تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الجمعة 22 نوفمبر 2024

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
رأي

زيارة آبي أحمد للسودان: السياق والدلالات

14 يوليو, 2024
الصورة
لقاء آبي أحمد لرئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح برهان بمدينة بورتسودان
لقاء آبي أحمد لرئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح برهان بمدينة بورتسودان
Share

أجرى رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد زيارة رسمية لرئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح برهان بمدينة بورتسودان، العاصمة الإدارية المؤقتة، بعد سيطرة قوات الدعم السريع على العاصمة الخرطوم، بعد اندلاع القتال بين الطرفين في العاصمة، وانتقاله إلى مناطق أخرى. حملت هذه الزيارة طابعا خاصا، فهي أول زيارة لزعيم افريقي إلى السودان، في ظل استمرار الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع لأكثر من 15 شهرا، وعقب الانتصارات الأخيرة للجيش السوداني.

ما يبدو زيارة مفاجئة وعادية، تحمل في طياتها عكس ذلك، رغم قلة الأخبار التي تسربت عن هذا اللقاء، حتى توحي صور اللقاء بالابتسامات العريضة المتبادلة بين البرهان وآبي أحمد، فتوحدت مخرجات المباحثات الثنائية على دعوات لإعادة تنشيط جهود التسوية بين الفرقاء السودانيين. فهي محطة جديدة للبلدين بعد خلافاتهما السابقة، وتأكيد على عمق العلاقات بين البلدين، كما أنها فرصة لترتيب الأوراق الداخلية للجانبين، فلعلها فرصة للجانب السوداني لعلاقات متميزة مع أديس أبابا، كما هي محطة أساسية لإثيوبيا لتعزيز دورها الإقليمي.

زيارة مفاجئة

رحب عبد الفتاح البرهان بزيارة آبي أحمد، فكان حريصا على الاستقبال الرسمي لضيفه، لدلالتها الرمزية وأهميتها، وسجلت الزيارة تحت عنوانها المؤازرة والتضامن الإثيوبي مع الشعب السوداني. خصوصا، وأنها تأتي في خضم تحولات محورية على الميدان، مع استمرار القتال بين قوات الدعم السريع التي تسيطر على العاصمة الخرطوم ووسط وغرب البلاد، فيما يسيطر الجيش على الولايات الشرقية والشمالية، والتحولات عقب الانتصارات التي حققها الجيش السوداني، وفي ظل امتداد المواجهات بين طرفي النزاع في مناطق أخرى. وتنامي المخاوف من تداعيات الصراع على المدنيين استهدافا ونزوحا؛ فتم تسجيل نزوح أكثر من 10 مليون شخص في السودان بسبب القتال، ناهيك عن التدهور المستمر لأحوالهم المعيشية، فالأزمة الإنسانية المتفاقمة، تؤكدها تقارير عدة، وتحذيرات رؤساء ووكالات الأمم المتحدة من أن السودان يواجه كارثة جوع غير مسبوقة، ومخاوف من تهديد استقرار المنطقة ككل.

شدد آبي أحمد على أن زيارته بمثابة تأكيد على وقوف اثيوبيا مع السودان، معتبرًا بأن "الأصدقاء الحقيقيين  يظهرون وقت الشدة"، ومن جانبه، غرد البرهان على حسابه الرسمي على منصة "إكس" منوها بالزيارة، ودعوات بالشكر للدكتور آبي أحمد على الدعم والتضامن مع الحكومة والشعب السودانيين، بينما غرد آبي أحمد على حسابه "بأن التحديات التي يواجهها شعب السودان هي تحدياتنا، وسلامهم سلامنا، فإننا ملتزمون بالعمل من أجل إغاثة الشعب السوداني وازدهاره".

وصفت الزيارة بالمفاجئة، لأنها جاءت بعد أشهر على تصريحات رئيس الوزراء الإثيوبي يبدو فيها الأقرب إلى قائد الدعم السريع، محمد حمدان دقلو الملقب بحميدتي، منه إلى الجيش السوداني. فكانت مؤشرا يؤكد حجم الخلافات الخفية مع الجانب الرسمي السوداني، لاسيما بعد تصريحاته المثيرة للجدل على هامش قمة إيغاد لبحث حل الأزمة السودانية "بأن السودان يعاني فراغا في القيادة"، ودعوته "لفرض منطقة حظر طيران ونزع المدفعية الثقيلة..."، والتي اعتبرت حينها دعما لحميدتي. وعززت زيارة هذا الأخير لأديس ابابا، في دجنبر/ كانون الأول الماضي ذلك، فكان مؤشرا على الانحياز لجهته بعد الاستقبال الرسمي له. ثم جاءت هذه الزيارة، لإعادة تثبيت الرؤية الإثيوبية على قاعدة الحياد بين طرفي الصراع، وتجديد التضامن والدعم للسودان، وكمحاولة للعودة للتسوية السياسية بين طرفي الصراع السوداني.

