تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الخميس 19 سبتمبر 2024

فكر

قصة الاغتيال الغامض للدبلوماسي المصري كمال الدّين صلاح في مقديشو

12 سبتمبر, 2024
الصورة
salah
Share
شهد العام 1957 اغتيال دبلوماسي مصري غامضٍ في مقديشو. وأثار التحقيق الذي أجرته الشرطة بعد ذلك توترات خطيرة داخل الحركة القومية الصومالية، ولكنه كشف أيضاً عن هشاشة الدولة الكولونياليّة.

في حدود السّاعة 12:45 دقيقةً من السادس عشر من إبريل/نيسان 1957 عبر كمال الدين صلاح بفِناءٍ هادئٍ في قلب العاصمة مقديشو. كان الدبلوماسي المصري يرتدي بدلة وربطة عنقٍ على نحوٍ أنيقٍ، وقد ترأس للتّو اجتماعاً للمجلس الاستشاري للأمم المتحدة في الصومال؛ وهو هيئة دولية أُعدّت للإشراف على المستعمرة الإيطالية، وتحضيرها للاستقلال السياسي. وحدث أنّه من المقرر أن يلتقي بالقنصل المصري قبل الغداء، وبينما كان صلاح ينتظر في الفناء، دنا منه شابٌ وأطاحَهُ أرضاً. راقب المارّةُ مذعورين المهاجمَ يطعنُه عشرَ مرات، ممزّقاً كبده ورئتيه، ثمّ يتولّى عنه نازفاً على الأرض. أسرعَ به موظفو القنصلية إلى المستشفى، لكن بعد فوات الأوان، فقد توفيَّ دقائق بعد وصوله.

ما تزال دوافع الاغتيال مبهمةً؛ فقد رأى البعض في المسألة تصفيّةَ حسابات شخصية، وحاجج آخرون بأن اغتياله كان انتقاماً من مصر على إثر محاولاتها التدخل في السياسة القومية الصومالية. حاولت الشرطة عبر تحقيقات طويلة تسوية القضية نهائياً، بيد أنّ الشهادات المتضاربة، والأدلة المفقودة، والمحاكمة الجنائية الفوضوية لم تضف شيئاً سوى تعميقِ التوترات القائمة.

تلاعب الساسة والدبلوماسيون والشخصيات العامّة في الوقت بإرث صلاح، خدمة لقضاياهم الخاصّة. أمّا الصوماليون العاديون فقد احتشدوا في الشوارع احتجاجاً على الاغتيال، وانتقدوا الكثير منهم مصر بشدّةٍ على محاولة فرض سيطرتها على الحركة القومية. وما اقترب يوليو/تمّوز 1957 حتّى وجدت السلطات الإيطالية في الصومال نفسها مضطرةً للاعتراف بأن الوضع تجاوز سيطرتها. فقد جاء اغتيال كمال الدين صلاح بأزمةٍ سياسية، هددت أسس الدولة الاستعماريّة بحدّ ذاتها.

عكست هذه الأزمة الوضع السياسي غير المعتاد في صومال أواخر فترة الاستعمار، فالمنطقة الواقعة بين باري وجوبالاند كانت مستعمرة إيطالية في البداية، وخلال الحرب العالمية الثانية أصبحت أرضية لغزو إثيوبيا، وغدت تحت احتلال بريطانيا عام 1941. بعد انتهاء الحرب، لم تتوصل القوى المتحالفة المنتصرة إلى اتفاق يحدد مستقبل المستعمَرة، لتقع في النهاية تحت إدارة مجلس الوصاية التابع للأمم المتحدة عام 1950، الذي دعا الحكومة الإيطالية للرجوع وإدارة المنطقة نيابةً عنه. سوى أنّ الأمم المتحدة حافظت على حضورها، وذلك بتشكيل مجلس استشاري من ثلاث دول أعضاء - الفلبين، كولومبيا، مصر- يشرف على "إقليم صوماليلاند الخاضع لوصاية الإدارة الإيطالية" المتشكّل حديثاً، ويشجّعُ على الإصلاح السياسي، ويتأكد من أنّ المنطقة تحكم وفقاً للمعايير الدولية.

