تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الجمعة 22 نوفمبر 2024

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
فكر

آخر أعمال والتر بنيامين

15 أبريل, 2024
الصورة
Walter
والتر بنيامين في المكتبة الوطنية، باريس، 1937
Share

ترجمة: فاطمة الزهراء علي

تعرفت حنة آرندت على والتر بنيامين في باريس عام 1933 من خلال زوجها الأول غونثر أندرس الذي كان من أقاربه، لم يدم زواجها طويلا من أندرس لكن صداقتها نمت وتوثقت بوالتر بنيامين، كانا يلتقيان باستمرار في مقهى يقع على شارع سوفلوت للنقاش حول السياسة والفلسفة بمشاركة بيرتولوت بريشت وأرنولد زفايج، وحين هربت حنا آرندت من معسكر اعتقال نازي في منتصف يونيو 1940 لم تتوجه إلى مرسيليا لتبحث عن زوجها الثاني هاينريش بلوخر بل ذهبت إلى لوردز (مدينة فرنسية تقع في الجهة الجنوبية الغربية قرب الحدود الفرنسية الإسبانية) لتقابل والتر بنيامين حيث كانا – لمدة أسبوعين تقريبا – يقضيان الوقت من الصباح إلى المساء في تجاذب أطراف الحديث ولعب الشطرنج وقراءة كل ما يقع تحت أيديهما. تصف حنة آرندت صديقها في تلك الفترة بأنه كان "يعيش في ذعر دائم"، حالته الذهنية متذبذبة وقلقه بشأن المستقبل يتعاظم، يتحدث عن الانتحار إذ كان يخشى أن يتم اعتقاله مرة أخرى فقد أرعبته الحرب بشكل لا حدود له، وكان يواجه صعوبة في تخيل الحياة في الولايات المتحدة، فضلا عن تدهور علاقته مع أقطاب معهد البحوث الاجتماعية (المعروف أيضا باسم مدرسة فرانكفورت) مثل ثيودور أدورنو وماكس هوركهايمر بصورة جعلته يعاني من ضائقة مالية.

عندما تم إطلاق سراح بنيامين من معتقل كلوس سانت جوزيف في نيفير في ربيع عام 1940 عاد إلى باريس لفترة وجيزة قبل أن يفرَّ إلى لورد في 14 يونيو في طريقه إلى مرسيليا، وخلال هذا الوقت كتب ما سيصبح عمله الأخير: "أطروحات في فلسفة التاريخ" أو كما تمت ترجمته لاحقا بعنوان "في مفهوم التاريخ". هذه الأطروحات تتألف من شذرات فلسفية عن التاريخانية والمادية التاريخية كُتبت في الأصل على ظهر مظاريف ذات ألوان مختلفة – خضراء وصفراء وبرتقالية وزرقاء – على شكل فقرات محشورة في مساحة ضيقة ومدونة بخط صغير يصعب قراءته نظرا لعدم توفر أوراق للكتابة بسبب ظروف المنفى، يقوم بنيامين من خلال نصوصها بالمزاوجة بين الماركسية واللاهوت متأملا في لانهائية الزمن وما إذا كان التوسل بمشيحانية باهتة (المشيحانية: ظهور مبشر أو مخلص للجنس البشري) يمكنه عرقلة التجانس الأجوف للرأسمالية التي اجتاحت كل شيء. الجزء الأكثر شهرة في عمله حول مفهوم التاريخ - الذي يرى تتويج الحداثة له بمثابة اكتمال يعلن قدوم الكارثة - قد استلهمه من لوحة "الملاك الجديد" للفنان باول كلي Paul Klee التي تُجسِّد ملاكا يبدو وكأنه يبتعد عن شيء يشد نظره، كان وجه الملاك متوجها إلى الماضي وهناك عاصفة تدفعه رغما عنه نحو المستقبل وهي قوى التقدم التي تقوم بتكديس الخراب تحت قدميه، هذه اللوحة اشتراها بنيامين عام 1921 ورافقته نحو 20 سنة من حياته. كتب والتر بنيامين: لا توجد وثيقة للحضارة إلا ويمكن اعتبارها أيضا وثيقة للبربرية.

