الجمعة 22 نوفمبر 2024
في الخمسينيات من القرن الماضي، شجعت الإذاعات المصرية الصوماليين على التوحد ضد الإمبريالية، لكن خطابهم أدى أيضا إلى تعميق الانقسامات السياسية.
بينما كانت الأحزاب في الأراضي الصومالية - مثل رابطة الشباب الصومالي والرابطة الوطنية الصومالية - تشن حملات من أجل الاستقلال؛ كان النضال ضد الإمبريالية بدوره بمثابة منافسة على النفوذ، وظهرت الصحف والمجلات الراديكالية لمهاجمة الحكم الاستعماري وبناء الدعم لقضاياها الخاصة. لكن مع مرور الوقت؛ بدأ النشطاء القوميون أيضا في اللجوء إلى البث الإذاعي الدولي للترويج لأفكارهم وتقويض منافسيهم السياسيين، وكان أحد الأصوات المؤثرة بشكل خاص هو إذاعة القاهرة، هيئة الإذاعة المصرية الحكومية التي بدأت في إنشاء برامج للمنطقة باللغتين الصومالية والعربية. منحت هذه البرامج الإذاعية الراديكالية للمذيعين الصوماليين فرصة لتشكيل النضال من أجل الاستقلال، لكنها أذكت كذلك شرارة سجالات شرسة داخل الحركة القومية.
بدأت إذاعة القاهرة بثها الأول باللغة الصومالية عام 1954 بعد عامين من الانقلاب الذي أقام نظاما عسكريا تقدميا بعد إطاحته بالنظام الملكي المصري. وعندما أجرت منطقة صوماليلاند الخاضعة للوصاية البريطانية أول انتخابات بلدية لها؛ صُمِّمت هذه البرامج التجريبية لتقديم دعاية مجانية للأحزاب الاشتراكية وترويج الدعم المصري للقومية الصومالية. في حين تم التخلي عن هذه البرامج الأولية؛ فقد ظل المسؤولون المصريون مهتمين بدعم البرامج الإذاعية المناهضة للاستعمار والتي يمكن أن تقوض منافسيهم البريطانيين والفرنسيين والإثيوبيين. بدأت إذاعة القاهرة البث من حين لآخر باللغة الصومالية في عام 1956 وخدمة صومالية يومية في عام 1957 وذلك من خلال توظيف عدد كبير من الطلاب الوافدين إلى مصر من منطقة القرن الإفريقي.
تأثرت هذه البرامج بشدة بمذيعها الأول الحاج محمد حسين ذي الميول القومية الراديكالية والذي كان شخصية سياسية مهمة بحد ذاته كحال العديد من منسوبي إذاعة القاهرة. فالرجل كان أحد الأعضاء المؤسسين لنادي الشباب الصومالي القومي عام 1943، وتم انتخابه رئيسا لرابطة الشباب الصومالي منذ بداية تأسيسها عام 1947 قبل أن ينتقل إلى القاهرة للدراسة في جامعة الأزهر. في إذاعة القاهرة أصبح الحاج محمد حسين صوتا قويا للقومية المناهضة للاستعمار؛ رافضا محاولات "تأخير استقلال البلدان الإفريقية"، ومحرضا إذاعة القاهرة على دعم خطط الجامعة العربية المتعلقة بالصومال الكبير، ومنددا باحتلال أوغاذين باعتباره شكلا من أشكال "الإمبريالية الإثيوبية" الغاشمة. كما هاجمت البرامج الإذاعية القوميين المعتدلين في الصومال، زاعمة أن أية تسوية مع القوى الاستعمارية من شأنها أن تؤدي إلى "صومال أصغر" غير قادر على الدفاع عن نفسه على المسرح العالمي.
