الخميس 21 نوفمبر 2024
علي مؤمن أحد باحث أكاديمي بخلفية متنوعة وثريّة. بدأ رحلته الأكاديمية بدرجة البكالوريوس في الاقتصاد من جامعة الصومال الوطنية العريقة في مقديشو، ثم حصل على ماجستير اقتصاد أنظمة الزراعة والغذاء في مدرسة الشؤون البيئية والبحرية، في جامعة القلب المقدس بميلان[1]. حصل على درجة الدكتوارة من جامعة لاتروب في أستراليا. يشغل حالياً منصب زميل رفيع في جامعة ملبورن. رغم إقامته لفترة معتبرة من حياته في إيطاليا، إلا أنه أسهم كثيراً في حقل الدراسات الصومالية بالعديد من المقالات والكتب. تركز كتاباته في الأغلب على تاريخ الصومال وأدبه، بجانب الهيستوغرافيا الكولونيالية. أحد أهم أعمال علي هو "الشعر الشفاهي في الصومال ودولة النياق الفاشلة: تحليل خطاب نقدي لنقاش الديليه الشعري (1979-1980)"[2]، والذي نُشر في دار بيتر لانق في نيويورك بالولايات المتحدة الأمريكية. تشرّفت بإجراء هذه المقابلة معه، وأشكره على الوقت الكريم الذي أتاحه لمنصة جيسكا.
صهيب: بدءاً، لا يمثل الأرشيف مستودعاً لتاريخ الشعب فحسب، بل حارساً للذاكرة الجمعية. فقدنا للأسف هذا الأرشيف في الحرب الأهلية في جيلنا. وكما قد توافقني، يُعتبر الأرشيف المادة الخام للتاريخ، الوثائق التي تسمح لنا بفهم الماضي والغوص في التجربة الإنسانية.
أود أن أسألك عن أهمية مقالتك المعنونة " Gurigeenni Away"[3] (دُهشت عند قراءتها، رغم اعتقادي أنها سلسلة غير مكتملة) وتأثيرها على جيل الشباب في الشتات. كيف تسهم مشاركة معرفة كهذه، برأيك، في فهمٍ أفضل لخلفياتهم ومساعيهم للإجابةعلى سؤال "الوطن"، بكلا معنييْه، الحرفي والمجازي، أخذا بعين الإعتبار التحديات الفريدة التي يواجهها هذا الجيل؟
د. علي: كانت " Gurigeenni Away" مقدمة لسلسلة مقالات ألهمتنيها ابنتي، فاطمة أحد، التي اقترحت مشروعاً لتعريف الشباب على ثقافة وطن آباءهم. يتضمن العنوان أيضاً إشارة إلى أغنية أطفال صومالية، مع سمنار نظمّته طالبة دراسات عليا صومالية شابة (كيتسن جاما، وهي طالبة دكتوراة الآن). تهدف سلسلة المقالات إلى تمكين الشباب الصومالي في الشتات من تذكّر بلد خلفيتهم الثقافية البعيد من جهة، وفي سبيل بحثهم عن بلد_ يمكن ترجمة " Gurigeenni Away" إلى "أين بلادنا"، والعنوان لعبٌ على الكلمة الإنجليزية " Away"_ تهدف السلسلة من جهة أخرى إلى تمكينهم من اعتبار أنفسهم مواطنين على قدم المساواة مع الآخرين في البلد الذي يعيشون فيه. لم يكن، على سبيل المثال، المولدُ والنشاةُ خارج الصومال بالنسبة للكثير منهم فرصةً لتكوين وعي بالآثار السلبية لإحساس الانتماء القبلي والعشائري. كما أن تمكين الشباب من معرفة جذور النزاع القبلي في الصومال أحد مقاصد وأهداف هذه المقالات.
