الخميس 14 نوفمبر 2024
كانت أول زيارة لي لمركز الاتحاد الأفريقي بأديس أبابا في إثيوبيا، في 2016، أثناء قمة القادة. انعقدت الكثير الفعاليات المهمة في تلك الأيام القليلة، من ضمنها مقابلات مع العديد من رؤساء الدول. لكن كانت إحدى أعز الذكريات بالنسبة لي من تلك الأيام هي رؤية لوحة لسليم احمد سليم، أحد أميز الدبلوماسيين التنزانيين، والأمين العام السابق لمنظمة الوحدة الأفريقية.
تخيل مدى فخري قبل أسابيع عندما عُدت إلى مقر الاتحاد الأفريقي بعد القمة السابعة والثلاثين في أديس أبابا واكتشفت أن تمثالًا كاملًا خُصِّصَ لرئيسنا السابق و أب الوطن مواليمو جوليوس كامباراج نيريري. يمكن ملاحظة عدم وجود تماثيل لزعماء إفريقيا المؤسسين في المبنى، رغم تمثيل أكثر من 50 دولة إفريقية. قاد مواليمو تنزانيا منذ مولدها في 1961 وحتى 1981، إلا أن تأثيره تخطى الحدود الوطنية، معزّزًا دوره بوصفه زعيمًا ذا أهمية إقليمية ودولية.
في موقعٍ بين قاعات المؤتمرات التاريخية والحديثة يقف التمثال، على بعد بضعة أمتار من نصب تذكاري آخر لتكريم رجل الدولة الغاني والأيقونة الأفروعمومية البارز ةكوامي نكروما. يتموضع التمثال عند مدخل مبنى جوليوس نيريري للسلام والأمن، ما يشهد على إرث نيريري الدائم في الاتحاد الأفريقي.
حُفِرَ على قاعدة التمثال النقش التالي، والذي يمنحنا شعورًا بمهمة ماليمو التي تولاها الاتحاد الأفريقي، "نود أن نُضيء شمعةً على قمة جبل كلمنجارو، لتسطع خارج حدودنا، حيث تبعث الأمل بدل اليأس، وتنشر الحب بدل الكراهية، وتُعيد الكرامة حيث وُجدَ ذُلٌّ فحسب."
بينما تُعيق الولايات المتحدة الأمريكية أي خطوة دولية حاسمة بشأن الإبادة الجماعية للفلسطينيين في غزة، بجانب تجاهل العالم لمأساة شعوب الكنغو الديمقراطية والسودان وإثيوبيا وغيرها، يحمل تشييد تمثال مواليمو والاقتباس المصاحب له رسالة في الوقت المناسب للأفارقة. إنه يجسد موقفه الراسخ المناهض للكولونيالية والظلم ويذكرنا بالمبادئ التي ينبغي أن توجِّه علاقاتنا الخارجية.
يثير ذلك تساؤلات مهمّةً بالنسبة لتنزانيا عمّا إذا كانت ترقى إلى مستوى المُثُل السامية التي وضعها المؤسس. لا أريد الخوض في سياساتنا الخارجية، والتي يفترض أن تكون بشأن الدبلوماسية الاقتصادية، لكنها عوضًا عن ذلك، حولتنا إلى متسولين. لقد أصبحنا نخشي مناهضة القمع، حتى حينما يحدث في الجوار.
إن طموح مواليمو في السياسة الخارجية، من دعمه للفلسطينين إلى تفكيك حكم الأقلية البيض في ربوع جنوب إفريقيا وقناعته الراسخة بتشكيل الولايات المتحدة الأفريقية، موثّقٌ جيدًا. فمن ستينيات إلى سبعينيات القرن الماضي، أصبحت دار السلام مركز قيادي ومقصورة القبطان المؤقتة للثوار من الأفارقة الطامحين إلى تحرير أوطانهم، على قدم المساواة مع أكرا والقاهرة والجزائر.
وصف الصحفي البولندي الحائز على جوائز عالمية، ريزارد كابوسينسكي، الأجواء في عاصمة تنزانيا في إحدى رحلاته بالقول، "يتآمر كافة الأفارقة هنا هذه الأيام، حيث يلتقي الهاربون واللاجئون والمهاجرون من جميع أرجاء القارة. فبمقدور المرء أن يلمح في طاولة واحدة موندلين من موزمبيق، وكاوندا من زامبيا، وموغابي من روديسيا؛ وفي أخرى، كارومي من زنجبار، وشيسيزا من ملاوي، ونوجوما من ناميبيا."