هناك مذيعون آخرون اتبعوا مسلك حسين وحذوا حذوه فأدانوا الإثيوبيين ووصفوهم بـ "الإمبرياليين السود"، وحثوا الصوماليين على إدارة ظهورهم لـ "أتباع الإمبريالية"، لكنهم أيضا استخدموا تكتيكات أخرى للدفاع عن قضية الاستقلال. على سبيل المثال؛ قام بعضهم بالتوسل مرارا وتكرارا بالنصوص الدينية الإسلامية - كما فعل السياسي أحمد شيخ موسى - متذرعين بأنها "جزء من الجهاد لإيقاظ الناس، وتحذير الناس من الإمبريالية [...] ودعوة الناس إلى العمل معا"، ولجأ آخرون إلى الفكاهة والتلاعب بالألفاظ: فمثلا في إحدى البرامج الإذاعية في جيبوتي؛ أشار المذيع محمد شريف محمود إلى التشابه بين اسم الرئيس "ديغول" والكلمة العربية "دجال" - والتي تعني "المخادع" - في إشارة إلى الدلالة الإسلامية الضمنية لكلمة "دجال" بوصفه عدو المسيح. وأنتج آخرون مسرحيات إذاعية تصور ولادة حركة الدراويش بطريقة درامية وترسم صورة متخيلة لمستقبل الصومال وقد تحرر من سلطة القوى الإمبريالية. كانت فكرة الحركة الجماهيرية ضد الحكم الاستعماري هي الثيمة الأكثر شيوعا، أوضح معالمها تجسدت على لسان إحدى الشخصيات وهي توجه كلامها لآسريها البريطانيين: "يمكنكم اعتقال وسجن من تشاءون، لكنكم لن تستطيعوا اليوم منع شعبنا من تحقيق ما يريده، ليس بوسعكم القيام بذلك إلا إذا أقدمتم على اعتقال جميع الصوماليين، وهذا يقتضي أن يحالفكم الحظ في العثور على سجن كبير بما يكفي لاستيعابهم."
أثبتت هذه اللغة المناهضة للاستعمار شعبيتها، وسرعان ما اجتذبت إذاعة القاهرة الجماهير عبر الأراضي الصومالية، كما اكتسبت مستمعين من مختلف صوماليي الشتات، وبدأ المذيعون في القاهرة بقراءة رسائل من غانا وأوغندا وإثيوبيا والمملكة العربية السعودية والمملكة المتحدة. وقد أظهرت الجالية الصومالية في كينيا إعجابها بالطابع الوطني للقضايا المطروحة، وساهم ذلك في إحياء رابطة الشباب الصومالي وحشد التأييد لدمج المقاطعة الشمالية الشرقية في الصومال بعد الاستقلال. كما بدأت إذاعة القاهرة في ترهيب السلطات الاستعمارية البريطانية، التي زعمت أن الإذاعات المصرية كانت تختلق "روايات هجومية ومشوهة بشكل صارخ للأحداث" والتي تسببت في "ضرر سياسي كبير" عبر أراضيها.
ردًّا على ذلك؛ بدأت هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) بثها المباشر باللغة الصومالية في يوليو 1957. وبدعم من المكتب الاستعماري؛ سعت الخدمة الجديدة إلى توفير مواد وموضوعات لبثها عبر محطات الإذاعة الاستعمارية الصومالية بغرض "مكافحة تأثيرات إذاعة القاهرة"، كما بدأت وحدات الدعاية - مثل قسم أبحاث المعلومات - في ترويج البروباغندا الاستعمارية وتمريرها عبر الصحف وخدمات الراديو في جميع أنحاء المنطقة. ومع ذلك؛ لم تحقق هذه المبادرات نجاحا يُذكر لاحتواء الشعبية المتزايدة لإذاعة القاهرة. بعد عشرة أيام من افتتاح الخدمة الصومالية لهيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)؛ تم انتخاب الحاج محمد حسين رئيسا لرابطة الشباب الصومالي، مما عزز نفوذه داخل الحركة القومية.
لكن في نهاية المطاف؛ تبين أن انتخاب الحاج محمد حسين هو أمر مثير للجدل إذ لم ينسَ القادة الآخرون في رابطة الشباب الصومالي هجماته على القوميين المعتدلين، ولدى عودته إلى مقديشو اتُهم "بالانخراط في نشاط سياسي اتسم بالدعاية المريرة والعنيفة" وتشجيع "أعمال الترهيب ضد أعضاء الحزب". تم طرده من رابطة الشباب الصومالي في مايو عام 1958 ليؤسس الرابطة الصومالية الكبرى لكنه لم يتمكن من استعادة شعبيته السابقة. وفي العام نفسه؛ أشاد رئيس الوزراء الصومالي عبد الله عيسى بهيئة الإذاعة البريطانية بشكل غير علني واصفا إياها بأنها "هيئة البث الدولية الوحيدة القادرة على جذب المستمعين بعيدا عن القاهرة".