وُلدت فاطمة في إيطاليا، وكيتسن في أستراليا، ونشأت الإثنتان في أستراليا. وكانت إرادتهما القوية لفهم الثقافة الصومالية ولغتها، بجانب مهاراتهما الاستثنائية في التواصل والتنظيم، مهمة في السمنار بالنسبة لكيتسن، وتطوير سلسلة المقالات بالنسبة لفاطمة، والتي تهدف إلى مساعدة الشباب على تكوين موقف نقدي من الإيديولوجيا القبيلة.
يمكن أن تمثل تربية الشباب على ثقافة المواطنة، بحسب ما نفهمه ونؤمن به، بديلاً للإنتماء إلى القبيلة، باعتباره تعريفاً للهوية الفردية. لأن الهوية المُعَرّفة بالإنتماء القبلي نذيرٌ للعداء القبلي، البائن بوضوح في الصومال اليوم. على العكس من ذلك، يمكن للهوية المعرّفة بالمواطنة أن تخلق في الشباب قطيعة مع الإيديولوجيا القبلية.
صهيب: يُنظر إليك على أنك أحد الباحثين المهتمين بشكل خاص بالشعر الصومالي. اكتسب الصوماليون، بالنظر إلى الإرتباط العميق لديهم بالشعر، ألقاباً مثل "شعب الشعراء" و"شعب الشعر الملحمي"، كما أشار إلى ذلك كُتّاب مثل الكندية مارغريت لورانس. كتبتَ مقالاً مثيراً للإهتمام بعنوان "أيمكن للشعر تعريف السيادة القومية؟ وضع الشعر الشفاهي الصومالي والشعب".[4] هلّا حدثتنا بعمق عن هذا الموضوع؟
د.علي: أود أن أقول أن الألقاب "شعب الشعراء" و"شعب الشعر الملحمي"، كما أشارت مارغريت، ليست مستوحاة من خطاب موسيليني في عام 1935، تلك العبارات المحفورة في المبنى التذكاري للحقبة الفاشية في روما، والذي يتواجد حتى الآن هناك، "شعب الأبطال والقديسين والشعراء والفنانين والبحّارة والمهاجرين،[5]" كاحتجاج قوي ضد إدانة عصبة الأمم للعدوان الإيطالي على أثيوبيا في عام 1935. أعتقد أن عبارة مارغريت لها صدىً مع كلمات موسيليني.
لكن، الشعر أداة أساسية بالفعل في نقل ثقافتنا، ويُعتبر الشعراء بالفعل "صوت الشعب"[6]، شعبٌ كان ولا يزال مقسمٌ إلى أسرٍ عشائرية حاملة لإيديولوجيا قبلية، تعارض بشدة مسيرته نحو دولة المواطنين. تقسم القبلية الشعب، وتحكم على المجتمع بالتشظي المستمر، كما أضحى واضح للعيان حتى اليوم. أطلق المستعمرون على هذا التظشي اسم "المجتمع المُجزّأ"[7]. كان مؤكداً، في مثل هذا السياق، أن الإبداع الفني للشاعر يستقي في الغالب من موقفه ودفاعه عن العشيرة والمجموعة القبلية. إن تقسيم المجتمع الصومالي إلى عشائر وعشائر فرعية، وعشائر فرعية أصغر، والتي اكتسبت طابعا رسميا على أيدي أنثروبولوجيّي الاستعمار، لهو تمثيلٌ يتعارض مع المجتمع الصومالي بوصفه شعبٌ ودولة. وذلك بسبب سمات الشعر الصومالي وتوجّهه الأساسي، الذي مهّد للسؤال الأساسي في مقالي المنشور في عام 2008: "أيمكن للشعر تعريف القومية: وضع الشعر الشفاهي الصومالي والشعب".
صهيب: بحثت فيما بعد في حقل الشعر الصومالي وعلاقته بالقومية والشعب والقبلية، لا سيما في كتابك المعنون "الشعر الشفاهي الصومالي ودولة النياق الفاشلة: تحليل خطاب نقدي لنقاش ديليه الشعري". هلّا شاركتنا أفكارك عن الكيفية التي أثّر بها الشعر الشفاهي الصومالي في التفاعل الاجتماعي، خاصة تأثيره في مفهوم "دولة النياق" الذي أشرت إليه في مقالتك. أحلت أيضاً إلى مفهوم "الرُحّل"[8] المهيمِن على الدولة، والذي أسس للمصطلح المهم "دولة النياق". هل يمكنك توضيح ما تعنيه بهذا المصطلح؟ بجانب ذلك، ما هو الديليه في الثقافة السياسية الصومالية، والذي يتمحور حول حيازة النياق، الذي يرمز "للغنَى" (مانديق)[9] في الدولة.
