الخميس 14 نوفمبر 2024
تجرى يوم الأربعاء (13 نوفمبر/ تشرين الثاني) الانتخابات الرئاسية والحزبية، في مشهد نادر حدوثه بمنطقة القرن الأفريقي، تجتمع فيه عناصر تمنح هذه الانتخابات صفة "المصيرية"، لأسباب سوف نكشف عنها تباعا.
شهدت البلاد أزمات حادة تحت قيادة الرئيس الحالي، موسى بيحي عبدي، منها أزمة تأجيل الانتخابات في 2022، وازدياد العنف السياسي والقمع، وتراجع الحريات، واعتقال شخصيات بارزة في المعارضة. فضلًا عن الاستياء الشعبي جراء تراجع الأوضاع المعيشية. إضافة إلى إخفاق بيحي في تحقيق وعده بنيل الاعتراف الدولي، بعد توقيع مذكرة التفاهم مع إثيوبيا، وسوء إدارة الأزمة الكارثية في لاسعانود.
ظهر جيل من الشباب نشأ في ظل حزب كولميه، وفتح أعينه على صوماليلاند كدولة، ومعظم هؤلاء لم يشاركوا في انتخابات عام 2010. لكنهم عايشوا حياته في ظل هذا الحزب، فأتت الآن فرصة المعارضة. تصادف هذا مع صعود نجم وسائط التواصل الاجتماعي، مثل فيسبوك الأكثر استخداما من فئة الشباب، يليه تيك تيك الذي عمل ثورة للتنفيس عن مشاكله الاجتماعية والسياسية.
تتردد على الألسن كلمة التغيير، وضرورتها، فما هو التغيير المطروح من قبل "قوى التغيير"؟ حتى اللحظة لا وضوح بهذا الشأن، أو حتى مجرد تعريف وافي لمفهوم التغيير الذي يطرحونه. إذا كان شعار "قوى التغيير الفيسبوكية" قد شكّل رافعة للحزب المعارض "وداني"، فإن الولاء التقليدي شكّل بدوره قاعدة متينة للأحزاب كي تحافظ على نفسها في هذه المرحلة، فهذا يعني شيئا واحدا هو أن عامل "التغيير" ليس حكرَا على أحد. وما زلنا نمتلك كشعب إمكانيات لإحداث التغيير، وحمل لوائه مهما كانت الظروف، مع ضرورة التنبيه إلى أن التغيير المنشود لا يكون مطلقاً في مجتمع تركيبته معقدة، وأن السعي نحو التغيير الجذري فيه مهمة شبه مستحيلة.
تتنافس ثلاثة أحزاب في الانتخابات الرئاسية، وهي: حزب كولميه (التضامن) الحاكم، بقيادة الرئيس موسى بيحي عبدي؛ وحزب وداني (الوطني)، بمرشحه الرئاسي عبد الرحمن محمد عبد الله (عرو)؛ وحزب العدالة والرفاهية (UCID)، برئاسة فيصل علي حسين (وارابي).
يعد عبد الرحمن عرو و موسى بيحي؛ الرئيس الحالي، المرشحان الرئيسيان في هذه المحطة الانتخابية، وهما وجهين مألوفين في صوماليلاند. فقد سبق للرجلين أن تنافسا مسبقًا في انتخابات عام 2017، ويتنافسان مجددا، ربما، على تنفيذ سياسات خارجية متباينة حول مذكرة التفاهم مع إثيوبيا. ومع ذلك، فهما يمثلان مصالح عشائرية في المقام الأول، يستفيد منها الحزب المعارض، فيما يحاول الرئيس بيحي التشديد على أنه من المحاربين القدماء الذين قادوا عملية استعادة الاستقلال من الصومال.
كذلك، وللمرة الأولى في تاريخ الانتخابات في البلاد، سيشارك المواطنون في انتخابات حزبية مباشرة، حيث سيختارون ثلاثًا من الجمعيات السياسية السبع المؤهلة (أورو) للتنافس على استحقاق وضع الحزب الوطني للعقد القادم.
ينصّ دستور على أنّ "عدد الأحزاب السياسية يجب ألا تتجاوز الثلاثة"، ويوضح قانون "تنظيم الجمعيات والأحزاب السياسية"، لعام 2011، آليات تطبيق ذلك، من خلال عقد انتخابات الجمعيات السياسية كل عشرة أعوام. وتتأهل الجمعيات الثلاث المتصدرة للنتائج، لتصبح أحزابا سياسية مُعترفا بها، بذلك تمتلك الحق الحصري في التنافس في كافة الاستحقاقات الانتخابية.
