تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الأربعاء 16 أكتوبر 2024

رأي

فلسطين: أن تُرى كأنك لست إنساناً

27 أغسطس, 2024
الصورة
Qasa
فتاة صغيرة تبكي داخل مدرسة تُستخدم كمأوى مؤقت للفلسطينيين النازحين في مدينة غزة، في أعقاب غارة إسرائيلية في 10 أغسطس 2024، أدت إلى مقتل أكثر من 90 شخصًا. (تصوير عمر القطاع/وكالة الصحافة الفرنسية)
Share

 

تقف حرب إسرائيل في غزّة على تصوّر ينزع عن الفلسطيني أي صفةٍ إنسانيّة. لقد عرفنا شيئاً مشابهاً في الصومال، وعلينا أن نكثّف الجهود للحيلولة دون ذلك في غزّة.

في جلسة نقاشٍ نظمتها مجموعة "العلم واللاّثنائية" بين الناشطة المخضرمة والمفكرة أنجيلا ديفيس، والطبيب والمؤلف جابور ماتي، تأمل ماتي تجربته كيهودي يشاهد الفظائعَ التي تتكشف حاليّاً في غزة، والتي وصفها بأنها "أكثر فترة قاتمة" في حياته، وقد أخبر ديفيس بأنّ متابعة النقل المباشر للكارثة في غزّة، يشبه معاينة "شريط التاريخ العالمي في غضون بضعة أشهر". إن عمليات العنف التي أخضعت وأبادت شعوباً بأكملها، في أمريكا الشمالية وأستراليا، لتحدث الآن أمام أعيننا، يقول: "يبدو الأمر وكأننا نشهد نسخة مروعة عن ماضينا".

هذا هو السبب وراء اهتمام العديد من الأشخاص من إفريقيّا بهذه القضية. نعاين رابطاً، رغم الاختلاف في كثافة العنف، بين المنطق الذي يجمع الفلسطينيين بمضطهديهم، وبين المنطق الذي يعالق الصوماليين بالإيطاليين. وكما قال وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف جالانت بنفسه، فإن بلاده تقاتل "حيوانات بشرية". لقد كان جالانت يردد وصف ونستون تشرشل للهنود ذات يوم، حينما قال بأنّهم: "شعب متوحّش".

أمّا الصوماليون فعرفوا تعاملاً مماثلاً في ظلّ الحكم الإيطالي. انتقلت إيطاليا، كما تصف الناشطة والكاتبة سيلفيا بانكهورست في دراستها الرائدة "مستعمرة صوماليلاند الإيطالية السابقة"، من عدم الاكتراث بمستعمرتها لكونها "تضّن عن تبديد أموالها في إفريقيّا" إلى خطّة "توسيع الفقاعة" في ظل نظام بينيتو موسوليني الفاشي: "مع تصاعد العنصرية، وتكثيف العمل القسري والقسوة الوحشية، مع فترةٍ مكثّفةٍ من الخضوع والمصادرة والإرهاب، أطلق عليها [سيزار ماريا دي] دي فيتشي 'استعادة' المستعمرة". قال عبدي إسماعيل سمتر، وهو سياسي وأكاديمي صومالي: "مع صعود الفاشية، تحولت المستعمرة إلى ساحةٍ أكثر وحشية وعنصرية". سعى دي فيتشي إلى تغيير الصومال من خلال الصليب والمحراث.

الفرق الكبير هاهنا يتمثّل في أنّ هذه أول "إبادة جماعية تبّث مباشرة" في التاريخ، على نحوِ ما أشارت بلين ني غرالايغ، مستشارة الفريق القانوني لجنوب إفريقيا. نشهد يومًا بعد يوم، ليلة بعد ليلة المزيد من الفقد؛ أرواحاً وأرضاً، كجزءٍ في مشروع لإذلال الشعب الفلسطيني، وتجريده من كرامته. نحن غير قادرين على حساب الحزن، ولم تتوقف عمليّة القتل، حتى ننظر إلى الوراء ونقيم الموقف.

مسحت مدن وقرى بالكامل، ودُمرت جميع جامعات غزة، فيما أطلق عليه خبراء الأمم المتحدة "إبادة للعلم"، ودُنست القبور، وتحول المسجد الكبير في غزة الذي يعود تاريخه إلى القرن السابع إلى أنقاض، وفُرّغت غزّة من أشجارها، وسحقت الأراضي الزراعية؛ يقول أحد الشباب لصحيفة الغارديان: "للأسف، قضت إسرائيل على كل شيء جميل في غزة". 