د. على: إن الشعر والشعراء في الأوساط الرعوية نتاجٌ للتفاعل الاجتماعي بين المجموعات القبلية. والموضوع المركزي لهذا التفاعل هو الإبل: رأس المال الأساسي، ومعيار القيمة في هذه الأوساط. من أجل امتلاك الإبل، كانت الحروب تُخاض ضد المجموعات القبلية المجاورة، كما تُشَن هجمات من أجل الحصول على إبل الآخرين. حدث كل هذا لأن الإبل لها قيمة اجتماعية عالية. ويرمز امتلاكها إلى الثروة وأهمية العشيرة وأفرادها اجتماعياً. لذا يجسد التعبير الرمزي للإبل في الشعر الشفاهي غنىً وبسالةً في المجتمع الرعوي الصومالي. ينتشر المنتوج الثقافي، في مجتمع شفاهي مثل الصومال، مع تنقل الأفراد بين الأماكن، حيث يُنقل ويُشارَك شفاهةً. ففي الفترة التي انتقل فيها أناس كثيرون إلى أوساط غير رعوية أو حضرية، انتقلت هذه المنتوجات الثقافية الرعوية أيضاً إلى هذه الأماكن الجديدة، وأصحبت جزءاً من المعرفة المتبادلة. كما لعبت برامج الراديو دوراً فريدا في نشر الثقافة البدوية والرعوية، في الأوساط الحضرية عبر الأغاني، بجانب المجاز والشعر المتمحور حول الإبل في المرعى، وقيم المجتمع البدوي ونمط حياته. كان إذاعتي مقديشو وهرجيسا يعتبران منصات إبداع فني، وترفيه ومعلومات، علاوة على تمثيلهما للسياسة الثقافية للبلد.
شهدت المدن الساحلية والداخلية، في أوقاتٍ مختلفةٍ، مظاهرَ حضرنةٍ[10] غير مسبوقةٍ، عبر الأفراد الذين هجروا أنماط الحياة الرعوية والبدوية، وأقبلوا على حياة الحضر. وبالتحديد في الفترة الاستعمارية، إذ جندت الإدارة الاستعمارية الإيطالية الكثير من الشباب من المناطق الرعوية.
بلغت أول موجة حضرنة، عبر المليشيا، ذروتها بعد الحرب مع الحبشة وهزيمة جيش الاستعمار الإيطالي التي تبعتها. عاد الكثير من الجنود الصوماليين المنضوين تحت اللواء الإيطالي باعتبارهم قدامى محاربين، واستقروا في المراكز الحضرية. فيما انضم آخرون، ممن التحقوا بالجيش الإنجليزي الذي انتصر على الإيطاليين في السيطرة على صوماليلاند الإيطالية، إلى قدامى المحاربين تحت اللواء الإيطالي، وتم توظيفهم في مستويات مختلفة، داخل الإدارة العسكرية البريطانية، في مقديشو. هُزمت إيطاليا في الحرب العالمية الثانية؛ وسيطر البريطانيون، الذين استحوذواعلى محمية صوماليلاند مسبقاً، على صوماليلاند الإيطالية، وأصبحت تحت إدارتهم من 1941 إلى 1949، حيث قررت الولايات المتحدة تسليم إيطاليا مستعمرتها السابقة، تحت إدارة وصاية لمدة 10 سنين، حتى تستعد البلاد للاستقلال في عام 1960.