تسبب الرئيس الحالي بأزمة سياسية في البلد، جراء تأجيله المتعمد للانتخابات. لكن حزب وداني الذي ينال تصفيق الجميع الآن، أسس جبهتين مسلحتين لتحقيق أغراض سياسية، وكأنه يعمل بشعار لينين "خطوة إلى الأمام خطوتان إلى الوراء" في مسيرة الانتقال الديمقراطي في البلد. لكن، وبالرغم من كل ذلك، يمكن القول، أن هذا الحزب يقدم نفسه البديل الوحيد، مستغلاً خيبة الأمل العامة من إدارة بحيي، من خلال شعاراته المعروفة "walaalayn/الأخوية"، التي لقيت صدى في معاقل الحزب الحاكم.
تعاني الساحة السياسية من شيخوخة النخب السياسية، فسبعة من عشرة مترشحين للأحزاب شغلوا في الأحزاب الموجودة. والإشكال ليس حكرا على وجودهم المسبق في الساحة السياسية، بل على احتكارهم السياسة خدمة لأجنداتهم الخاصة التي يمكن وصفها ب "اللا أجندة". فكل ما يتقنه الواحد منهم هو توظيف سياسات الهوية منقصد بناء شبكة تحالفات، ثم الترحال بين الأحزاب يمنة ويسرة، ويبقى التغيير ذاك الوعد غير الموفى به دوما.
تجري هذه الانتخاب في سياق مختلف في صوماليلاند، فقد شهدت الجمهورية المعلنة من طرف واحد صراعا أهليا مريرا، كان بالإمكان تلافيه، لولا قيام الشرطة بفتح النار على المتظاهرين الغاضبين من اغتيال السياسي عبد الفتاح هدرواي، الذي كان عضوا في حزب وطني، والمنحدر من إقليم سول. قبل أن يتطور الموقف، بتحوله إلى صراع معلن ضد مشروع صوماليلاند، وإعلانهم الاستقلال منها.
واقعيا، لا يملك أي من الحزبين الكبيرين خطة واضحة المعالم لمواجهة هذا الوضع. فقد تحدتث المعارضة عن عزمها فتح باب الحوار، لكن الأمر يبقى مجرد تكتيك مؤقت فقط. مقابل ذلك، يتوعد الحزب الحاكم بالحرب، التي يجمع الصوماليون على أنهم في غنى عنها لإقامة نظام سياسي مستقر، واستخدام النظام الحالي لقوات عشائرية خطوة مجنونة. ما يعيد سؤال الدولة إلى المربع الأول، ويشجع على إشعال بؤر الاقتتال الأهلي، خاصة في ظل وجود مثل هذه الظروف.
تتعلق المسألة الثانية بمذكرة التفاهم مع إثيوبيا، والتي أحدثت الكثير من الضجيج في المحيط الإقليمي، فالظاهر أن كلا من الحزبين المتنافسين يمتلكان تصورات مختلفة حول هذه المسألة، فالحزب الحاكم يشدد على تنفيذ تصوره لتحقيق التنمية، فيما يتحفظ الحزب المعارض من تبعات ما قد ينتج عن ذلك.
لكن يجب القول، إن بيحي لم يحقق مبتغاه من مذكرة التفاهم المعلنة، إذ المفترض أن يستعرض التفاصيل منذ البداية أمام الشعب، ومجالسه المنتخبة وأمام الرأي العام. لكن ذلك لم يحدث، بسبب تعاطيه مع الدولة كأنها ملك خاص به، بالرغم من كونه محاربا قديما ضد الاستبداد. لكنه اليوم يفضل ممارسة ذات الاستبداد ضد الصحافة والرأي العام، بل يسفهها في أحاديثه.
لا يمكن أن يتوقع المرء الشيء الكثير بشأن الانتخابات، فالمنظومة السياسية، بما في ذلك الأحزاب والرئاسة، بلغت نقطة تتطلب انسلالا من عنق الزجاجة، وتجنب الحرب الأهلية الداخلية. من الجيد أن نذكر أن الحزب المعارض، الذي يستعد لتولي الحكم، انتهج طريق العنف المسلح لتحقيق أغراض سياسية. فكما سبق الذكر، تورط بتشكيل جبهتين مسلحتين للمساومة بأمور سياسية وقانونية، ما يشكل سابقة خطيرة في الممارسة السياسية في البلد، وهذا تحديدا ما يحتم الحذر بعدم الانخراط في دعايته الانتخابية.
