الخميس 21 نوفمبر 2024
جدد الحادث الإرهابي الذي استهدف مركزًا لتدريب عناصر الأمن في العاصمة المالية باماكو، في 17 سبتمبر/ أيلول الفائت، الذي عُد الهجوم الإرهابي الأخطر في إحدى عواصم دول الإقليم منذ 2016، الاهتمام العالمي بظاهرة الإرهاب وعدم الاستقرار في إقليم الساحل، بالتزامن مع خروج القوات الأمريكية الكامل من النيجر، ما يمثل تهديدات مرتقبة على مجمل الأوضاع في الإقليم، واحتمالات تحوله إلى ساحة مكشوفة للحروب بالوكالة بين القوى المتصارعة على النفوذ به.
تسعى الولايات المتحدة على خلفية هذه المؤشرات المقلقة، في الأسابيع الأخيرة من إدارة الرئيس جو بايدن، إلى إعادة ضبط مقارباتها العسكرية والأمنية تجاه مجمل إقليم غرب أفريقيا، أملًا في منع تمدد الاضطرابات السياسية والأمنية من الساحل إلى دول بجواره، وصولًا إلى سواحل المحيط الأطلسي، واحتواء التمدد الروسي المرتقب، وفرض مزيد من "الضوابط الأمريكية" على التحركات الصينية الاقتصادية والعسكرية، ثم التوصل لشراكات دينامية مع دول الإقليم، تتعزز فيها حظوظ مساهمة القطاع الخاص من الجانبين، وفق ما تراه واشنطن دافعًا قويًا لاستدامة هذه الشراكات ونجاعتها.
مثل حادث 17 سبتمبر/ أيلول الإرهابي في باماكو إشارة قوية لقدرة الجماعات الإرهابية في إقليم الساحل؛ التي تنحصر هجماتها عادة في الأطراف والمناطق الريفية، على الضرب بقوة في قلب مراكز السلطة في دول الإقليم. وبغض النظر عن تقارير تورط أوكرانيا في دعم هذه الجماعات الإرهابية، وإسنادها بدعم لوجيستي ومعلوماتي خطير في العملية المشار لها، وما قد يقود إلى فهم أدق للاستراتيجية الغربية/ الأمريكية في الإقليم، باعتباره ساحة مستباحة تمامًا لضخ سياسات متناقضة بين المعلن والمنفذ.
يمثل صعود النشاط الإرهابي بالتزامن مع خروج الولايات المتحدة دلالة بالغة على أن تداعيات هذا الخروج ستفرض تحديات مضاعفة على قيادة القوات الأمريكية في أفريقيا "أفريكوم"، ليس أقلها "أفغنة" Afghanistanization الوضع في الإقليم (من الزاوية الأمريكية بطبيعة الحال). بمعنى: تحقيق القوات الإرهابية غير الوطنية (التي لا تلتزم بالحدود القائمة بين دول الإقليم) انتصارات منتظمة، قد تمكنها على المدى البعيد من الاستيلاء على السلطة أو منازعة لا يستهان بها عليها مع القوات المسلحة في دول الساحل، في مقابل عدم مناهضة الأولى للهيمنة الغربية التقليدية في دول الإقليم أو الإضرار بمصالحها.
كما أن خروج القوات الأمريكية لن تعوضه بالضرورة قوات أو دعم عسكري روسي في الدول الثلاث المعنية (بوركينا فاسو والنيجر ومالي)، لاسيما أن روسيا تعاني استنزافا واضحا في الجبهة الأوكرانية مع توسع دعم دول الناتو والدول الحليفة له لكييف في مواجهة موسكو، التي لا تمكنها ظروفها الاقتصادية الراهنة من تقديم مساعدات ضخمة لدول الساحل، تحقق بها قدرًا من التعافي والقدرة على مواجهة العقوبات الاقتصادية الغربية والإقليمية المفروضة عليها.
يبدو أن واشنطن وحلفاءها، قد نجحوا مع قرب نهاية العام الجاري في احتواء تداعيات الخروج الأمريكي من الساحل على نحو مباغت عبر تكريس الوضع القائم به، بل وربما تعميق أزماته عبر الدعم الأوكراني المعلن لبعض الحركات الانفصالية والإرهابية، لاسيما في شمالي مالي. كما أن توجه واشنطن الأولي راهنًا لتوطيد علاقاتها الدفاعية والأمنية مع دول ساحل غينيا (المتاخمة لإقليم الساحل)، سيمثل بطبيعة الحالي إعادة تموضع استراتيجي للولايات المتحدة في غرب أفريقيا، وتعزيز قدراتها العسكرية في مواجهة التمدد الروسي، وربما تحجيمه في المراحل المقبلة.
