تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الخميس 19 سبتمبر 2024

رأي

مصر والصراع في السودان.. ما بين الضغوط الخارجية ورهانات المصالح المصرية

31 أغسطس, 2024
الصورة
Siis and Burhaan
(تصوير الرئاسة المصرية/ نشرة/ وكالة الأناضول عبر غيتي إيماجز)
Share

  يمثل السودان خط الحماية الأول للأمن القومي المصري، متمثلا في حقوقها التاريخية في مياه النيل التي تعتبر شريان الحياة فيها. على هذا الأساس، وضع ملف علاقات السودان ضمن دائرة المخابرات، وربما يُفسر هذا، إلى حد ما، أسباب إصرار النُخبة السياسية المصرية على ضرورة استمرار الرؤية القائمة على فكرة التحالف الاستراتيجي مع المؤسسة العسكرية الوطنية.

   بناءً هذه المقاربة الأمنية بدأ الدعم المصري لقيادات الجيش، منذ أول انقلاب عسكري في السودان، بقيادة الجنرال إبراهيم عبود (1958) بعد سنتين فقط من الاستقلال، ثم الانقلاب الثاني بقيادة جعفر نميري (1969)، وبعده انقلاب سوار الذهب (1985)، ثم انقلاب البشير في أوائل أيامه(1989) قبل ظهور الحركة الإسلامية على المشهد السياسي، وأخيراً انقلاب البرهان (2021) الذي وجد الدعم الكامل من الحكومة المصرية. 

 تمكنت الحكومات المصرية المتعاقبة، من خلال هذه المقاربات الأمنية، من التحكُم في بوصلة توجيه العلاقة كما تريد، فضلا على حماية مصالح أمنها القومي، عبر تحالفها مع السُلطة العسكرية والأحزاب التقليدية والطائفية، بل ونجحت القاهرة في أن تكون الفاعل الأساسي في حل معظم الخلافات والقضايا والأزمات السياسية بين الفرقاء في الخرطوم.

ثورة ديسمبر والمقاربة الأمنية المصرية

 بعد نجاح ثورة ديسمبر 2019، تبدلت الأحوال والمعطيات في المشهد السياسي السوداني، خاصة مع بروز جيل جديد من النُخبة المدنية والسياسية، بقيادة تيارات شبابية ساهمت بدرجة كبيرة جداً في إنجاح ثورة ديسمبر، عبر شعارات مدنية ديمقراطية، تعمل على إبعاد العسكر من المشهد السياسي.

    منذ البداية، شعرت الأحزاب السياسية والكيانات والمنظمات المدنية الشبابية التي قادت الثورة بأن الخطر الحقيقي الذي يهدد مشروع التحول المدني الديمقراطي لثورة ديسمبر المجيدة يكمُن في محورين أساسين، هما: تحركات واجهات وعناصر النظام البائد العسكرية والأمنية ضد الثورة، واستمرار السياسات المصرية على نهجها القديم في السودان، القائمة على محاولة الإبقاء على نظام سوداني ضعيف، بقيادة العسكر مدعوم بحاضنة سياسية رجعية، تقدم مصالحها الذاتية على حساب الوطن. 

  كانت النوايا المصرية هي استمرار مقارباتها الأمنية في بناء علاقتها مع السودان، لهذا استقبلت العناصر العسكرية والأمنية والسياسية المسيطرة على المشهد السياسي قُبيل سقوط حكومة البشير. ومن أهم تلك القيادات الجنرال عوض بن عوف، رئيس المجلس العسكري المقال، والجنرال صلاح الدين عبدالله المشهور بـ "قوش"، آخر مدير لجهاز الأمن والمخابرات الوطني، والدكتور الطاهر محمد إيلا آخر رئيس وزراء حكم في ظل النظام البائد، والعديد القيادات العسكرية والأمنية والإعلامية التي تدين بالولاء لحكومة البشير.

   قوبلت هذه الخطوة المصرية بالكثير من السخط والاستهجان، من قبل الأحزاب السياسية والكيانات والمنظمات الشبابية الجديدة المسيطرة على المزاج العام في الشارع الثوري السوداني. فهذه الدوافع المصرية من وجهة نظرها، ليست سوى تأكيداً لمحاولات القاهرة المتكررة الإبقاء على نظام سوداني ضعيف، يسهل استغلاله والتحكم فيه. 

 صرح الكثير من القيادات السياسية والثورية المناهضة للسياسة الأمنية المصرية في السودان، بأنهم دائماً ما يؤكدون أن النُخبة المصرية تريد إعادة أقارب الساعة إلى الوراء، عبر تنفيذ سياسات تُحافظ على قواعد الدولة السودانية القديمة، والتي يُسيطر عليها العسكر عبر تحالفاتهم مع القوى التقليدية.