يُثبت الواقع السياسي وجوب إحداث تغيير حقيقي، يطال بنية النظام السياسي القبلي، باعتباره الراعي الفعلي للعملية السياسية بكل تجلياتها، خصوصاً وأن المتغيرات الحقيقية التي أصابت البنى الاجتماعية، شكّلت موقف اعتراض صامت عند البعض من السياسة، أو الترحال السياسي بين الأحزاب ذهابا وإيابا (سياحة حزبية). وكان آخرها تصريحات النائب مختار ميداني، الذي عبَّر عن لا جدوى الأحزاب السياسية في البلاد.
يتجه المزاج العام حاليا، لإحداث تغيير في البلد، وهو مزاج في محله. ما يجعل فوز مرشح حزب وداني ممكنا، لا بل ضروريا. فوز لن يعوقه ترشح عبد الرحمن عيرو، بقدر ما يمنحه دفعة خاصة، لا سيما بين فئات سئمت من النظام الحاكم، لا سيما شريحة الشباب. في المقابل، سيشكل الأمر خسارة سياسة لحزب كولميه، أو لنقل فشلا في سياسات صوماليلاند في بناء دولة حقيقية إبان حكم الحزب.
إن التذمر من الوضع العام هو ما يعجل بفوز مرشح المعارضة عرو، وليست البدائل السياسية التي يطرحها الحزب. فالمتصفح للبرنامج الانتخابي للحزب لا يجد فيه ما يغري بالتصويت، فكل ما فيه ترديد لما كان يقال عند كل موسم انتخابي، فلا جديد يذكر سوى الحرص على تبرئة الذات من تهمة العلاقة مع الفيدرالية بشدة، والتي يزايد بها عليهم الحزب الحاكم في دعايته الانتخابية.
ثمة أساس للقول هنا، وهو أن صوماليلاند نججت في بناء أساس ديمقراطي ونموذج تصويت حر، يتيح للمواطن إمكانية إحداث تغيير، وهذا غير متاح في الكثير من دول الجوار، وشبه مستحيل في الساحة العربية. منجز جيد علينا التمسك به، بتصويت كل فرد لما يراه خيارا مناسبا. لكن بالموازاة مع ذلك يتعين علينا السعي وبقوة لإذكاء النقاش حول التغيير. فعملية "التغيير" التي تقودها جوقة من رواد السوشيال ميديا من الكتاب (أتحفظ على وصفهم بالمثقفين)، يجب أن لا تعمينا عن المعضلات القائمة، والتي تهدد وجود صوماليلاند ككيان.
إذا جاز لنا هنا تقديم بعض المقترحات، لتجويد العملية السياسية، فأجدني مضطرا لإعادة ما كتبته إبان انتخابات 2017، وأختصرها في ثلاث نقط أساسية:
•أولا؛ حل مجلس الشيوخ، واستبداله بغرفة منتخبة مثل باقي المجالس. فهو سرطان الانتقال الديمقراطي في صوماليلاند.
•ثانيا؛ فتح المجال السياسي للترشح الفردي في المجالس، وعدم حصرها على نظام الأحزاب.
•ثالثا؛ منع الترحال الحزبي، ففي حال استقال النائب من الحزب أو القائمة أو الائتلاف الانتخابي الذي ترشح فيه أو الكتلة التي انضم إليها، فالمنطق يقتضي أن يفقد بشكل آلي صفته نائبا للشعب.
لا شك أن هذه الانتخابات تمثّل اختبارًا لمدى تجذر الديمقراطية والتداول السلمي على السلطة في صوماليلاند، وتأتي في ظروف إقليمية ودولية مضطربة، وفي ظل خلافات شديدة مع الصومال الفيدرالي، ما يجعلها تحظى بمتابعة واسعة من العديد من المراقبين الإقليميين والدوليين. كما أنها تمثل، وللمفارقة العجيبة، فرصة لرؤية مدى قدرة المنظومة السياسية في البلد على تطوير مناعة مقاومة التغيير. فالنخب هناك تتصرف مثل الأعشاب الضارة التي تتناسل من بعض البعض.