الخميس 21 نوفمبر 2024
تُعد الشعبوية اليوم ظاهرة سياسية معقدة للغاية تُعرف باستغلالها لمشاعر السخط والإحباط العام وحالة الغضب الشعبي لتحقيق الأهداف السياسية. ومع أن المفهوم قد برز في سياق القرن التاسع عشر، إلا أنه ما عاد فقط ليكتسب راهنية ومكانة تحليلية مركزية، بل، ليصبح الأهم في النقاشات السياسية للقرن الحالي. خصوصا في توصيف أنظمة اليسار الراديكالي في أمريكا اللاتينية أو دراسة صعود حركات اليمين المتطرف في أوروبا وأمريكا الشمالية، وكذلك بروز الزعماء السياسيين الكاريزميين. وفي الآونة الأخيرة، انتشرت دراسة الظاهرة الشعبوية في سياق الاهتمام إما بالديمقراطية أو بالانتقال إليها. لا سيما بالنسبة إلى الاتجاهات النظرية التي تُمفهِم الظاهرة الشعبوية بوصفها إحدى الأزمات الدائمة للصيغة الليبرالية للديمقراطية أو خطر من الأخطار التي تتهدد حالاتها الراسخة.
بشكل عام، يمكن تعريف الشعبوية على أنها "الفكرة التي تقول إن السيادة السياسية تنتمي إلى الشعب، والتي ينبغي أن يمارسها بقطع النظر عن المؤسسات." والسمة الجوهرية في هذه الظاهرة هي ممايزتها بين (الشعب) بوصفه كلً أخلاقيا منسجما، وصالحا بالضرورة، و(النخبة) الفاسدة بطبيعتها؛ وتتخذ موقفا انفعاليا تجاه المؤسسات السياسية باعتبارها انعكاسا ماديا لرغبات ومصالح تلك النخبة، وضد (الإرادة العامة) للشعب.
شهدت نهايات القرن الماضي تطورات سياسية حاسمة ومهمة للغاية، تمثّل أبرزها في تحول عدد من بلدان العالم من السلطوية إلى الحكم الديمقراطي. وفي الحقيقة، أثارت تلك التحولات اهتماما كبيرا في أوساط علماء ومفكري السياسة، الذين سعوا لتقديم أعمال تفسيرية – على حد قول هنتغنتون - لفهم العوامل التي أدت إليها وتحليل مسارها وديناميكيتها والنتائج التي ترتبت عليها. لا سيما وأن تلك التجارب لم تكن نتاج سياقات اجتماعية وسياسية متشابهة، وقد عرفت بعضها ظروفاً وتحديات خاصة.
في معنى أكثر مباشرة، يشير مفهوم التحول الديمقراطي إلى عملية "إسقاط النظام غير الديمقراطي وإقامة بديل ديمقراطي ثم تدعيم أسس البنية الديمقراطية." وفي هذا السياق، تطرح الأدبيات عدد من المقاربات لتفسير تغير أنظمة الحكم في العالم من سلطوية إلى ديمقراطية. ومن أهم هذه المقاربات هي البنيوية وأبرزها "نظرية التحديث" التي قدمها سيمور مارتن ليبست، الذي جادل بأن التحديث الاجتماعي والاقتصادي الذي يشتمل على إقامة مجتمع صناعي وحضري (مديني) يغلب عليه التعليم والثروة، يعتبر شرطا بنيويا للدمقرطة. أما الثانية، فهي "المقاربة الاستراتيجية" المرتبطة بفيليب شميتر وغيرمو أدونيل، والتي تركز أكثر على دور الفاعلين أو اختيارات تيار من النخبة السياسية الحاكمة في التحول نحو الديمقراطية. وعلى العموم، هناك نظريات تفسيرية أخرى لا يسع المجال لتناولها هنا، نذكر منها: نظرية التبعية، والانتشار الديمقراطي.