 ولا تتردد قيادات الشارع الثوري السوداني في اتهام الحكومة المصرية صراحة، بأنها تريد عرقلة مسيرة ثورة ديسمبر المجيدة، بعد أن ساهمت في صناعة ائتلاف "قوى الحرية والتغيير الجناح الديمقراطي" ليكون تيارا سياسيا موازيا لقوى الثورة، التي تقود الشارع السوداني ضد عسكرة المشهد السياسي بالبلاد. وكان له الدور الأكبر في انقلاب 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، الذي أطاح بالحكومة المدنية المسنودة من قوى الثورة. 

ومن أبرز التصريحات المنددة بالسياسة المصرية في السودان، نجد بيان ائتلاف "قوى الحرية والتغيير المجلس المركزي" بعد أن رفض الدعوة المقدمة له من القاهرة للمشاركة في ورشة التي انعقدت هناك، في فبراير/ شباط 2024، بعنوان "آفاق التحول الديمقراطي نحو سودان يسع الجميع".فقد اعتبرت هذه القوى أن الاتفاق الإطار يعد أساساً جيداً لعملية يقودها السودانيون، وأنها شكلت اختراقاً في مسار استرداد التحول الديمقراطي، ما يجعل الورشة متأخرة عن هذا السياق، وقد تجاوزها الزمن فعلياً. 

   كما صرحت، في ذات البيان، بأن ورشة القاهرة تشكل منبراً لِمَ سمته "قوى الثورة المضادة"، التي تسعى من خلالها إلى تقويض الجهود الشعبية السودانية في استعادة المسار المدني الديمقراطي. ختاما، أشارت إلى أن الموقف المصري من التطورات السياسية في السودان، بعد "ثورة ديسمبر المجيدة"، يحتاج إلى مراجعات عميقة، تتطلب تفاكراً حقيقياً على المستوى الرسمي والشعبي بين البلدين.

حرب أبريل والتدخل اللإقليمي والدولي

   بعد اندلاع الحرب بين قوات الجيش وقوات الدعم السريع غير النظامية في السودان، ومع اتساع دائرتها، وانعدام الرؤى في تحقيق نصر عسكري لأيُ طرف، وتصاعد تداعيات الأزمة الإنسانية التي أصبحت عابرة للحدود السودانية، برزت التدخلات الإقليمية والدولية في الصراع. هذه الظروف العسكرية والأمنية التي يشهدها السودان تُمثل ضربة كبيرة للأمن القومي المصري وحماية مصالحها في إقليم القرن الإفريقي بمفهومه الكبير. 

تحركت الدول والمنظمات الإقليمية والدولية لاحتواء الصراع في بداياته، وطرحت الإيغاد مبادرة سلام، ومبادرة الاتحاد الإفريقي، ومبادرة المملكة العربية في جدة، إلا أننا نلاحظ أن القاهرة لم تطرح أي مبادرة، وأعلنت أن موقفها من الحرب هو الحياد وعدم الانحياز لأي طرف على حساب الآخر. 

   كانت أولى محاولات القيادة المصرية احتواء الأزمة استضافتها قمة دول الجوار السوداني، وكان في يوليو/ تموز 2023، بأجندة تبحث في سُبل إنهاء الصراع وتداعياته السلبية على دول الجوار. عادت القاهرة مجددا في نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، لاحتضان "مؤتمر القضايا الإنسانية في السودان". وأخيراً، استضافت، في مايو/آيار 2024، مؤتمر بعنوان "وضع خارطة طريق للقوى السياسية السودانية" 

   لم تأتِ الجهود المصرية بنتائج إيجابية من شأنها أن تحسن صورة الموقف المصري من جميع أطراف النزاع المسلح في السودان، والسبب في ذلك راجع إلى عدة أسباب، منها: أن قيادة الدعم السريع ترى القاهرة حليفاً استراتيجياً للقوات المسلحة السودانية، وأنها الشريك الأول في دعمها لحرب أبريل/نيسان. كما تعتبر التيارات الثورية المناهضة لحكم العسكر أن جُل المبادرات المصرية هدفها الأساسي ابتدار عملية سياسية، داعمة لقائد الجيش الفريق عبدالفتاح البرهان، وتقويته وشرعنته سياسياً، وليست جهوداً موجهة للحل الشامل للأزمة السودانية.

   بناءً على ذلك الفشل في التعامل الصحيح مع أطراف الصراع، تراجع الدور المصري بصورة ملحوظة في الأزمة السودانية. وفي المقابل، كان هنالك تقدم ملحوظ في المبادرات الأخرى التي احتضنت المحادثات لحل الصراع السوداني، مثل: مبادرة جدة والإيغاد والمنامة، بالرغم من إخفاقها في كتابة كلمة النهاية للحرب في السودان.

