تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الأحد 6 أكتوبر 2024

ثقافة

ديفيد بوي وإعادة اختراع الذات

25 سبتمبر, 2024
الصورة
Bowie
ديفيد باوي في موقع تصوير الفيديو الموسيقي "Jump They Say"، في لوس أنجلوس بكاليفورنيا، حوالي مارس 1993. (تصوير ليستر كوهين)
Share

كان ديفيد بوي - الفنان والشاعر والملحن البريطاني - راوي قصص، جمع أصواتا مختلفة، واخترع هويات متعددة، ثم قادته تلك القصص إلى موسيقى الروك، لكن تحديده بصورة معينة وبشكل أساسي لن يساعدنا على التعرف عليه. اتَّسم بوي بثبات تغيراته، وبقي حتى نهاية حياته كالنهر الذي لا يمكن للمرء أن يتخطَّاه مرتين، وبالتالي، فإن هويته الذاتية هي هوية لا يمكن تجربتها مرتين.

يشير تيد أمون؛ أستاذ الفلسفة في Millsaps College، صاحب كتاب "ديفيد بوي والفلسفة"، إلى أننا نستطيع القول بأن القدرة اللانهائية على التغيير، والحاجة الواضحة لإحداثه كان ما ميَّز ديفيد بوي. كان بوي يعلق ساخرا في المقابلات التي أجريت معه بأنه "حرباء" منخرطة بشكل مستمر وعلني في عملية "إعادة اختراع الذات".

إن كان الحال كذلك؛ فإنه يتعين على المرء أن يتساءل؛ كيف نتَقبُّل تأكيد بوي على أن "زيغي ستاردست" وسائر الشخصيات في أغانيه مجرد مشاركين في قصص عديدة حول من لا نحتاج لفهمه. يعترف بوي أنه ارتدى هيئات عديدة، وجمع أصوات مختلفة، وقام بتجسيدها، كما اعترف بأنه أخذ من البوذية فكرة التنقل عبرها جميعا. وبالتالي؛ فإن من يسمى بـ "حرباء موسيقى الروك" الذي تأثر وجدانيا بالقابلية التحولية للوجود قد استهان بقابلية التحول الكامنة في تدفق شخصياته.

لكن؛ ما هو التغيير أساسا؟ يقول الفيلسوف الإغريقي بارمينديس أن التغيير هو حركة من حيِّز يوجد فيه شيء إلى حيِّز لا يوجد فيه شيء. تمثلت مشكلة بارمينديس في تحديد هذه الحالة من "اللا إنوجاد"، وكيف يمكن للمرء أن يتغير نحوها؟ من أجل القيام بذلك - يجادل بارمينديس - أنه يجب أن تكون هناك حالة من "اللا إنوجاد" موجودة مسبقا يتغير نحوها المرء، وفكرة هذه الحالة تحديدا هي متناقضة وبالتالي مستحيلة. باختصار لا يوجد شيء يمكن تسميته بالعدم، لا يوجد مكان لا توجد فيه كينونة ما، ولا يوجد فراغ مطْلَق. إذن؛ لا توجد عملية تغيير فعلية، ما يحدث غالبا هو أقل بكثير من عملية تغيير جوهري تتجاوز سرعة انكشاف العالم لنا.

ثمة مشكلة في وجهة نظر بارمينديس، تكمن في تعارضها مع المفهوم العادي للتجربة. يمكن العثور على نسخة حديثة من الذات البارمينديسية الجامدة في كتاب ديكارت (تأملات في الفلسفة الأولى)، حيث "أنا موجود"  تعزل الجسدَ -كشيء قابل للتفكير - عن العقل/الروح/الذات. لا يهتم ديكارت في حقيقة الأمر كثيرا بجوهر الذات، إلا أنه شغوف بتحديد جوهر الإله، والعقل، والمادة، وليس من الواضح مكمن الذات عند ديكارت. إن كانت الذات كامنة في العقل فإنها ستكون ذاتا متسمة بالدوام تغذيها حواس الجسد. وإن كانت الذات كامنة في الدماغ فإنها ستكون احتدام الأحاسيس الدائم، لكن يصعب اعتبار روح هذا الرأي الأخير ديكارتيا. في بداية كتاب التأملات يعزو ديكارت وظيفة الخيال إلى "الذات المُفَكِّرة" كشكل من أشكال الفكر، لكنه يتراجع لاحقا ويعزو الخيال إلى الدماغ. 

من الصعب تخيل الذات بشكل منفصل عن الخيال. الإشكال الديكارتي يكمن في أن الذات إما أن تكون ثابتة أو غير ثابتة، وهذا يتوقف على مكان وجودها. ما هو "الموقع" المناسب إذن حسب كتاب التأملات؟ إن كان الخيال هو نسق التفكير فإن الذات كامنة في العقل، وإن لم يكن الخيال كذلك فإن الذات كامنة في الجسد. يترك لنا ديكارت - باختصار - نسخة أكثر تعقيدا وأكثر إرباكا من مفهوم بارمينديس عن الذات، لكنه - على الأقل - يحرر التجربة الحسية من هذا الإرباك الدائم، فالإله لا يخدعنا بشكل منهجي.