هيني غورلاند (زوجة إريك فروم) وليزا فيتكو قادتا مجموعة صغيرة من اللاجئين عبر جبال البيرينيه إلى بورتبو ، وهو طريق شائع للفرار للاجئين في ذلك الوقت. تصف فيتكو كيف اضطر بنيامين إلى المشي لمدة 10 دقائق ثم أخذ قسط من الراحة لمدة دقيقة نظرا لسوء حالته الصحية. لم يكن يحمل سوى حقيبة جلدية تحتوي على أوراقه الفلسفية العزيزة على قلبه. ولدى وصولهم إلى بورتبو في ليلة 26 سبتمبر 1940 قيل لهم في مركز الشرطة إن الحدود الإسبانية أُغلقت وأنه بدون أوراق الخروج الفرنسية، سيتم إعادتهم وإرسالهم إلى المعسكرات. في تلك الليلة ، تناول والتر بنيامين جرعة قاتلة من المورفين. كانت هيني غورلاند آخر شخص رآه على قيد الحياة ، وهذا أمر مهم لأنها كتبت ما أصبح في الأساس وصيته وفقا لها، توفي بنيامين في 27 سبتمبر وتم إعلان أنه توفي بسبب نزيف في المخ في 26 سبتمبر (ربما محاولة للتستر على الانتحار). تُظهر شهادة البلدية أنه دفن في 27 سبتمبر لكن هناك سجل دفن آخر مؤرخ في 28 سبتمبر،حنة أرندت كتبت إلى جيرشوم شوليم (أستاذ التصوف اليهودي المتأثر بأفكار بنيامين وأرندت ومارتن بوبر) أن بنيامين توفي في 29 سبتمبر.. لن نعرف أبدًا ما حدث لوالتر بنيامين أو لحقيبته الجلدية لكننا نعرف (جزئيًا) ما حدث لعمله الأخير "أطروحات حول فلسفة التاريخ".

هناك لغط كثير بخصوص ما حدث لأطروحات بنيامين حيث كان قلقا خلال حياته بشأن نشر أوراقه خصوصا لو حاول معهد البحوث الاجتماعية نشرها في أمريكا بدون موافقته، لذا قام بتوزيع مؤلفاته وما يتعلق بها على أصدقائه: معظم أوراقه كانت لدى جيرشوم شوليم في فلسطين، لوحته المفضلة "الملاك الجديد" بالإضافة إلى "مشروع الأروقة" (Passagenwerk) وبعضهم يترجمه تحت اسم "مشروع الممرات المسقوفة" وهي أطروحة تقدم تحليلا لأصل الثقافة الرأسمالية من خلال نقد تاريخي مادي مفصل لباريس القرن التاسع عشر وعدد آخر من أوراقه خبَّأها جورج باتاي في مقر عمله في المكتبة الوطنية الفرنسية، بينما احتفظت حنة أرندت بنسخ من مقالاته الأدبية والفلسفية وكلها كانت منسوخة يدويا بخط يده. وبعد وفاته لم تصدق حنة أرندت أبدا أن بنيامين أوصى بأن تكون مؤلفاته في عهدة أدورنو الذي لا تثق بأمانته في نشرها كما هي دون تصرف منه، مصدر الوصية المزعومة هي هيني غورلاند (آخر شخص رأى بنيامين قبل وفاته) التي زعمت بأنها شعرت بضرورة إحراق رسالة والتر بنيامين الأخيرة والتي كانت فيما يبدو رسالة انتحار من نوع ما، ثم أعادت كتابة الوصية من ذاكرتها بعد فترة وأهم عباراتها كانت كالتالي:

"لا يوجد مخرج من الوضع الراهن، ليس لدي خيار سوى أن أضع نهاية لكل ذلك، في قرية صغيرة في جبال البرانس، حيث لا أحد يعرفني، ستنتهي حياتي..... أطلب منك أن تنقلي أفكاري إلى صديقي أدورنو وأن تشرحي له الوضع الذي وجدت نفسي فيه، لم يتبق لي وقت كافٍ لكتابة جميع الحروف التي أود كتابتها."

الرسالة الأخيرة التي أرسلها بنيامين إلى أدورنو مؤرخة في 2 أغسطس 1940 وتشرح مخاوفه بشأن أوراقه:

"لقد تحدثت إلى غريتل (زوجة أدورنو) بخصوص حيرتي فيما يتعلق بكتاباتي (باستثناء أوراق مشروع الأروقة الذي لا أشفق عليه كشفقتي على الأعمال الأخرى). وعلى أية حال فظروفي الشخصية كما تعلمون ليست بأفضل حالا من كتاباتي."