بدأت شعبية القسم الصومالي لإذاعة القاهرة تتراجع ببطء، وانتقد البعض البرامج الإذاعية باعتبارها دعاية مصرية حيث جادل الحاج محمد حسين تحديدا بأنه ينبغي أن يتقبل الصوماليون "توجيهات الدول العربية والآسيوية"، وأشاد مذيعون آخرون بمصر لمساعدتها السخية "لإخوانها في إفريقيا"، بل زعمت إحدى القنوات أن الصومال كانت تُحكم من القاهرة قبل الاستعمار الأوروبي، مُدَّعيةً أن مصر كانت "بشكل أساسي راعية مشروع التقدم وإقامة حكومة جيدة" في المنطقة، وزعم آخرون أن إذاعة القاهرة أصبحت أقل أهمية حين أزف موعد الاستقلال السياسي. في يوليو 1959؛ خلصت وزارة الخارجية البريطانية إلى أن البرامج التي انسجمت مع ادعاءات الناشطين المناهضين للاستعمار بخصوص الإمبريالية لا تزال تحظى بشعبية ولكن "تأثيرها ليس راسخا في التفكير الصومالي".
استمر هذا التراجع بعد استقلال الصومال عام 1960، وواجهت إذاعة القاهرة منافسة جديدة من إثيوبيا والاتحاد السوفييتي اللذين قاما بإنشاء أقسام باللغة الصومالية لمحاولة التأثير على السياسة في الدولة الجديدة، كما سمح بناء أجهزة إرسال إذاعية جديدة في هرجيسا ومقديشو - الأولى بتمويل من البريطانيين والثانية بتمويل من السوفييت - للدولة الصومالية المستقلة بالبروز كمحطة بث دولية في حد ذاتها. وبحلول عام 1964؛ كانت إذاعة مقديشو تبث أغاني ثورية للصوماليين في كينيا، وتطلب من المستمعين "الدفاع عن أرضكم وحمل السلاح من أجلها" و"إزالة الحصار المفروض على إخواننا". وبدأت أيضا في البث إلى إثيوبيا باللغة الأمهرية، حيث أنتجت مسرحيات حول سوء معاملة الجنود لتشجيعهم على الانشقاق عن الجيش الوطني. وفي هذا السياق السياسي الحرج؛ قررت إذاعة القاهرة أن تلعب دورا محدودا، في حين واصلت إذاعة مقديشو بث أغاني التحرير وحث الصوماليين على حمل السلاح ضد إثيوبيا وتحريضهم على أن "يطردوا [الإثيوبيين] بعيدا عن بلدهم". وعلى أية حال؛ فقد بدأت إذاعة القاهرة تركز اهتمامها أيضا على تدريب الفنيين والمذيعين الصوماليين الذين كان المسؤولون المصريون يأملون أن يشكلوا الجيل القادم من المذيعين الصوماليين.
واليوم؛ وبينما تعيد مصر الاستثمار في البث الإذاعي الصومالي كجزء من حملة جديدة للدبلوماسية العامة؛ فإن إرث هذه البرامج المبكرة يبدو ذا أهمية خاصة. وفرت إذاعة القاهرة خلال السنوات الأخيرة من الحكم الاستعماري مساحة لصيغ متطرفة من القومية الصومالية، ومن خلال برامج إذاعية متنوعة - تتراوح بين المحادثات السياسية والتعليقات الدينية والمسرحيات الإذاعية - هاجم المذيعون الصوماليون الإمبريالية واجتذبوا الجماهير من جميع أنحاء العالم. ومع ذلك، لم يُسفر هذا النشاط دائما عن تغيير سياسي. حظيت إذاعة القاهرة بشعبية كبيرة لدى القوميين المتطرفين بصورة أدت إلى زيادة شهرة شخصيات مثل الحاج محمد حسين؛ لكنها لم تفعل الكثير لمحاولة إقناع المتشككين.
ختاما؛ يمكن القول بأن البرامج الإذاعية عانت من تصور نمطي يراها مجرد دعاية مصرية، وكافحت لمواكبة وتيرة التغيير السياسي في الصومال. ومع ذلك؛ فإنهم يستحقون التقدير لدورهم الاستثنائي في النضال من أجل استقلال الصومال، فمن خلال عملهم في إذاعة القاهرة؛ أعطى المذيعون القوميون شكلا وصوتا للنضال ضد الاستعمار قبل وقت طويل من إنشاء الدولة الصومالية.