُمتلك ببساطة، وليس شيئاً يُفعَل ضمن سياق معين. 

يدعي علماء النفس الاجتماعيون أنهم يتفحصون العلاقة بين الإدراك والمجتمع. لكن حتى عندما يفعلون، يفترض البحث أن جمعاً من الذوات الديكارتية هو محط التحري الحقيقي، وليس ذواتاً (تتنامى) أو تتطور متعايشةً مع ذوات أخرى مرّ الزمن. في ستينيات القرن الماضي، أصبح عالما النفس (جون دارلي) و(بيب لاتاني) مهتمان بمقتل الشابة البيضاء (كيتي جينوفز)، وقد طُعنت واُعتدي عليها في طريقها إلى المنزل، ذات ليلةٍ في نيويورك. شهد العديد من الناس الجريمة، لكن لم يتخذ أيَّاً منهم خطوةً لمنعها. صمم دارلي وبيب سلسلة من التجارب يقومان فيها بمحاكاة كارثة، مثل نوبة صرع، أو دخان يتصاعد من غرفة مجاورة، ليراقبا ما يفعله الناس. وكانا أول من تعرَّفا على ما يدعى "أثر المتفرج Bystander Effect"، إذ يبدو أن الناس يستجيبون ببطء لمن هو في ورطة في حضور الآخرين. 

اقترح دارلي ولاتاني أن هذا ربما يعود إلى (انتثار المسئولية)؛ حيث يذوب واجب التفاعل متخففاً بين مجموعة كبيرة من الناس. لكن، ومثلما يحاجج عالم النفس الأمريكي (فرانسيس شيري) في كتابه: "عناد الجزئيات في علم النفس الاجتماعي: مقالات في طرق البحث 1995"؛ فإن هذه المقاربة العددية تكنسُ بعيداً معلومات سياقية حيوية، من المحتمل أن تساعد في فهم الدوافع الحقيقية للبشر. يجب أن يُنظر إلى مقتل جينوفز مقابل خلفية لم يكن فيها العنف ضد النساء يؤخذ على محمل الجد، كما يقول شيري، والناس فيها مترددون من التدخل في ما قد يكون نزاعاً منزلياً. علاوةً على ذلك، لربما جذب مقتل امرأة سوداء فقيرة اهتماماً إعلامياً لاحقاً أقلّ بكثير. لكن محور تركيز دارلي ولاتاني يجعل رؤية العوامل البنيوية أكثر صعوبةً من أن تُرى. 

هل من طريقة لمصالحة هذين الموقفين من الذات، النسخة العلائقية المعانقة للعالم، والنسخة المستقلة الداخلانية؟ اعتقد فيلسوف القرن العشرين الروسي (ميخائيل باختين) أن الإجابة تكمن في الحوار. نحتاج الآخرين كي نقيّم وجودنا ذاته، ولنبني صورة– ذات واضحة. فكِّر في اللحظات الوامضة التي يقبض فيها الشاعر شيئاً طالما شعرته، لكنك لم تكن قادراً على صوغه، أو عندما تكافح كي تلخص أفكارك، فتشف بلورية في محادثة مع صديق. اعتقد باختين أن الوصول إلى تثمين فرادة وجهة النظر الذاتية، ورؤية النفس ككيان كامل، ممكنة، فقط عبر اللقاء بشخصٍ آخر. كتب باختين: "بالنظر إلى شاشة روح الآخر، أُفعِّلُ خارجي". الأنوية والمعرفة تطوريتان وديناميتان.. الذات لا تنتهي، إنها كتابٌ مفتوح. 

إذاً، الحقيقية ليست في الخارج هناك، تنتظر كي تُكتشَف بهذه البساطة. كما كتب باختين في كتابه المترجم إلى العربية بعنوان (شعرية ديستوفسكي 1929) يقول: "الحقيقة لا تولد ولا تنوجد داخل رأس شخصٍ مُفردٍ، إنما تولد بين ناس يبحثون جمعياً عن حقيقة، ضمن عملية تفاعلهم الحواري". ليس من شيء هو نفسه بهذه البساطة، خارج منظومة العلاقات التي يتبدى فيها. بل إن الكينونة فعل أو حدث يجب أن يحدث في الفضاء بين الذات والعالم.

قبول الآخرين حيويٌ لإدراك الذات، وتصحيحيٌّ لمحدوديات النظرة الديكارتية. خذ في الاعتبار نموذجين لعلم نفس الطفل: نظرية جان بياجيه للنمو الإدراكي التي تستوعب النمو الفردي بطريقة ديكارتية. يصوّرُ الطفل النامي كأنه متعلّمٌ وحيد، عالمٌ مبتكرٌ، يكافح باستقلالية ليجعل للعالم معنى. وعلى العكس من النظريات الحوارية التي ولّدتها تجارب مثل تجربة (ليسا فروند: دراسة بيت الدمية1990) التي تؤكد على التفاعل بين الطفل والبالغ الذي يمكن أن يشكل (سقالة) مرتقىً للكيفية التي يفهم بها الطفل العالم. 

ربما يكون الحبس الإنفرادي مثالاً أكثر كآبة. صُّمِّم العقاب في الأصل ليشجع على الاستبطان، ليوجه أفكار السجينة إلى الداخل، ليحفزها على التأمل في جرائمها، وليساعدها في نهاية المطاف على العودة إلى المجتمع كمواطنة نظيفة أخلاقياً. سياسة مثلى لإصلاح الأفراد بالمعنى الديكارتي. لكن، في الواقع، تقول الدراسات التي أجريت على هؤلاء السجناء إن إحساسهم بأنفسهم يذوب  إذا ما عوقبوا على هذا النحو لأمدٍ كافٍ. ينزع السجناء للمعاناة من صعوبات فيزيائية ونفسية عميقة، مثل التشوش والقلق والأرق، ومشاعر القصور و عدم الأهلية  وإضطراب الإحساس بالزمن. محرومة من الاتصال والتفاعل– أي المنظور الخارجي اللازم لإكمال صورة ذات واضحة واستدامتها- توشك السجينة أن تقع في خطر الاختفاء في اللا وجود. 

بدأت الحقول الصاعدة (نظريات الإدراك المتجسد والفعّالEmbodied And Enactive Cognition) في أخذ النماذج الحوارية للذات بصورة أكثر جدية. لكن في الغالب الأعم، تتبنى السايكلوجيا العلمية بقصدية شديدة الافتراضات الديكارتية الفردانية التي تمزق الشبكة (الانشباك) الرابطة للذات بالآخرين. هناك عبارة تعود إلى الزولو (أومونتو نقومونتو نيقابونتو) (الشخص، شخصٌ عبر أشخاص  الآخرين)، وهذا موقف أظنه أثرى، وأفضل من (أنا أفكر، إذاً أنا موجود)!

 

ترجمة: أحمد النشادر