   رغم ذلك الفشل، ظلت السلطة الحاكمة في مصر تراقب الوضع في السودان، وتُحاول معالجة الأزمة، وفقاً لتطورات الأوضاع المشهد العسكري والسياسي. وتمكنت من إقناع الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية بضرورة مشاركتها في محادثات المنامة، التي سعت فيها إلى إقناع الجيش بضرورة التوقيع على اتفاق وقف العدائيات مع قوات الدعم السريع. 

في هذا السياق، تفيد المصادر بأن الوفد المصري كان له الدور الأكبر في تهيئة الأجواء الإيجابية التي سادت محادثات البحرين، بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، بعد أن توصلوا إلى الكثير من نقاط التفاهم، التي يُمكن أن تشكل مدخلاً لحل الأزمة بصورة نهائية. 

 تواصل الحضور المصري بصورة إيجابية، في المشهد السوداني. لكن هذه المرة، عبر تدخل وزارة الخارجية المصرية، بقصد استخدام الطرق الدبلوماسية في الاستجابة لتداعيات الصراع المسلح، حيث أعلنت الوزارة عزمها عقد مؤتمر بعنوان "معاً لوقف الحرب في السودان". وقدمت الدعوة لكل الفرقاء السياسيين، بما في ذلك تيارات قوى الثورة. 

في هذا المؤتمر، اجتمع الفرقاء السياسيون في السودان، لأول مرة، في مبادرة واحدة، لتنجح  القاهرة بذلك في كسر الجمود بينها وبين التيارات التي كانت تعارض سياستها الأمنية في علاقاتها الثنائية مع السودان. بعد الاجتماع، أكد عبدالله حمدوك، رئيس وفد تنسيقية القوى المدنية الديمقراطية "تقدم"، في مؤتمر صحفي بأن زيارتهم كانت "مفتاحية"، موضحاً "أن رؤاهم تطابقت مع نظيرتها المصرية في مسألة عدم وجود حل عسكري، ولا مخرج من الأزمة إلا بالحوار السياسي، والجيش المهني الواحد الذي يحفظ وحدة البلاد واستقرارها، وينأى عن السياسة".

جنيف وفرصة صعود الدور المصري مجددا في السودان

   بعد فشل جميع المبادرات والمنابر الدولية والإقليمية في إسكات أصوات البنادق في السودان، ومع الظهور الروسي والإيراني على خط الصراع السوداني، وقرب الانتخابات العامة في الولايات المتحدة، بدأت الأزمة تأخذ حيزاً أكبراً في مراكز صنع القرار بأمريكا. بعد إظهار واشنطن رغبتها الحقيقية في زيادة حجم التفاعل المصري في المشهد السوداني، بقصد تسريع جهود حل الأزمة، مطالبة إياها بدعم جهود وقف الحرب في السودان.

   هكذا أضحت الولايات المتحدة تنتظر أن تلعب مصر دوراً كبيراً في إنجاز مهمة محادثات جنيف الأخير، بالوصول إلى اتفاق وقف العدائيات، وإطلاق نار شامل بين طرفي الصراع في السودان. وربما تلقت الولايات المتحدة وعودا من القاهرة، تتعلق بقدرتها على إقناع الجيش في المضي قدماً نحو اتفاق سلام شامل في الأزمة السودان. 

يستشف ذلك من بيان الخارجية الأمريكية الذي جاء فيه "إنها ناقشت مع مصر الجهود المتواصلة لإنهاء الحرب في السودان، كما رحبت بمشاركة مصر الفعالة في محادثات سويسرا". كما يتضح أكثر من تصريح المبعوث الأمريكي، توم بيريلو، عن أسباب عدم مقابلة وفد بورتسودان، حين قال: "أنه وضمن شراكتنا الوثيقة والمستمرة مع مصر في جهودنا لإنقاذ الأرواح في السودان.. الخ". 

لهذا لم تكترث الإدارة الأمريكية كثيراً إلى غياب وفد الجيش السوداني في محادثات جنيف، طالما أن وفد القاهرة موجود هناك. خاصة في ظل المجهود الكبير الذي تبذله مصر، من أجل إقناع الجيش، سواءً كانت عبر مقابلة الوفد الأمريكي في القاهرة والتي فشلت، أو من خلال زيارة رئيس المخابرات المصري عباس كامل إلى بورتسودان.

   تعلم السلطات المصرية جيداً أن نجاحها في إقناع القيادات العسكرية بالذهاب إلى جنيف، ومن ثم توقيع اتفاق وقف العدائيات وإطلاق النار الشامل مع قوات الدعم السريع، يعني أنها ممسكة بخيوط من شأنها تشكيل المشهد السياسي السوداني، في فترة ما بعد الحرب مباشرة. والعكس أيضا صحيح، فكُلما فشلت القاهرة في إقناع الجيش بتوقيع الاتفاق، فهذا يعني أنها تبتعد شيئاً فشيئاً عن تشكيل المشهد السودان ما بعد الحرب، وبالتالي تعرض أمنها القومي للخطر الأكبر.