إن كان النخب هم الذين يقومون باتخاذ الإجراءات اللازمة لإنشاء المؤسسات الديمقراطية أو القرارات التي تساعد في التحول إليها ومن ثم حمايتها وترسيخها كما يفترض أصحاب المقاربة الاستراتيجية، فإن الديمقراطية نفسها ترتبط بجذرها المفاهيمي والعملي بالشعب أو الجماهير التي عادةً ما تقوم بالضغط من أجل الإصلاحات السياسية والمؤسسية التي تضمن مشاركتهم أو مقاومة سلوك القادة المستبدين والاطاحة بهم عبر ثورات وانتفاضات. وتكمن المفارقة في اللحظة التي يتم فيها الانقلاب على الديمقراطية ومؤسساتها وتعطيل آلياتها أو قطع مسار التحول إليها باسم ذات الشعب وإرادته، حيث تبرز النزعة الشعبوية.
واقع الحال، تبين بعض الحالات – كالحالة التونسية وبعض دول شرق أوروبا على سبيل المثال لا الحصر – أن الشعبوية تمثل، إما تحدياً كبيراً للأنظمة الديمقراطية الناشئة، إذ تهدد استقرارها وتعيق مسارها نحو التحول السلس وترسيخ بديل ديمقراطي ناجح بعد التخلص من إرث السلطوية، بل وقد تؤدي في بعض الأحيان إلى انتكاسة ديمقراطية؛ أو فرصةً لتوسيع دائرة المشاركة الشعبية في العملية السياسية وانخراط قطاعات عريضة في الحياة العامة كونها ارتبطت بالقوة الجماهيرية المستبعدة والفئات المُهمّشة. ومع ذلك، فإن النزعة الشعبوية لا تبرز في هذه المرحلة من فراغ، وإنما تُساهم أسباب عديدة في صعودها. كعدم قدرة الأحزاب السياسية على تقديم رؤى مقنعة للناخبين، أو عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وكذلك لجهة ضعف المؤسسات، والأهم من كل ذلك، تزايد السخط الناتج عن عدم تحقق الآمال العريضة للجماهير، وتآكل ثقة المواطنين في النخب والمؤسسات السياسية الجديدة
لقد أدى التراجع الديمقراطي للمجر ووقعوها في براثن الشعبوية الاستبدادية التي يمثلها رئيس وزرائها الحالي فيكتور أوربان، إلى فتح المجال واسعا أمام النقاشات حول أسباب التحولات الديمقراطية الناجحة والانهيارات أو الارتدادات الديمقراطية في دول شرق أوروبا وأسباب بروز الشعبوية في مسار التحول الديمقراطي الطويل والمتعثر لتلك الدول الشيوعية السابقة. صحيح أن هناك من يفترض أن الحالة المجرية تعبر أكثر عن الأزمات البنيوية الحادة التي تمر بها الديمقراطية في نموذجها الليبرالي، مع ذلك، فإن إحدى أقوى التفسيرات التي قدمت لفهم أسباب صعود الشعبوية في حالة المجر، مثلا، تتمثل في الإشارة إلى استغلال حزب فيديس الحاكم للأغلبية التشريعية الكبيرة لإضعاف وتقويض المؤسسات الديمقراطية ومن ثم تركيز السلطة في يد الزعيم الأوحد فيكتور أوربان الذي بات يحكم بعيدا عن الرقابة والقيود المؤسسية ولعبة التوازنات الديمقراطية. وكذلك بسبب فشل الأحزاب المعارضة في تقديم بدائل ديمقراطية مقنعة للناخبين.
من جانب آخر، أعادت ثورات الربيع العربي الديمقراطية إلى دائرة الضوء، بعد أن أطاحت الحركات الاجتماعية بعدد من الأنظمة السلطوية عام 2011. ومع أن تونس قد بدت كالنقطة المضيئة في سياق الظلمة الكثيفة التي أحاطت بتحول أنظمة المنطقة العربية نحو الديمقراطية – في الحقيقة بعد أن انتهت الانتفاضات الأخرى إلى فشل ذريع - لكنها سرعان ما شهدت ارتدادا هي الأخرى. لقد برزت الشعبوية كشبح يهدد التحول السلس لتونس نحو الديمقراطية، أولا، نتيجة الاستقطاب السياسي الحاد بين القوى العلمانية والإسلامية والذي انتهى بتآكل ثقة الشارع في النخبة السياسية الحزبية والنفور منها ومن ثم، تبني خطاب قيس سعيد الشعبوي الذي قدم نفسه بديلا لهذه الأحزاب والقوى السياسية المتناحرة كما ذهب إليه عزمي بشارة في كتابه "في الإجابة عن سؤال: ما الشعبوية؟".