رأى مسؤولو الأمم المتحدة في نظام الوصاية وسيلةً لتشجيع التطور السريع للمجتمع الصومالي. وعليه، كُلّف المسؤولون الإيطاليون بتطوير الاقتصاد الصومالي، وإدماج آلاف المسؤولين المحليين في الإدارة الكولونيالية. كما طالبت اتفاقية الأمم المتحدة الإدارة الإيطالية "بالدّفع نحو تطوير مؤسسات سياسيّة حرة"؛ وهو ما جاءت نتيجته على شكل أوّل انتخابات بلدية في الصومال عام 1954، وأوّل انتخابات برلمانية عام 1956.

نذكّر أيضاً أنّ الأمم المتحدة حددت موعداً نهائياً لاستقلال الصومال؛ عام 1960، وأعلمت المجلس الاستشاري بالسهر على تحقيق ذلك في الوقت المحدد. لكن هذه الأخلاقويّة الكولونياليّة غالباً ما تتراجع على الأرض، أمام خطابها الأبوي؛ إذ بقى المسؤولون الإيطاليون الذين يعيشون في هذه المجتمعات المنفصلة وظيفيّاً، يهيمنون على المؤسسات المالية والقانونية والسياسية في الإقليم، بينما قُزّم دور البرلمان الصومالي إلى دور استشاري فقط. ومع اقتراب الاستقلال، رام المسؤولون الإيطاليون عقد تحالفات مع الساسة الصوماليين لتسهيل نقل السلطة والاحتفاظ بمستوى من النفوذ في النظام الجديد.

لم تكن إيطاليا الدولة الوحيدة التي حاولت التأثير على السياسة الصومالية، ففي عام 1950، كانت مصر قبلة للمجلس الاستشاري. فقد تحالفت، خلال عهد الملك فاروق، الأمة الصوماليّة مع المملكة المتحدة والقوى المتحالفة الأخرى، لكن انقلب مجموعة من ضباط الجيش على فاروق عام 1952، سعياً إلى تحديث البلاد وتعزيزها، وبحلول عام 1954، غدت مصر جمهورية تحت حكم جمال عبد الناصر- إشتراكي كاريزماتي يهدف إلى تقويض نفوذ أوروبا في جميع أنحاء آسيا وإفريقيا بينما يحصّل حلفاء مهمين لحكومته. ولتحقيق هذه الغاية، عمد المسؤولون المصريون إلى تقديم الدعم للناشطين المناهضين للاستعمار من كيب تاون إلى الكاميرون. وكانت إذاعة القاهرة تبث الخطب والأغاني التي تحضّ مستمعيها على الانتفاضة ضد الإمبريالية، سارع العملاء السياسيون إلى إرسال الذخائر والتمويل إلى الجماعات المسلحة في جميع أنحاء العالم.

حين وصل كمال الدين صلاح إلى مقديشو، في نوفمبر عام 1954، ليشغل المقعد المصري في المجلس الاستشاري للأمم المتحدة، لم يتجاوز الاهتمام المصري بإنهاء الاستعمار في الصومال الروابط السياسية واللّغوية، حيث توقّعت حكومة عبد الناصر أن تتحالف الصومال مع جامعة الدول العربية بعد الاستقلال، وسهل المهمّة العدد الكبير من المتكلمين باللغة العربية في النخبة الصومالية. سمح تأميم قناة السويس في عام 1956، ودفاع مصر ضد القوات الفرنسية والبريطانية والإسرائيلية أثناء أزمة السويس، لناصر بتقديم نفسه لاحقاً بطلا للعالم ما بعد الكولونيالي؛ وهي الصورة التي غذّاها والتي رفعت من مكانة مصر العالمية.

كانت الصومال ذات أهمية استراتيجية لمصرَ، فالساحل الشمالي "للإقليم تحت الوصاية" قريبٌ من محمية عدن؛ وهي مستعمرة بريطانية وواحدة من أهم القواعد البحرية في المنطقة، كما أنه قريبٌ أيضاً من صوماليلاند البريطانية والساحل الصومال الفرنسي (الآن جيبوتي). وحاجح محمد فايق من مكتب الشؤون الإفريقية في مصر بأن القوى الاستعمارية قد تهدد بقطع صلة مصر التجارية الحيوية مع الشرق الأوسط وجنوب آسيا، إذا بقيت هذه الأقاليم الأربعة تحت السيطرة الكولونيالية، لذا كان بناء علاقة ودية مع دولة صومالية مستقلة سبيلا لتأمين وصول مصر إلى الأسواق الدولية الكبيرة. هذا إضافة إلى أن دعم الحكومة لدولة صومالية جامعة يخرّب خطط منافسي عبد الناصر الإثيوبيين، كونه سيسبب حدوث اضطرابات في أوگادين؛ وهي منطقة كبيرة ذات أغلبية صومالية مسلمة.