يبدو أن إعلان واشنطن المتكرر عن صياغة استراتيجيات جديدة في غرب أفريقيا في السنوات الأخيرة، يخصم بشكل ملموس من مصداقية هذه الاستراتيجيات في حد ذاتها. إضافة إلى تعزيز شكوك المراقبين والمعنيين في الإقليم تجاه هذه الاستراتيجيات، ومدى جدية واشنطن في مواجهة التحديات بدول غرب أفريقيا المتاخمة للساحل بالمشاركة مع حكوماتها حسبما تكشف تفاصيل الخطط الأمريكية. وعلى سبيل المثال، فقد عد صناع قرار أمريكيون، وفي مقدمتهم الرئيس جو بايدن، أن قانون الهشاشة العالمية Global Fragility Act (2019) يمثل أساسًا لاستراتيجية أمريكية جديدة في غرب أفريقيا، لمنع تمدد الصراعات من إقليم الساحل إلى دول جواره في الغرب الأفريقي؛ أو كما وصف السفير تيرينس ب. ماكولي "Terence P. McCulley"، المعني بشئون غرب أفريقيا، فإن تحديثات القانون "أرست أولوية جديدة في سياسة الولايات المتحدة لبناء السلام في خمسة دول في غرب أفريقيا، وهي حسب القانون: بنين وتوجو وغانا وكوت ديفوار وغينيا، مهددة بأزمات داخلية وعنف آخذ في الانتشار من إقليم الساحل المجاور".
وباستقراء ملامح الاستراتيجية الأمريكية وأطروحاتها المتكررة (على الأقل منذ العام 2019 وحتى تصريحات مايكل لانجلي في سبتمبر الفائت)، فيلاحظ غلبة الطابع السطحي أو التعميمي المفرط، دون وضع آليات محددة يتم الالتزام بها، على هذه المقاربة الأمريكية - نظريًا على الأقل وفق "قانون الهشاشة العالمي"- مع الدول الخمسة التي مثلت تجارتها الإجمالية مع الولايات المتحدة 3.86 بليون دولار (ويمثل الرقم أكثر من 13 ضعفًا لحجم تجارة واشنطن مع مالي وبوركينا فاسو والنيجر معًا)، لاسيما بعد تقييم ملفت لوكالة التنمية الأمريكية USAID، في العام 2021، باقتراب الأوضاع في تلك الدول نحو أوضاع مماثلة لاستدامة الأنشطة الإرهابية (كما الحال في الساحل).
أعلن البيت الأبيض في ربيع العام 2022 أن الدول الخمسة (إضافة إلى ليبيا وهايتي وموزمبيق وبابوا نيو غينيا) تمثل أولوية فائقة في جهوده في بناء السلام والاستقرار في الإقليم، وفق قانون الهشاشة العالمية، وضمن بند هام في هذه الاستراتيجية وهو "إصلاح مساعدات الأمن الدولية التي ربما يسرت دون قصد وقوع الانقلابات، واستهداف دعم الولايات المتحدة لبناء أمن إنساني وليس أمن الدولة"، وهو بند لم يوضح دور الولايات المتحدة في تقوية الدعم الدولي، وأضاف غموضًا حول مجمل رؤية واشنطن لدول الإقليم كبيئة حاضنة للانقلابات العسكرية.
في مطلع أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، بادرت الحكومة الروسية إلى اتهام كل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأوكرانيا ببذل جهود حقيقية وحثيثة لتدمير علاقاتها مع نيجيريا؛ كبرى دول غرب أفريقيا والقارة الأفريقية ديمغرافيا، عبر الربط بين الاحتجاجات التي تشهدها نيجيريا منذ أغسطس الماضي بروسيا، وما تزعمه عن ضلوعها في تأجيج هذه الاحتجاجات.
عززت الدول الغربية المذكورة اتهاماتها لروسيا على خلفية إلقاء السلطات الأمنية النيجيرية القبض على سبعة بولنديين "لتورطهم في إثارة الاحتجاجات"، لكن تم الكشف لاحقًا عن كونهم طلابًا كانوا في زيارة لنيجيريا. فيما لم يفت السلطات النيجيرية الإشارة إلى تورط مواطنين بولنديين في اتهامات مماثلة في مالي وبوركينا فاسو المجاورتين لنيجيريا. وتتسق اتهامات موسكو مع خطوات جادة أقدمت عليها الولايات المتحدة وحلفاؤها لمواجهة النفوذ الروسي في أفريقيا بشكل عام في الشهور الأخيرة؛ الأمر الذي يؤشر على وجود أساس لاتهامات موسكو تلك.