من المؤكد بأن الخلافات بين البلدين لا تنكر حجم العلاقات الممتدة بينهما، وفي هذا السياق اعتبر آبي أحمد بأن "الحرب ستنتهي وستبقى العلاقات بين البلدين راسخة ووطيدة"، ولا تعدم التقاطعات بين البلدين في ملفات كثيرة الدور الأساسي لإثيوبيا، خاصة بعد سقوط النظام السابق، والدور الشخصي لآبي أحمد قصد تقريب وجهات النظر، بين قوى إعلان الحرية والتغيير والمجلس العسكري الانتقالي، والتي توجت بالتوقيع على الاتفاق الإطاري لحل الأزمة السياسية السودانية. ما يجعل المحادثات الأخيرة محاولة لإعادة تجديد المساهمة الإثيوبية في تسوية سياسية للأزمة السودانية.

سياقات الزيارة

تأتي الزيارة من أجل تعزيز العلاقات التاريخية الممتدة بين البلدين، والتي تستحضر تحديات المواجهات الحدودية السابقة على المناطق المتنازع عليها، ومزاعم بانخراط قوات إثيوبية في الحرب السودانية. ومن المؤكد بأن الترحاب الأخوي بين الطرفين، والتصريحات الدبلوماسية تخفي وراءها أشياء كثيرة. وبالموازاة مع ذلك، تحمل دلالات على التحول في الموقف الإثيوبي، أو على الأقل الرغبة في إعادة تعزيز دور أديس أبابا لحلحلة الأزمة السودانية، انسجاما مع الرؤية الإثيوبية لريادتها إقليميا.

تعد الزيارة كذلك محاولة لإعادة تصحيح المواقف الإثيوبية السابقة، على ضوء التحولات الميدانية الراهنة، لاسيما أنها ارتبطت مبدئيا بالانتصارات العسكرية للجيش في مناطق كثيرة. مقابل تقدم قوات الدعم السريع، الشهر الماضي، في منطقة جنوب شرق البلاد. توجت بسيطرة قوات الدعم السريع على موقع ومدن حدودية لأهميتها الاستراتيجية، ولقربها من الحدود السودانية مع اثيوبيا. فحملت المحادثات في مجملها دعوات لإعادة فتح باب التسوية المتعثر، وزكاها أكثر التقاطع مع زيارة نائب وزير الخارجية السعودية، لمحاولة إعادة تنشيط مبادرة جدة. ما يؤكد بأن الزيارة محاولة إثيوبية للبحث عن تقارب وجهات النظر بين الجيش وقوات الدعم السريع، في أفق تسوية سياسية للأزمة السودانية.

من المؤكد بأن تمدد المواجهات إلى الحدود بين البلدين، أعادت إلى الواجهة الصراع الحدودي في منطقة الفشقة، المتنازع عليها بين البلدين منذ عقود. وشهد قبل أربع سنوات موجة من الاشتباكات المسلحة، أسفرت عن قتلى من الجانبين، وتبادل الاتهامات حول المسؤولية عنها، ووصلت حد استدعاء السودان للسفير الإثيوبي للاحتجاج، وتحركات عسكرية مكنت من استعادة الجيش السوداني سيطرته على أجزاء مهمة من المنطقة. فقبل أيام قليلة من زيارته هاته، أعاد آبي أحمد في البرلمان الإثيوبي للواجهة النقاش حول تلك المناطق، فصرح بأن استعادتها مسألة وقت فقط. واستدرك بأنه لن يستغل الحرب لتسوية القضية، ويطمئن بأن بلاده لا تريد حربا مع السودان.

يتضح بأن التحديات التي يواجهها البلدين تتجاوز حدود النزاع الحدودي، فتعاظم تحديات الحرب الأهلية السودانية، تلقي بكاهلها على الجوانب الإنسانية أمام تدفق اللاجئين لدول الجوار، وفي مقدمتها اثيوبيا، وتتعزز المخاوف من انهيار المؤسسات والمنشئات المدنية والتهديدات الأمنية المصاحبة لتمدد الحرب إلى مناطق جديدة. وتتزايد المخاوف الإثيوبية من تداعياتها الإنسانية بتدفق اللاجئين للداخل الأثيوبي، وتعززها مخاوفها الأمنية من تدفق الأسلحة إلى المقاتلين الإثيوبيين على الجانب الآخر من الحدود، بالإضافة لمخاوف من تداعيات استمرار الأزمة السودانية على المنطقة.