كانت أنشطة صلاح في العلن مماثلةً لأنشطة الممثلين الكولومبيين والفلبينيين، غير أنه إلى جانب واجباته الرسمية، انخرط صلاح في العمل السياسي نيابة عن الدولة المصرية، وتمثّل ذلك في توزيع المنح الدراسية في الجامعات المصرية بهدف الحد من اعتماد الصوماليين على المنح الدراسية للمستعمر في روما، ودعا صلاح الصوماليين إلى رفض التجارة الأوروبية لصالح شركائهم الإقليميين. 

تكشف الوثائق الأرشيفية التي أظهرها المؤرخ أنطونيو موروني أنّ صلاح عمل أيضاً، بشكلٍ وثيق، مع وزارة الخارجية المصرية ووزارة الثقافة لتنسيق حملة إعلامية تهاجم "التربّصات الاستعمارية الغربية"، في مختلف أنحاء القرن الإفريقي. كما كشفت مذكرات مستشار الشؤون الإفريقيّة محمد فايق أن المسؤولين المصريين قدموا أيضاً المشورة القانونية والسياسية للجماعات القومية المناهضة للاستعمار. وتحدّث صلاح كثيراً في المساجد والتجمعات الدينية عن المسؤولين الاستعماريين، وصوّرهم أعداء للإسلام يسعون إلى الخراب، في مختلف أنحاء الصومال. وفي الليلة التي سبقت مقتله، وقف متحدثاً في تجمع سياسي صغير، وحثّ جمهوره على دعم اتحادٍ يضم الشعوب الناطقة باللغة الصومالية.

لكن هذا العمل السياسي ما كان موضع تقدير على الدوام، فقد جعل صلاح من نفسه هدفاً لانتقادات السلطات الاستعمارية، القلقة من أن عمله السياسي التخريبي يمكن أن يقلب الحركة القومية ضدها. وامتعض القنصل البريطاني في مقديشو من المجلس الاستشاري الذي رآه "السلاح الأكثر فعالية" لزيادة نفوذ عبد الناصر في الأراضي الصومالية، ووافقته الحكومة الإيطالية في ذلك: "النفوذ المصري عدوانيّ، وخاصة من خلال كمال الدين صلاح الذي لا يضع فرصة، في السرّ، لانتقاد إدارتنا"، يشتكي مسيّر "الأقاليم تحت بالوصاية" إنريكو مارتينو في عام 1955. ومن ناحية أخرى، فإنّ العديد من الصوماليين رأوا بأنّ مصر تمارس تأثيراً ضاراً على السياسة الصومالية، مما اضطر بصالح في عامي 1956 و1957 إلى الدفاع عن نفسه ضد الاتهام بأنّه "يتدخل في الحياة السياسية والاقتصادية في الصومال" و"يحاول بشكل منهجي إغراء السكان للانضمام إلى جامعة الدول العربية".

نقل جثمان صلاح في السابع عشر من إبريل/نيسان إلى مبنى المجلس الاستشاري لإجراء مراسم الدّفن. وقد جذب الاغتيال اهتماماً عاماً عميقاً، فها هم المراقبون البريطانيون يوثّقون بأن "حشداً هائلاً" من الصوماليين تجمع لتوديع الدبلوماسي المقتول. حاولت الحكومة الاستعمارية، نظراً للوضع السياسي الحساس، أن تفسح الطريق أمام الشرطة لإجراء تحقيقاتها، بالموازاة عملت على تهدئة المزاج العام. وحينما مسكت الشرطة القاتل، وهو شاب صومالي يدعى محمد شيخ عبد الرحمن، سارعت الإدارة الإيطالية إلى إصدار بيان صحفي تقول فيه بأن الدافع وراء القتل مظالمٌ شخصيةٌ؛ ذلك لأنّ عبد الرحمن، تقول الإدارة الإيطالية، كان طالباً في القاهرة، ولكنّ تصرفاته كانت سيّئةً، فطردته الحكومة المصرية من البلاد، والدافع الأكثر ترجيحاً وراء القتل هو الانتقام بقتلِ مسؤول مصري بارز.