إن ما يبدو من عجز روسيا -حتى الآن- عن تصدير تجربتها الناجحة في جمهورية أفريقيا الوسطى إلى بقية الدول الأفريقية (التي باتت ترتبط معها باتفاقات دفاعية وأمنية)، يمثل حجة قوية للولايات المتحدة والغرب في مهاجمتها للنفوذ الروسي بشكل واضح. كما يتضح في التركيز الإعلامي والبحثي الغربي على فشل روسيا في اقتلاع الجماعات الإرهابية في كابو ديلجادو Cabo Delgado في شمالي موزمبيق، وعدم تنفيذها -حتى الآن- التزاماتها المعلنة لدى دول الساحل بتقديم حزم من الدعم العسكري والاقتصادي (عبر ضخ استثمارات كبيرة) وتركيزها الواضح على المقاربة الأمنية لمواجهة الإرهاب في تلك الدول، ما يعني تكرار تجربة الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة على مدار أكثر من عقد.
ومع صعوبة الوضع أمام روسيا في جبهة أوكرانيا، فإن امتداد خطوط المواجهة الروسية مع سياسات الدول الغربية في غرب أفريقيا سيزيد من فرص نجاح واشنطن في قيادة الهجوم على روسيا ومصالحها في الإقليم، على نحو متصاعد في الشهور المقبلة.
من الواضح أن المتغيرات الأخيرة، ومن أبرزها توقيع روسيا منتصف سبتمبر/أيلول الماضي اتفاقات هامة مع مالي وبوركينا فاسو والنيجر لإقامة قواعد اتصالات واستشعار عن بعد، ستمثل اختراقًا في المجال الاستخباراتي والتكنولوجي في إقليم غرب أفريقيا حال المضي قدمًا في تنفيذ تلك الاتفاقات على الأرض في وقت قريب.
ما سبق يفرض تعديلات عميقة على طبيعة المقاربة الأمريكية، باعتماد استراتيجية "جديدة" نوعًا ما؛ فقد انتشرت تقارير في سبتمبر/ أيلول الفائت عن وضع خطط عملية لإعادة انتشار القوات الأمريكية المغادرة للنيجر وتشاد وغيرهما من دول الساحل بها، وأن قيادة القوات الأمريكية في أفريقيا المتمركزة في مدينة شتوتجارت الألمانية بدأت بالفعل هذه العمليات "من أجل تعزيز جهود مكافحة الإرهاب". كما لفت الجنرال مايكل لانجلي، قائد أفريكوم، إلى أن قيادته لا تزال في المراحل المبكرة من إعادة تنظيم الانتشار العسكري الأمريكي "مع الدول ذات التفكير المشابه للوليات المتحدة"، وأبرزها بنين وكوت ديفوار وغانا. رغم ما أشار له محللون عسكريون أمريكيون من أنه ليس ثمة مؤشرات على سعي البنتاجون لاستبدال موقع قاعدته الجوية في النيجر التي تم إخلائها قبل أسابيع بموقع آخر في القارة الأفريقية ككل.
إن المرحلة الانتقالية الراهنة في واشنطن وطبيعتها -حتى وفق الشواهد السابقة بالنسبة لأفريقيا في هذا التوقيت على الأقل- لا تشي بإمكانية حدوث اختراقات تذكر في "الاستراتيجية" الأمريكية في غرب أفريقيا أو تغييرها قبل حلول عام 2025. وحتى تتحدد هوية الرئيس المقبل للولايات المتحدة فإن مراوحة استراتيجية واشنطن العسكرية هناك مكانها حاليًا ستظل الملمح الرئيس دون أية تغييرات تذكر، باستثناء حدوث متغير طارئ حال حدوث تقارب روسي- نيجيري مع تخوفات أبوجا التي لا تخفى من التمدد الأمريكي المرتقب في الإقليم، واحتمالات تعميق تهميش مكانة نيجيريا في الإقليم بعد سلسلة الانقلابات في الساحل، وعجز أبوجا، التي تقود الجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا "إيكواس"، عن التوصل لتفاهمات سلمية لحل مشكلات الإقليم.