ورغم كل هذا القلق الذي يُبديه بنيامين بخصوص أوراقه إلا أنه لا يوجد طلب صريح بأن يتكفل أدورنو بنشر أعماله، متابعة قراءة ما كتبه لأدورنو تشي بخلاف ذلك حيث يقول:

"إن حيرتي التامة بخصوص ما سيحدث لي في اليوم التالي بل في الساعة التالية استبد بكياني لأسابيع عديدة"

ثم تلاه هذا التنبيه:

"آمل أني قد تركت لديك انطباعا بأني محافظ على رباطة جأشي حتى في أحلك اللحظات، لا تظن أن هذا قد تغير لكني لا أستطيع أن أتعامى عن خطورة الوضع، وأخشى على أولئك الذين تمكنوا من إنقاذ أنفسهم من وضع كهذا أن يتعين عليهم إدراك ما يعنيه ذلك يوما ما" 

آخر رسالة كتبها والتر بنيامين إلى حنة أرندت كانت في 9 أغسطس 1940 من مدينة لورد وكانت تتعلق بأوراق خروجه وقراره بالتوجه إلى مرسيليا ويجمع أوراقه استعدادا للهجرة، ويذكر "معاناته العميقة" بشأن مصير مخطوطات مؤلفاته، وأشار إلى أنه لم يكن على تواصل مع أصدقائه لكنه يحافظ على معنوياته من خلال القراءة. في 20 سبتمبر اجتمع شمل بنيامين وأرندت وبلوخر في مرسيليا ثم في 25 أو 26 سبتمبر غادر بنيامين إلى بورتبو وهي بلدة تقع في كاتالونيا بإسبانيا.

بنيامين رأى أدورنو وزوجته غريتل لآخرة مرة في ديسمبر 1938 في سان ريمو بإيطاليا قبل مغادرتهم إلى نيويورك، خلال أيامهم في سان ريمو تحدث كل واحد منهما مع الآخر عن أعماله، تداول أدورنو مع بنيامين أفكار كتابه (في البحث عن فاغنر) بينما ناقش بنيامين مع أدورنو تنقيح وتعديل مشروعه عن بودلير. (استخدم أدورنو هذا الاجتماع لاحقًا كذريعة ليقول لأرندت أن بنيامين قد عهد إليه بعمله لأنه كان يعرفه جيدا). وبعدها عاد بنيامين إلى باريس حيث كان يعقد طوال شتاء 1938 – 1939 اجتماعات متكررة مع حنة أرندت، وفي فبراير وصل جيرشوم شوليم إلى باريس ليزور بنيامين وأرندت في طريقه إلى نيويورك حيث دار بينهم نقاش عن اتجاهه الفكري بخصوص التصوف اليهودي، وحين أنهى بنيامين "الأطروحات" في أوائل شهرمايو 1940 أرسل نسخة منه إلى غريتل في نيويورك مع ملاجظة يقول فيها:

"دفعتني الحرب والنخبة التي تسببت بإشعالها لإزالة بعض الأفكار التي أحجمت عنها حقا ويمكن القول أني احتفظت بها لنفسي لما يقرب من عشرين عاما..... أقدمها لك اليوم في شكل باقة من أعشاب لها همس يُستشفُّ في مجازات تأملية أكثر من كونها ركاما من الأطروحات"

إذن من الذي يحق له أن حيازة تركة بنيامين المعرفية وإنفاذ وصيته حسبما نقلتها غورلاند؟ ليس هذا واضحا بشكل قاطع بالنظر لمراسلاته الأخيرة لكن يبدو أن غريتل كانت أقرب إليه من الجميع (بما في ذلك حنة أرندت)، ومنذ ذلك الحين والكل يحاول المطالبة به مما أسفر عن جو مشحون بالريبة والعداء المقنع بين أصدقاء بنيامين.

بعد أسابيع قليلة من وصولها إلى نيويورك؛ انتقلت حنة أرندت إلى ماساتشوستس لتعيش مع عائلة أمريكية حتى تتمكن من تعلم اللغة الإنجليزية. وأثناء وجودها هناك، تلقت كلمة من المعهد تفيد بأنهم أضاعوا حقيبة كانت قد قامت بتسليمها وتحتوي على مخطوطتين اثنتين من مخطوطات بنيامين، أرندت لم تصدق أن الحقيبة ضاعت بل كانت تعتقد أن أدورنو أضاعها عن عمد لكيلا يضطر لنشر المخطوطتين، لقد رأت في ذلك عملاً من أعمال الرقابة واستمرارا لسوء معاملة أدورنو لإبداع بنيامين منذ ما يسمى بجدل بودلير، حيث انتقد أدورنو ورفض أطروحة بنيامين عن بودلير لأنه لم يكن ماركسيا أو جدليا بما فيه الكفاية. كتبت إلى زوجها هينريش بلوخر في 2 أغسطس 1941:

"تلقيت هذا الصباح الخطاب المشؤوم المرفق، إني مذهولة للغاية من الوقاحة الساذجة لكتابة شيء من هذا القبيل، هؤلاء الأوغاد متفقون على رأي واحد وهو دفن المخطوطة، نظرا للظروف اضطررت لإعطائها لهم وأنا غاضبة الآن لدرجة رغبتي في قتلهم جميعا، سوف يستمرون في إثارة توتري ولن يسمحوا لي بأن ألقي عليهم محاضرة حول الولاء لصديق ميت"

ليس من قبيل المبالغة أن حنة أرندت كانت تكره بالفعل أدورنو بشكل شخصي فقد ألقت عليه اللوم لتدهور أحوال بنيامين حين كان موظفا في معهد الدراسات الاجتماعية وكان راتبه الشهري مصدر دخله الوحيد، حنة أرندت تعتقد أن أدورنو يقف خلف مؤامرة استبعاده من المعهد بعدما رفض أطروحته عن بودلير، لذا فالتسبب بضياع مخطوطات بنيامين ليس سوى استمرار لسوء المعاملة حتى بعد وفاة الضحية في نظر أرندت. وعلى غرار رسالتها إلى بلوخر كتبت حنة رسالة أخرى إلى شوليم تشتكي فيه من أدورنو الذي لا يفي بوعوده معها، ولم تكن تصف المسؤولين في معهد البحوث الاجتماعية إلا بكلمة "الأوغاد" حيث كانت تخشى أنهم سيدفنون أعمال بنيامين في الأرشيف. استغرق أدورنو وهوركهايمر ما يقرب من عامين بعد وفاة بنيامين لنشر شيء من مخطوطاته، وحتى ذلك الحين كان غريتل هي من قامت بهذا العمل. في عام 1942 أصدرت غريتل نسخة محدودة من نسخ مطبوعة لكتابات بنيامين بعنوان (في ذكرى والتر بنجامين). من اللافت أن ظهور "أطروحات" بنجامين في مطبوعة في مجلة Les Temps modernes استغرق خمس سنوات.

في عام 1947 سمع أدورنو شائعة مفادها أن أرندت تنشر أعمال بنيامين دون إذنه، فكتب لتذكيرها بأن بنيامين قد عهد إليه بنشر أعماله وأنه فهم "البنية الفلسفية" لعمل بنيامين وأن بإمكانه توضيح مقاصده النظرية بشكل أفضل من أي شخص آخر بسبب مناقشاتهم في سان ريمو:

"لقد سمعت من عدة مصادر أن شوكن فيرلاغ للنشر تخطط لطباعة بعض مؤلفات بنيامين، وقد أبلغتني الآنسة ماير أنك صاحبة الخطة، يطيب لي أن أذكرك بأن والتر بنجامين قد عهد إلي بتراثه الأدبي بالكامل ، وأن مخطوطات "مشروع الأروقة" (أو الممرات المصقوفة) والتي كانت مخبأة في باريس أثناء الحرب ربما تحتوي على أهمها وقد وصلت إلى نيويورك ويتم الاحتفاظ بها.... أنا بنفسي أملك أجزاء أرشيف بنيامين التي كان يحملها معه"

كان كل من أرندت وشوليم متشككين في أن أدورنو قد استحوذ بالفعل على كامل مشروع الأروقة من جورج باتاي لكننا نعلم الآن أن ذلك لم يحدث إذ ظلت بعض أجزائه مخبأًة في المكتبة الوطنية الفرنسية حتى اكتشفها جورجيو أغامبين في الثمانينيات بالصدفة. ومع ذلك ، لم يكن هناك الكثير الذي يمكن أن تفعله حنة أرندت، وفي عام 1955 نشر أدورنو مجلدين للأعمال الكاملة لبنيامين.