قدّم عبد الرحمن، على مدى الأيام القليلة التالية، شهادات متضاربة. فقد مثل أمام المدعي العام، في الثاني والعشرين من إبريل/نيسان، مدعياً ​​بأن حزب ديجيل ميرفيل، الحزب المعارض في الإقليم، تعاقد معه لقتل صلاح. وردت الشرطة الاستعمارية باعتقال نحو ثلاثين عضواً من الحزب، وطلبت الحكومة من المدعي العام فتح قضية جنائية ضد نائبين بارزين. غير أنّ عبد الرحمن تراجع في الثالث من مايو/أيار عن أقواله السابقة، مدعياً ​​أن الشرطة ضغطت عليه ليقدم ادعاءات كاذبة ضد الحزب، وما لبث أن غير شهادته مرة أخرى في العاشر من مايو/أيار، ليعود إلى ادعاءاته السابقة بشأن مؤامرة الحزب المعارض.

من المؤكد أن صلاح كان مستهدفاً لأسباب سياسية، وكانت أقرب علاقاته مع عصبة الشباب الصومالي؛ وهو حزب سياسي وطني هيمن على السياسة الصومالية، منذ أربعينيات القرن العشرين، وقاد البلاد طيلة العقد الأول بعد الاستقلال. وكان حزب عصبة الشباب الشباب يعارض القبلية والعشائرية على المستوى الرسمي، ويستمد ثقل قوّته من المهنيين الحضريين والمجتمعات الرعوية في شمال "الإقليم". بينما كان حزب ديجيل ميرفيل، على النقيض من ذلك، يمثل التجار والمجتمعات الزراعية في الجنوب، ورغم دعمه الواسع للقومية الصومالية، إلا أنه كان متشكّكاً في حزب عصبة الشباب الصومالي وفي أي اتحاد سياسي من شأنه أن يقوّي العشائر الشمالية. وتكثّف عنف هذا التنافس مع حزب عصبة الشباب الصومالي في عام 1953، وبقيت التوترات بين المجموعتين متّقدةً. خلال التحقيق، زعمت الشرطة أيضاً بأنها وقعت على مبلغٍ كبيرٍ من المال في منزل عبد الرحمن في بايدوا؛ وذلك دليل يشير إلى احتمالية تأجيره للقيام بالاغتيال.

لقد شكّك آخرون في فكرة المؤامرة المزعومة، لكون عبد الرحمن له تاريخ مع العنف؛ فقد سبق وأن هاجم زميلاً له، مما يجعل الدافع الشخصي محتملاً، وكان قد صرّح أيضاً بأن المحققين زوروا تصريحاته بشأن نواب حزب ديجيل ميرفيل، وأجبروه على التوقيع عليها. وتكهن المراقبون البريطانيون، من وراء الستار، بأن الشرطة اختلقت الدافع السياسي المحتمل للقتل من أجل تقويض جماعة المعارضة. وكانت الإدارة الإيطالية مترددة للغاية في التحقيق في هذه القضية الحساسة بنفسها، لذا تُركت القضية لمجموعة من الضباط الصوماليين—والعديد منهم على صلة وثيقة بحزب عصبة الشباب الصومالي، ولديهم مصلحة كبيرة في اعتقال زعماء المعارضة البارزين. يحاجج القنصل العام البريطاني أنتوني كيندال: "لا شك أن الاتهام الموجه إلى نائبين في حزب ديجيل ميرفيل والحزب نفسه ضعيفٌ[...] لقد أثبتت الإدارة الإيطالية، وهي لا تستطيع التنصل من مسؤوليتها عن الأحداث هنا، جبنها عندما واجهت موقفاً صومالياً حازماً".

كانت الحكومة المصرية، في نفس الوقت، تحول جريمة القتل إلى فداءٍ لحملة سياسية جديدة. حيث انطلقت خدمات راديو القاهرة باللغتين العربية والصومالية، وبمساعدة الطلاب الصوماليين في مصر، تم تصوير صلاح باعتباره "شهيداً من أجل الاستقلال"، كما شجع الصوماليين على الاحتجاج أمام مبنى الأمم المتحدة في مقديشو، وأُدخلت إلى الإقليم منشورات مجهولة المصدر تندد بالإدارة الإيطالية، وتتهم المخابرات الإيطالية بتدبير جريمة القتل. 