ثانيا، أدت الآمال العريضة التي تخلقت مع الثورة عام 2011، إلى زيادة الضغط على التنظيمات السياسية والنقابية التي جابهت مهمة تلبية الطموحات الكبيرة لشارع مضطرب ولا حدود لرغباته ومطالبه الاجتماعية والاقتصادية. وفي ظل فشل هذه الأحزاب السياسية والتنظيمات النقابية العمالية التي قادت الحراك الشعبي التونسي في معالجة المشكلات الاجتماعية والاقتصادية التي ارتكز عليها الخطاب الثوري عند التعبئة في المراحل الأولى، قادت مشاعر اليأس والإحباط الجماهير إلى تقبل الخطابات الشعبوية التي قدمت وعودا بالحلول السهلة والسريعة للخروج من الأزمة، كمحاربة فساد النخب على سبيل المثال. أكثر من ذلك، برز في هذا السياق نموذج الاقتصاد السياسي الذي يقوم فيه النخب بإعادة توزيع الدخول والوظائف لكسب رضا الشرائح الاجتماعية وشراء دعمهم السياسي، وهو ما تصفه الأدبيات ب“إعادة توزيع شعبوية" للثروات والموارد.
تُبين الأدبيات التي تناولت عدد من حالات الديمقراطيات الوليدة أو غير الراسخة، أن مؤسسات مثل المجالس التشريعية والقضاء والشرطة والجيش وكذلك الأحزاب السياسية، عادة ما لا تحظى بثقة عالية في مرحلة التحول. في هذه الأثناء، تقوم "فئات خاسرة من التحول الديمقراطي، غالبا من أوساط النظام القديم تتبنى خطابا شعبويًا يسعى إلى تغذية حالة عدم الثقة وتصعيد الاحتجاج إلى درجة الفوضى والدفع باتجاه الحنين إلى النظام، حتى لو كان في ظل الاستبداد."
في سياق ثورات الربيع العربي، مكنت وسائل الجديد الحركات الاجتماعية في القدرة على التعبير عن نفسها، في ظل سيطرة الحكومات السلطوية على الإعلام الرسمي وغياب مساحة حرية التعبير. لكنها، لعبت دورا مزدوجا في مرحلة التحول الديمقراطي. فمن جهة، ضيقت وسائل التواصل الاجتماعي الفجوة بين المواطنين والقادة السياسيين وكذلك المؤسسات السياسية، كما أتاح المجال للتعبير الحر عن الرأي، ووسع من دائرة مشاركة الأفراد المنخرطين في الحياة العامة. لكنها من جهة أخرى، كانت إحدى العوامل التي أسهمت في صعود الشعبوية في المنطقة العربية، بعد أن وفرت منصة للتعبئة والتجييش الشعبي والتلاعب بالرأي العام، ومساحات واسعة للخطابات الديماغوجية التي كانت تزيد من حدة التعصب وكراهية السياسيين والنخبة.
لكن، وعلى الرغم من تباين هذه العوامل التي تؤدي إلى صعود الشعبوية في مرحلة التحول الديمقراطي، لكنها تتداخل وتترابط فيما بينها بشكل كبير بحكم تعقيدات الواقع. وقد يحضر بعضها جميعا في نفس الحالة. إذ يمكن لضعف المؤسسات والفساد البيروقراطي أن يؤديا مثلا إلى زعزعة الثقة في المؤسسات ومن ثم صعود الشعبوية، وكذلك قد يخلق عدم قدرة الأحزاب على تحقيق تطلعات الجماهير أو تقديم نموذج ديمقراطي ناجح، نوع من الإحباط والخوف والقلق أو الفراغ السياسي والأيديولوجي الذي يملأه شخصيات من خارج المؤسسات الحزبية التقليدية، والذين يصدرون أنفسهم كأفضل ممثلين لمصالح الشعب.