ونظرا لعدم رضاها عن الطبعات الألمانية شرعت أرندت في نشر مجلدين جديدين من مقالات بنيامين والذي سيصبح إضاءات وتأملات، عندما بدأت العمل على أول طبعة باللغة الإنجليزية في ربيع عام 1967 كتبت إلى أدورنو لأنها لاحظت بعض "الاختلافات" بين نسختها من "الأطروحات" التي أعطاها إياها بنيامين قبل وفاته والإصدارات الألمانية التي ينشرها أدورنو، كانت قلقة من وجود بعض التغييرات "الطفيفة" في "الأطروحات" في المنشورات الألمانية، وتحديدا في الأطروحة السابعة. سألته عما إذا كان لديه نسخ أخرى، فرد عليها أدورنو بالقول أن بالفعل هناك عددا من نسخ "الأطروحات" التي تم إرسالها إليه من عدة أماكن، وذكر أن النص كان تحت وصاية غريتل. لم تكن أرندت قد شاهدت النسخ الأخرى من الأطروحات، ونظرا لكراهيتها وعدم ثقتها بأدورنو شككت في صحة مجلداته الألمانية. في الواقع ، كتب بنيامين "الأطروحات" عدة مرات مع إدخال تعديلات طفيفة وأحيانًا كبيرة في كل نسخة كتبها. 

في قائمة التصحيحات التي أرسلها أدورنو إلى أرندت يبرز متغير واحد واضح، تم استبدال المادية التاريخية بالديالكتيك وهذا من شأنه أن يشكل اختلافا فلسفيا كبيرا. فالديالكتيك سيهتم بحركة التاريخ نفسها في حين أن المادية ستهتم بالأهمية المادية للتاريخ من أجل رفض المفهوم الماركسي للحركة السائلة. الاختلاف باختصار يعكس التباين الصارخ بين أدورنو وبنيامين - الاختلاف في صميم جدالهما حول بودلير. انتقد أدورنو بنيامين لعدم كونه جدليا بما فيه الكفاية، واعتقد بنيامين أن إصرار أدورنو على الديالكتيك هو في جوهره رفض للمادية لصالح الأيديولوجيا، كان بنيامين مهتما بالنظر إلى صور الماضي وليس حركة الماضي في إطارها الكلي. بالنظر إلى الإصدارات المختلفة من "الأطروحات" يظهر هذا البديل مرة واحدة فقط - في نسخة دورا بنيامين ، والتي من المفترض أن تكون النسخة التي كانت غريتل تكتبها منذ أن غيرت مفردة التاريخ مرة أخرى إلى المادية.

استمرت مراسلات أرندت وأدورنو لستة رسائل وتضمنت مناقشة قرار أدورنو بعدم نشر مقالات بنيامين عن بودلير، شكرت أرندت أدورنو على رده وعرضت عليه إرسال نسخة أخرى من "الأطروحات" التي كانت تمتلكها حيث لاحظت أن أدورنو لم يقم بإيراد مقال بودلير الأصلي لأنه كان "مختلفًا تمامًا"، رد أدورنو بالقول إنه لم يطبع مقال بودلير نظرا للجدل حول المجلدين. وأضاف: "لا يبدو لي أن نصه ينصف الادعاء الهائل الذي ينبع بموضوعية من تصور بنيامين". فردت أرندت بالتشكيك في اعتراض أدورنو وأنها تملك تصورا لأفكار بنيامين يختلف تماما عن تصوراته.

حنة أرندت كانت قلقة بخصوص ما يمكن أن يحدث لإرث بنيامين الفلسفي والأدبي لأنه أعطاها بدافع الصداقة مخطوطاته قبل أن يموت وهذا ما أورثها شعورا بالمسؤولية عن نشرها كما هي دون تحريف، وبالرغم من كل شيء فقد كانت حنة أرندت هي التي قدمت أفكار والتر بنيامين إلى العالم الناطق بالإنجليزية وليس مدرسة فرانكفورت، أصدقاء بنيامين هم من ساهموا بإبقاء تراثه حيا وليس المعهد الذي كان يعمل موظفا فيه. لا يمكن العودة إلى الوراء لرؤية المستقبل لكن يمكننا على الأقل أن نعود إلى الماضي لرؤية أعمال والتر بنيامين من أجل التفكير في لحظتنا الحالية، الأجزاء المتبقية من "الأطروحات" و"الممرات المسقوفة" والسير الذاتية التي تحاول رصد كل ما حدث في أيامه الأخيرة لن تكتمل أبدأ، المدهش أن هذا التأريخ المفكك يتناسب بشكل ما مع أسلوب بنيامين في التفكير النقدي: وقفة لإلتقاط الأنفاس، العودة بطرق ملتوية إلى موضوع التأمل باستمرار، والعودة كذلك إلى حياة بنيامين وكتاباته وأفكاره بدون أن يكون هناك هدف.