بالنسبة لمحمد حسن الزيات، الذي حل محل صلاح كممثل لمصر في المجلس الاستشاري، فقد منحته تداعيات جريمة القتل فرصة مهمة لتأمين "التوجه السياسي والوطني الصحيح" للصومال المستقل. وأوصى الزيات بتعزيز العلاقة السرية بين مصر وحزب عصبة الشباب الصومالي، وتقديم الدعم والمشورة "دون إعطاء الانطباع بالتدخل في الشؤون الداخلية للحزب".

أرسلت الحكومة المصرية مستشار الشؤون الإفريقية محمد فايق إلى مقديشو لدعم الزيات، ولإجراء تحقيقه الخاص في جريمة القتل. انتقد فايق الشرطة الاستعمارية بشدةٍ، ورأى أن المسؤولين الصوماليين أو الإيطاليين سيتلاعبون حتماً بالأدلة، بما يخدم أغراضهم الخاصة. حاولت الحكومة الإيطالية طرده من الإقليم، لكن الضغوط الدبلوماسية من مصر والمظاهرة الحاشدة في مقديشو ما تركت للإدارة الاستعمارية غير القبول بفائق. 

لكن، أليس تدخل فايق أيضاً بدوره يهدف إلى التلاعب بالقضية، وإزالة الأدلة التي تشير إلى العمل السياسي لصلاح؟ ما ترددت الحكومة المصرية في إغلاق مكتب صلاح لأنّها، فيما يبدو، كانت قلقة من أنه يحتوي على وثائق حساسة حول عمله السياسي. كما اتهم البعض المصريين بإخفاء رسالة شخصية من عبد الرحمن إلى صلاح، ربما أفادت في تسليط الضوء على دوافع الاغتيال.

وبلغت هذه التجاذبات ذروتها أثناء محاكمة جنائية فوضوية. ففي أوائل يوليو/تموز، غيّر عبد الرحمن روايته عدة مرات أثناء حديثه أمام المحكمة - أولاً صرّح بأنّه استؤجر لقتل صلاح، ثم نفى ذلك، ثم عاد إلى اتهاماته ضد النائبين - وفي نهاية المطاف سقط الاتهام ضد حزب ديجيل ميرفيل، لعدم توفر أدلة مقنعة، مما جعل المحامي المصري، رشاد رمزي، يهيمن على قاعة المحكمة متجاهلاً التهم الموجهة للحزب، ومخالفاً البروتوكول باستجواب الشهود بنفسه. 

كما هددت العوامل السياسية بالتأثير على نتيجة المحاكمة، فقبل شهر واحد من المحاكمة، تلقى القضاة والوزراء وكبار قادة حزب عصبة الشباب تهديدات مجهولة باغتيالهم إذا حكم على النائبين، ومن جانبها حذرت الحكومة المصرية في الوقت نفسه من أن الفشل في إدانة عبد الرحمن سيؤدي إلى عواقب دبلوماسية وخيمةٍ. وجاء الحكم بإدانة عبد الرحمن بالسجن لعشرين عاماً، وأسقطت التهمة عن النائبين. 

لكن الإجراءات الفوضوية كانت قد ألحقت بالفعل ضرراً كبيراً بمصداقية الحكومة الاستعمارية، فها هو آرثر كانينجهام يحاجج في وزارة الخارجية البريطانية قائلاً: "لقد خرجت المهزلة برمتها عن السيطرة تماماً، وها هي السلطات الإيطالية أصبحت كبش فداء. لقد تحولوا دمية في أيدي المصريين".