كانت تنزانيا أيضًا تستضيف وترعى وتُنشئ حركات تحرير من خارج إفريقيا. فقد جذبت دار السلام بعضًا من أبرز النشطاء السياسيين، من ضمنهم مالكوم إكس وأنجيلا ديفيس وستوكلي كارمايكل (كوامي توري) وتشي جيفارا. أمضى كذلك وولتر رودني، مؤلف النص الأساسي "كيف أنقصت أوروبا التنمية في إفريقيا"، وقتًا في المدينة، حيث درّس في جامعة دار السلام.
لكن ما لا يتحدثون عنه كثيرًا هو كيف نقل مواليمو أشكال التضامن هذه والتحركات الشجاعة في السياسة الخارجية وحوّلها إلى مُثُلٍ تبناها عامة التنزانيين. فعلى سبيل المثال، يبدأ نشيدنا الوطني بصلاة للقارة وزعماءها: "لا تزال استجابة الآلهة لصلواتنا للزعماء بطيئة حتى اللحظة، وسنصلي رغم ذلك، إن شاء الله." وسابقًا، في تسعينيات القرن الماضي، كانت أغاني الركض في المدرسة الابتدائية مليئة بإشارات إلى الكفاح في سبيل التحرير والتنديد بالدكتاتوريين في كافة القارة. أتذكر أغنية كانت تقول، "عندما يموت عيدي أمين لا أستطيع البكاء، سأرمي به في نهر كاجيرا ليكون طعامًا للتماسيح." رغم قساوة كلمات الأغنية بالنسبة لطفلٍ، في المرحلة الابتدائية وفي الثامنة من العمر، لا يفقه شيئًا عن مِحَن الدكتاتورية والكفاح في سبيل التحرير، إلا أن الأغنية كانت تُثير الفضول وتزرع فيه رفض الدكتاتوريات. وبعد الطوابير الصباحية، كنّا نسير في صفوف مستقيمة إلى الفصول الدراسية، ونردد أغانٍ عن جنوب أفريقيا. أتذكر بالتحديد أغنية تتضمن جملةً قصيرةً لكن واضحة تدعو لإطلاق سراح نيلسون مانديلا على الفور: "يجب إطلاق سراح مانديلا... آااه مانديلا! يجب إطلاق سراح نيسلون مانديلا من السجن فورًا!"
بعد ثلاثين سنة، لا يزال الكرم الراسخ الكامن في التصور السياسي لمواليمو يتردد صداه بقوة لدى الكثيرين. فخلال زيارتي لجوهانسبيرغ في أكتوبر الماضي، التقيت بسيدٍ في إحدى الحانات المحلية. كان أحد المناضل السابقيين في جنوب إفريقيا. أثناء حديثنا الفلسفي الشيّق، حينما عَلِمَ بأصولي التنزانية، توقفَ الرجل عن شرب البيرة واحتضنني بحرارة. اجتاحته الذكريات لاستعادته أيامه في كلمنجارو وموروغورو ودار السلام خلال أيام الكفاح في سبيل التحرير. استعاد بفخرٍ سياسات نيريري التي رحبت بهم في البلاد ليناضلوا في سبيل استقلال بلادهم من نظام الفصل العنصري، وحتى مع تجاهل الدول الغربية القوية لهم ودعمها النظام في جنوب إفريقيا آنذاك.
عندما نظرتُ إلى تمثال نيريري، تذكرت هذا السيد وقلت في نفسي، "لا بد وأن نيريري موافق على نصب هذا التمثال."
أثار التمثال في بلادي نقاشًا واسعًا عن التدابير اللازمة للحيازة، وعمّا إذا كان التمثال يحمل نفس ملامح مواليموا أم لا. زعمت الحكومة بموافقة أبناء مواليمو أنفسهم على الشبه. لكنني صُعِقت، بمتابعتي للنقاش، بحقيقة أن الاهتمام لم يكن بشرعية التمثال أو بما إذا كان مواليمو يستحق بالفعل هذا الشرف.
كان الأمر تذكرةً صارخةً للتنزانيين بمكانة مواليمو الرفيعة في ربوع القارة. وعلى الرغم من تركه الحزب الحاكم، تشاما تشا مابيندوزي، الراسخ وغير العملي أحيانًا، إلا أنه لا يزال يحظى بالاحترام باعتباره زعيمًا مؤسسًا اهتم بمصالح بلده والقارة. ويَعتبر كلٌّ من السياسيين الحاكمين والمعارضين مبادئه الأخلاقية ذات صلة اليوم، مستشهدين بكلماته في بعض الأحايين، رغم عدم تطبيقها إلا نادرًا في الواقع.