تقدر الأمم المتحدة أن إزاحة الأنقاض وحدها قد تستغرق 15 عاماً، وبتكلفةِ 500 مليون دولار. يقول كوري شير، المتخصص في توظيف صور الأقمار الصناعية لتقييم الصراع في مركز الدراسات العليا بجامعة مدينة نيويورك، واصفاً الدمار: "تلتحفُ غزة الآن لوناً مختلفاً من الفضاء".

ومع ذلك، أعتقد أننا على استعداد للتضحية بكل ذلك لحماية الأرواح البشرية، دونما الرجوع لمدننا ومساحاتنا كضروراتٍ لإحساسنا بهويتنا. ومن هنا جاء الهجوم الإسرائيلي أفجعَ.

 أعلنت الأمم المتحدة في أوائل يوليو/تموز أن "حملة التجويع المتعمدة والموجّهة التي تشنها إسرائيل" خلقت مجاعةً في جميع أنحاء غزة. حاول نتنياهو التهرّب من مسؤولية فشل إدخال المساعدات، بادعائه أنها ستسلم لحماس. أما وزير ماليته، بتسلئيل سموتريتش، ذلك الشرير الكرتوني، فقد فكّر فيما إذا سيكون تجويع غزة أمراً أخلاقياً أم لا، ليتذكّر أنّ "العالم لن يسمح لنا بفعل ذلك".

الأرقام التي تتداولها الصحف ومحطات التلفزيون تشير إلى أن عدد القتلى الفلسطينيين منذ أكتوبر/تشرين الأول الماضي بلغ حدود أربعين ألف قتيل؛ وهو رقم مذهل حقاً، رغم فظاعته، ويؤكد إعلام حكومة غزة أنّ 70% من القتلى هم نساء (حوالي 11 ألفاً) وأطفال (16300)، وما يزال الكثيرون تحت الأنقاض، فيما وصفه الصحفي الأمريكي جيريمي سكاهيل بـ "المقابر الخرسانية".

التقى بايدن بالمسلمين الأمريكيين ليعبّر لهم عن شعوره "بالخيبة" من الأرقام المتداولة، في محاولة للتقليل من وحشية إسرائيل- وقد يكون له الحق في ذلك. سوى أنّ المشكلة الوحيدة هي أن الرقم ربما يكون أعلى بكثيرٍ مما تمكنت وزارة الصحة في غزة من إحصائه، لكونها لا تعدّ غير الأسماء التي أعلنت المستشفيات والمشارح عن وفاتهم. يؤكد الصحفي الحائز على جائزة بوليتسر كريس هيدجز، الذي كان يقدّم تقارير من فلسطين، أنّ الأرقام الحالية "أقل بكثير من العدد الحقيقي". ورامت ذّ لانست، المجلة الطبية البريطانية المرموقة، في يوليو/تموز إعطاء رقم دقيقٍ: "بوضع أربع وفيات غير مباشرة لكل وفاة مباشرة على 37396 حالة وفاة التي أبلغ عنها، ليتأتّى لهم أنّه من الممكن تقدير أن ما يصل إلى 186000 حالة وفاة أو ربما أكثر نتج عن الصراع الحالي في غزة"- وهذا يعني حدود 7٪ من سكان غزة.

لكن المذبحة في غزة صرفت انتباهنا عن الضفة الغربية التي وصفتها ثلاث منظمات حقوق إنسان مرموقة بأنها نظام فصل عنصري. يُحرم الناس هناك بشكل يومي من التنقل أو استخدام طرقٍ غير تلك المحددة، ​​وتُهدم منازلهم بعد عمليات الإخلاء، ويتعرضون لمعاملة مهينة عند نقاط التفتيش في جميع أنحاء المنطقة، والذين يخنهم الحظّ يقتلون على الفور. كان عام 2023 الأكثر دموية في تاريخ الضفة الغربية، والأكثر دموية عند الأطفال على نحوٍ خاص. تشير منظمة إنقاذ الطفولة إلى أنّ معدل القتل يعادل في المتوسط ​​"طفلاً فلسطينيّاً" في الأسبوع. لا شيء أكثر قيمة من الحياة البشرية، ولكن هذا يحدث أيضاً من وراء ستارٍ تتحدى فيه إسرائيل الولايات المتحدة بالموافقة على أكبر توسع استيطاني لها في الضفة الغربية منذ عقدٍ، فقد صادرت 12.7 كيلومتراً مربعاً من الأراضي، هذا يعادل سُبع مساحة مقديشو أو ثلث مساحة هرجيسا تقريباً.