تصاعد هذا الجدل بحلول منتصف يوليو/تموز إلى أزمة سياسية كبيرة. فالحكم بإدانة عبد الرحمن متوقعٌ، لكن الكثيرين فسروا تبرئة نواب حزب ديجيل ميرفيل على أنّها دليل على المحاباة الاستعمارية. ما وجدت الحكومة الإيطالية، مع انتهاء المحاكمة، غير استعراض قوتها، فأرسلت دوريات في مقديشو بسيارات مدرعة لردع المظاهرات المؤيدة لمصر. وفي نفس الشهر، فاز حاجي محمد حسين، وهو قومي راديكالي تربطه علاقات قوية بحكومة عبد الناصر، بقيادة حزب عصبة الشباب الصومالي، وكان حسين، الذي يعيش في مصر وقت انتخابه، ويعمل مذيعاً في الإذاعة الصومالية بالقاهرة، يدعو إلى الخروج على السلطة الإمبريالية، وتوحيد الشعب الصومالي. وخطر على بال الإدارة الإيطالية التخلي عن وصايتها على الصومال، وإعادة الإقليم إلى الأمم المتحدة، بسبب مخاوفها من احتمال وقوع نشاط مسلح مناهض لها.

لكن هذه الاستفاقة الراديكاليّة لم تدم طويلاً، فقد أثبت حاجي محمد حسين شعبيته بين الدبلوماسيين المصريين، بالرغم من فشله في كسب الدعم في داخل حزبه، ما أدى إلى خروجه في إبريل/نيسان 1958، واستبداله بآدم عبد الله عثمان، رئيس الجمعية التشريعية الصومالية، الذي يرى بأنّ الخطاب الداعي إلى الكفاح المسلح ضد الاستعمار سيغضب المانحين الدوليين، ويعزل الحركة القومية دبلوماسيّاً. 

في المقابل، أعدت الحكومة الإيطالية حزمة مساعدات تقنية كبيرة للصومال بمساعدة الولايات المتحدة، وجاء الإعلان عن هذه الصفقة، التي تضمنت نحو مليوني دولار من التمويل، ومائة منحة دراسية جامعية، قبل أيام قليلة من الانتخابات البلدية في عام 1958، في محاولة لتحصيل الدّعم للمرشحين المؤيدين للغرب. أمّا حسين فحاول استعادة بعض نفوذه السابق من خلال حزب جديدٍ؛ "رابطة الصومال الكبير"، لكن المجموعة كانت تحت المراقبة الدقيقة، وقمعتها الشرطة الاستعمارية. في الأول من يوليو/تموز 1960، أعلنت جمهورية الصومال استقلالها، وانتخب آدم عبد الله عثمان أول رئيس لها.

بعد مرور سبعة وستين عاماً، ما تزال عملية اغتيال كمال الدين صلاح لغزاً، فالصمت في السجل التاريخي، وفقدان الأدلة الرئيسة يعني أن الدوافع الحقيقية لقاتله قد لا تُعرف أبداً. بيد أنّ الفضيحة التي أحاطت باغتياله تقول لنا قصة مثيرة عن فاعليين دوليين قويين ودولة استعمارية متوترة. جذب صلاح اهتماماً لقضيته، لأنّه أغرى بدعم الحركة القومية في الصومال، وبالتضامن مع الذين يناضلون من أجل الاستقلال. ولكنه، من ناحية أخرى، كان ممثلاً لنموذج طموح ومتحكّمٍ من الدبلوماسية، سعى إلى جر الصومال إلى فلك مصر. وقد استخدم الصوماليون والمصريون معاً، في الأسابيع التي أعقبت وفاته، استخدم صورته للترويج لمثلهم السياسية الخاصة. وما يزال المصريون حتى يومنا هذا يرجعون إلى صلاح عند الحديث عن دبلوماسيتهم في الصومال، ويصفونه بأنه بطل قومي، وشهيد من أجل استقلال الصومال.

كما لعبت الفضيحة دوراً مؤثراً في الكشف عن ضعف إدارة التي كانت تسيّر الإقليم؛ فالمحاولات الإيطالية للابتعاد عن التورّط في الفضيحة جاءت بنتائج عكسية تماماً. مما سمح للأزمة السياسية بالخروج عن نطاق السيطرة، وما حلّ العام 1958 حتى تنبهت إيطاليا إلى أنّها زوّدت القومية المسلّحة بالوقود بدون قصد، لتضطر إلى القيام باستثمارات ضخمة في الصومال للاحتفاظ بنفوذها. وكان صلاح يبشر في حياته بفشل الحكم الاستعماري في تعزيز السلام في الصومال، وقد أثبت في وفاته صحة ذلك القول.

المزيد من الكاتب