دلالات الزيارة

المحادثات الدبلوماسية ببورتسودان أرادها آبي انطلاقة لجهود دبلوماسية العودة لطاولة المفاوضات بين طرفي الصراع بالسودان. كما أنها بالنسبة للجانب السوداني الرسمي التفافة بهذه الزيارة المفاجئة، ودليل على تحولات في الموقف الإثيوبي من الدعم لقائد قوات الدعم السريع، إلى إرساء قاعدة الحياد بين طرفي النزاع. لكنها قبل ذلك، وفق إرادة عبد الفتاح البرهان، تُعد اعترافا بالشرعية السودانية.

تتعاظم الرغبة الإثيوبية في إعادة تنشيط جهود التسوية بدور محوري لآبي أحمد، مستحضرا من جهة نجاحاته السابقة. ومن جهة ثانية، تعثر كل محاولات الوساطة الدولية والإقليمية. فجاءت الزيارة ساعات قليلة بعد محاولات سعودية لإعادة تنشيط مباحثات منبر جدة، كما تقاطعت مع تعثر المحادثات التي يرعاها الاتحاد الإفريقي للحوار حول عملية سياسية بين الفرقاء السياسيين، وتصادفت الزيارة مع الاستعداد لانطلاق محادثات جنيف الأممية لوقف إطلاق النار، وبحث تسوية سلمية للأزمة.

هي إذن فرصة لإعادة ترتيب العلاقات بين البلدين، وإحياء الدور الإثيوبي بالمنطقة، لتجاوز الانتكاسة بعد الصراع في تيغراي (2020-2022)، فالزيارة ترتبط بمحاولات إثيوبيا لإعادة تنشيط دينامية تحركاتها الدبلوماسية بالمنطقة لقطع الطريق أمام منافسيها. وفي مقدمتها مصر، فبالإضافة إلى معضلة ملء سد النهضة، اعتبرت هذه الزيارة محاولة اثيوبية لاستبعاد الجهود المصرية للوساطة في الملف السوداني، تستند هذه الرؤية بأن الزيارة أعقبت اجتماعات القوى السياسية المدنية في القاهرة، مما يعزز محاولات آبي أحمد قطع الطريق على هذه الجهود المصرية ومحاولاته لإعادة تنشيط جهود أديس أباب لبناء السلام بين طرفي النزاع، لكنها لا تستبعد باقي المنافسين.

وفي سياق متصل، يمكن اعتبار هذه الزيارة أولى الردود الإثيوبية على المحاولات الكينية لقطع الطريق على مساعي نيروبي للزعامة الإقليمية في القرن الافريقي، مستغلة زيارة الرئيس وليام روتو قبل شهر لواشنطن، وترقية كينيا كحليف للولايات المتحدة الأمريكية من خارج حلف شمال الأطلسي، والتي كانت حافزا على التحرك لمنافسة الدور الاثيوبي، ومحاولة البحث عن دور في السودان. وبعد الاحتجاجات الدموية الأخيرة بإثيوبيا، يبدو أن آبي أحمد استغل هذه الظرفية الداخلية الحرجة بنيروبي، لإعادة تنشيط تحركات الدبلوماسية الاثيوبية لمحاولة محاصرة الطموحات الكينية، وإعادة ترسيخ دور أديس أبابا الإقليمي، وبهذا يشكل الملف السوداني المحطة الأساسية لهذه التحركات. مما يؤكد بان زيارته والوفد المرافق له للسودان لم تكن فقط زيارة لتعزيز التعاون بين البلدين، إنما كانت تقديرا اثيوبيا لأدوارها الإقليمية وترقية لتحركاتها الدبلوماسية بالمنطقة في ظل محدودية المحاولات الإقليمية والدولية لإنهاء الأزمة.

بالمجمل، يمكن للزيارات المفاجئة أن تكسر حاجز الصمت، لكنها تستدعي دائما إيجاد مساحات جانبية للاشتغال بين الطرفين. فبين مراسيم الاستقبال والوداع الرسمية لآبي أحمد، كانت زيارته للبرهان فرصة لاستحضار التحديات التي يواجهها السودان والحاجة إلى سلام مستدام، ومحاولة لتذويب معالم القطيعة بينهما في أفق بناء مساحات للتقاطع والنقاش بين البلدين. فهل ستزهر الشجيرات التي زرعها الطرفين خلال الزيارة، بما يحقق ازدهارا وتنمية واستقرارا للبلدين وبالمنطقة؟