يحرم الفلسطينيون من حقّهم الطبيعي في العودة إلى وطنهم، في حين يُسمح لأي يهودي، في أي مكان من العالم، بالحصول على الجنسية بغض النظر عن مدى قوّة ارتباطه بإسرائيل. وهذه مهزلةٌ، ولكنّها ليست شيئاً جديداً. والواقع أن الوزراء الإسرائيليين يعرفون تماماً ما يريدون من غزة، ولنصدّقهم. فقد أعلن نائب رئيس الكنيست، نيسيم فاتوري، بصوت عالٍ على موقع X بأن "مسح قطاع غزة من على وجه الأرض" هو الهدف النهائي لإسرائيل. أمّا آفي ديختر، عضو مجلس الوزراء الأمني ​​ووزير الزراعة الإسرائيلي، فيقول بأنّ بلاده "تنفذ نكبة لغزة"، وهو يشير هاهنا إلى التطهير العرقي الذي حدث عام 1948 لأكثر من 750 ألف فلسطيني لحظة تأسيس دولة إسرائيل. 

إنها أفضل طريقة مناسبة لوصف ما يحدث: "نكبة غزة". إنّ أرض فلسطين المحتلة جحيم متّقد، ومنذ ذلك الحين اضطر الفلسطينيون، وطيلة سبعين عاماً، إلى التخلي عن أرضهم وحريتهم، في وقتٍ تخلّت فيه حكومات العالم الإسلامي عن القضية، وأصبحت فيه الدول الغربية غير مكترثة لتجاوزات إسرائيل.

بدأت دورة العنف بالهجوم القاتل الذي شنته حماس في جنوب إسرائيل، والذي أسفر عن مقتل أكثر من 1100 شخص، معظمهم من المدنيين، وأسر 200 آخرين. مشاهدُ صدمت لحظتها العديدَ من الناس. واستغل هذا الهجوم من حينها، على نحوٍ هستيري لإطلاق العنان لبعضٍ من أسوء أعمال العنف التي عرفناها منذ سنوات. مع كلّ قنبلة تسقطها إسرائيل، تزعم أنها أصابت حماس، وتستمر أرواح العشرات من المدنيين في السقوط. وفي كلّ مرة تدمر إسرائيل مستشفى، يعلن المتحدثون العسكريون أنه كان مقراً لحماس. لقد غدت العبارة "حماس تختبئ بين المدنيين" السلاح الأكثر فتكاً الموجّه ضد الفلسطينيين؛ سلاحاً يُنوّم العالم وسط الرعب.

إنّ هذه الأشياء لا تتحقق إلا من خلال حملة ممنهجةٍ لنزع الإنسانيّة، وهي حملة تدعمها الصحافة والسياسيون والحكومات. إن عمليات الإنزال الجوي للمساعدات التي قامت بها الولايات المتحدة - وهذه بدورها أسفرت عن سقوط ضحايا فلسطينيين- ستبقى ندبة فظيعةً، والصورةً التي تستحضرها الأذهان، كلّما سأل الناس في المستقبل عما فعله العالم لمساعدة غزة. ها هي الولايات المتحدة، والغرب بشكلٍ عام، الذين وقعوا في نوبة من العنصرية المعادية للفلسطينيين، يرمون الطعام على السكان الذين جُوّعوا عمداً. 

تذكروا؛ ليست غزة على كوكب المريخ أو على الجانب الآخر من وادٍ مُوحشٍ؛ إنها، على النقيض، تحد حليفاً وثيقاً للولايات المتحدة، حليفاً ثريّاً ويعتمد بشكل كبيرٍ على مساعداتها العسكرية السخية، وها هو الآن يفرض حصاراً خانقاً على غزّة. صمّ جو بايدن والمشرعون الأمريكيون والمثقفون، الذين سرّعوا هذا الجنون التي سمح لهذه الحرب أن تستمر، آذانهم وأغلقوا أعينهم عن معاناة الشعب الفلسطيني. صار لزاماً علينا، إذن، أن ندرك أن الغرب نزع عنهم أيّ صفة إنسانيّة، وأدار ظهره لهم، وكان نتيجة ذلك شديدة الكُلفة.