كما سبقت الإشارة، فإن التعاطي مع النزعة الشعبوية وقياس أثرها في مرحلة التحول الديمقراطي يحمل بعدين إثنين، الأول سلبي والثاني إيجابي:
فمن ناحية، تحمل الشعبوية تهديدا مباشرا لمؤسسات مثل البرلمانات والهيئات التشريعية، وفي كثير من تجارب الانتقال التي برزت فيها الشعبوية، تم إضعاف هذه المؤسسات، وبالتالي تعطيل عدد من أهم الآليات الديمقراطية ومن ثم، تركيز السلطة في يد زعيم واحد كما هو الحال مع نموذج قيس سعيد في تونس وأغلب الزعماء الشعبويين في العالم. ما يعني تقويض مسار التحول الديمقراطي بكل بساطة. كما توظف الشعبوية حالة الانقسام الاجتماعي والسياسي الذي يعوق إمكانية الحوار والتوافق بين الفاعلين الذي يعتبر شرط مهم في مرحلة التحول إلى الديمقراطية، للانقضاض على الحياة السياسية ومؤسسات الدولة. وهنا أيضا تُمثل شعبوية قيس سعيد حالة مثالية بعد حله البرلمان التونسي وتغوله على السلطات التشريعية بمسوغ الانقسام السياسي. وكذلك تعمل الشعبوية على نشر خطابات الكراهية والتعصب ضد فئات اجتماعية بعينها، قد تكون من أقليات دينية أو جنسية. أكثر من ذلك، تقوم الشعبوية بتوظيف الغضب الشعبي كاستراتيجية لمحاربة النخب بوصفها فئة فاسدة، مقابل احتكارها لحق التعبير عن الجماهير، وعليه تجريف الفضاء والحياة السياسية التنافسية التي تعد أساسا لأي مشروع للانتقال الديمقراطي.
من ناحية أخرى، هناك بعض المقاربات التي ترى فيما تصفه ب"اللحظة الشعبوية" مؤشرا جيدا لمشاركة الجماهير في العملية السياسية وانخراطهم بشكل ما في الحياة العامة. وبالتالي، فإنها "استراتيجية ملائمة لاستعادة مُثُل المساواة والسيادة الشعبية المكونة للسياسية الديمقراطية وتعميقها." في الواقع، تعطي الشعبوية بهذا المعنى الذي يأتي غالبا في سياق تنظير كل من أرنست لاكلاو وشانتال موف، صوتا للفئات التي تشعر بالتهميش، وتساهم في طرح مطالبها الاقتصادية والاجتماعية على الساحة السياسية. وهو أمر أقرب إلى الشعبوية في صورتها الأولى عندما برزت لتدفع بمطالبات الحركات الفلاحية. بالإضافة إلى أنها تشجع الفئات المستبعدة على المشاركة في العملية الديمقراطية.
على كل حال، تُظهِر تعقيدات الواقع أن مسارات التحول نحو الديمقراطية ليست معبدة دائما، وأن هناك جملة من التحديات الحقيقية التي تبرز في هذه المرحلة والتي قد تؤدي إلى التراجع الديمقراطي، كما تؤكد حالات مثل تونس ودول شرق أوروبا. وتمثل الظاهرة الشعبوية إحدى التحديات سواء أكان بالنسبة للأنظمة الديمقراطية الوليدة (المتحولة) أو غير الراسخة، بوصفها مهدد حقيقي للمؤسسات. مع ذلك، فإنها قد تُمثل أيضا فرصة حقيقية لتوسيع المشاركة الشعبية في العملية الديمقراطية والحياة السياسية بصورة عامة. وفي النهاية يمكن القول بأن نجاح مسار الانتقال الديمقراطي يعتمد، إلى حد كبير، على قدرة النخب السياسية على معالجة العوامل التي تسهم في صعود الشعبوية في هذه المرحلة، وتعزيز الثقة بين الجماهير والمؤسسات من جهة، وبين الجماهير والنخبة من جهة أخرى.
في النهاية، في ظل المصاعب التي تقاسيها الديمقراطية في اللحظات الشعبوية، كيف يمكن للديمقراطيات الوليدة والمتحولة أن تواجه صعود النزعات الشعبوية دون المساس بقيمها الأساسية وكذلك دون الارتداد أو التراجع الديمقراطي؟