يتضمن الطابع الفوري المُربِك للتجربة الحسية عددا من الإشكالات المعرفية. تبنى جون لوك وديفيد هيوم التجربة الحسية باعتبارها بداية المعرفة. يدعو لوك لفكرة مثيرة للاهتمام مفادها أن الهوية الشخصية هي استمرار للوعي وللذاكرة، بينما يرى هيوم أننا حين ندخل إلى ذلك الجزء الحميم من ذواتنا فإننا نتعثر بأحاسيس معينة دون سواها.

هوياتنا وذواتنا ممتلئة بالفعل، إلا أنها ممتلئة بالانطباعات والأحاسيس والأفكار. الأسوأ من ذلك؛ بالنسبة لأولئك الذي يمقتون الغموض، فإنه قد لا تكون هناك آلية ثابتة أساسية لاكتشاف الذات والهوية الشخصية.

يصعب الجزم بأن شخصية ديفيد بوي تستمد جوهرها من ذاته، ومن المؤكد أنه لا علاقة له بالفكرة المركزية للبوذية المتمثلة في "نكران الذات"، بل تبنى مبدأ تدفق التجربة عند ديفيد هيوم؛ أو مسرح الأفكار (المجاز الذي استخدمه هيوم)، وقدَّم رؤيته للعالم بأسلوبه الخاص، وبسلسلة من الأصوات والهيئات والقصص التي لا يُفتَرض أن تُفهَم شخصياتها على نحو أكاديمي.

أظهرت مفاهيم إثبات هوية الذات لدى جون لوك من خلال التأكيد على استمرارية الوعي عدم فاعليتها، خصوصا وأنه يضاعف الاعتبارات الذهنية دون الحاجة لذلك، بينما مفاهيم هيوم تبدو أكثر ترتيبا لتركيزها على الأحاسيس والإدراكات المتعاقبة.

إضافة إلى ما سبق؛ فإن بوي لم يعتنق مبدأ القضاء على الاشتهاء، والذي لا يمكن اعتباره أمرا هامشيا في العقيدة البوذية. لا يتحرر المرء من المعاناة، ولا يصل إلى السعادة القصوى "النيرفانا" في البوذية إلا في طيات الالتزام بتعاليم "الدارما" وبالطرق الثمانية النبيلة.

كان تحرر ديفيد بوي من المعاناة يمر من خلال الجنس وتعاطي الكوكايين؛ وهي أمور قد يصعب أن تضمن السعادة القصوى.كما لا يمكننا أن نتوقع وجود "بوذا" بورجوازي، وكان بوي يعلم عدم جدوى تلك التوقعات الكبيرة.

أدار بوي ظهره للبوذية، ما وضعه في موقف ديفيد هيوم المُفترَض فيما يتعلق بالذات. يمكننا أن نقوم باستقراء جريء وحميم، وسنكتشف دائما أحاسيس معينة، ومسرحا من الأفكار، وتدفقا دائما للتجربة. هناك تدفق متنوع وعجيب للجنسانية في ثنايا أعماله الفنية وأحداث حياته، فكيف يمكننا تحديد موقع بوي على هذا الطيف من النوع الاجتماعي؟ أعلن ديفيد مرة أن ميوله الجنسية ثنائية، وتزوج مرتين وأنجب ابنا وابنة.

تسبب إفراط ديفيد بوي في تناول المخدرات خلال فترة السبعينات كما يقول بــ"خسائر لا تصدق في الذاكرة"، أجزاء كاملة من حياته لا يتذكرها، بل إنه لا يتذكر أي شيء مما فعله عام 1975. في إحدى المقابلات؛ حكى بالتفصيل مشاهدته لقطات لنفسه وهو يؤدي دور "زيغي ستارداست"، وذكر أنه من المضحك ارتداء ذلك الزي الذي ظهر به في ذلك العمل الفني من أجل كسب لقمة العيش. وفي سياق آخر؛ أشار إلى تسجيل ألبوم "Station to Station" لفرقة Thin White Duke عام 1976 قائلاً: "لا أستطيع حتى أن أتذكر الاستوديو، أعلم أنه كان في لوس أنجلوس لأنني قرأت أنه كان هناك... وأستمع إلى ألبوم "Station to Station" باعتباره عملا لإنسان آخر"، وطُلب منه ذات مرة أن يشرح أغنيته المحيرة "The Bewlay Brothers" عام 1971، فقال: "لا أستطيع أن أتخيل ما كان يدور في ذهن الشخص الذي كتب كلمات هذه الأغنية".

إن هذا الانفصال الذاتي في الحياة الواقعية هو شيء أكثر تطرفا من "الإدراكات المتعاقبة" التي تحدث عنها هيوم، وحتى لو اتفقنا مع هيوم على أن الوعي هو مجرد سلسلة من الانطباعات و/أو الأفكار التي تمر عبر العقل، فيجب أن نسلم بأن هذه الانطباعات مترابطة بطريقة ما، لأن الفحص التجريبي لوعي المرء يكشف أن فكرة واحدة تؤدي إلى أخرى، والتي تؤدي بدورها إلى أخرى، والتي ترتبط بانطباع سابق، وهكذا. ولكن ما حدث هنا هو حالة انقطاع. نحن أمام حالة وعي (شخصية، أو هوية) انقطع ثم عاد مرة أخرى في وقت لاحق. ووفقا لمنطق لوك؛ فإن هذا يعني أن ديفيد بوي كان في الواقع شخصين مختلفين طيلة حياته.

المزيد من الكاتب