حدثت الموجة الثانية من الحضرنة عبر أولئك الذين هجروا الأوساط والبيئات الرعوية إلى المدن، خلال فترة إدارة الوصاية الإيطالية في الخمسينيات. وساهمت مظاهر الحضرنة تلك في تغير التركيبة الديمغرافية في العاصمة، بالإضافة إلى المراكز الأخرى في صوماليلاند الإيطالية السابقة. تزامنت هذه الموجة الثانية من الحضرنة مع فترة تكوين مستقبل بيروقراطية الدولة والمؤسسات السياسية الصومالية. وتشكَّل عنصر طاغي في الشعب الحضري، عشية استقلال الصومال، بواسطة المجموعات ذات الخلفية الثقافية النابعة من البيئة البدوية والرعوية. قدّم هؤلاء الرعوييون المحضرنون حديثاً، لأول مرة في المدن، شكلاً جديداً من العلاقات الثقافية والاجتماعية، أي نظام القرابة والعشيرة المنتشر بشدة في أوساط البدوية.
صهيب: ثمة تساؤل لم ينته عن الأمة والدولة في التجربة الصومالية، من جمهورية الاتحاد، إلى الوضع الحالي في الصومال\صوماليلاند. ما هي نظرتك في ذلك؟
د.علي: صادف استقلال الصومال ما يعرف ب"عام أفريقيا"، عندما نالت العديد من المستعمرات الأوروبية السابقة في أفريقيا سيادتها من الهيمنة الاستعمارية، لتصبح دول مستقلة بذاتها. لكن كانت هنالك العديد من القوى التي تمارس سلطتها على الصومال، مثل فرنسا وأثيوبيا والمملكة والمتحدة وإيطاليا. نالت كلٌّ من المستعمرة البريطانية، محمية صوماليلاند البريطانية في الشمال، وصوماليلاند الإيطالية التي تمتد من الشمال إلى الجنوب، استقلالهما أولاً، بفارق أيامٍ، بتاريخ 26 يونيو والأول من يوليو على التوالي.اتفق قادة الأحزاب القوميون في كلتا المستعمرتين؛ البريطانية والإيطالية، على أن يصيروا دولةً واحدةً مستقلةً. لكن سرعان ما عبّر قادة المستعمرة البريطانية السابقة، بعد الاستقلال ومولد الجمهورية الصومالية، عن استيائهم بسبب المهام التي أُوكلت إليهم في المؤسسات حديثة التشكّل، بعدما خابت توقعاتهم. طورت التجربتين الاستعماريتين، رغم أن الأفراد في كلتا المستعمرتين السابقتين لديهم ، أنظمة بيروقراطية مختلفة، بجانب بنى مؤسساتية مختلفة، وكان من الصعب دمجها. إضافة إلى ما سبق، كانت لغات النظامين البيروقراطيين مختلفتين، وكذلك سلوك الموظفين في العمل، لأن اللغة الإيطالية كانت لا تزال اللغة المستخدمة داخل الإدارة. أعطت الحكومة الصومالية لاحقاً أهمية كبيرة للغة الإنجليزية، باعتبارها المستخدمة في العمل وفي المكاتب العامة. ثم أتاحت بيروقراطية الدولة، منذ ذلك الوقت فصاعداً، فرصاً عديدة للأفراد من المنطقة الشمالية، المستعمرة البريطانية السابقة، إزاء الموظفين الإيطاليين، في الأغلب المتعلمين، في المناطق الشمال-شرقية والجنوبية. أصبحت المؤسسات التعليمية والمدارس، بحلول النصف الثاني من الستينيات، امتيازا يناله موظفون وأساتذة ينحدرون من الشمال. كانت السياسات الجديدة للحكومة تناسبهم، والتي فضّلت الإنجليزية على الإيطالية في الدواوين والوزارات. استمر الوضع على هذا الحال، حتى تبنّي أورثوغرافيا اللغة الصومالية في عام 1971، لتصبح اللغة الرسمية.
صهيب: في الختام، أود أن أسألك عن دور المثقف الصومالي، فلقد ذكرت ذات مرة أن مصطلح المثقف تدنّت قيمته في اللغة الصومالية، ويُستخدم الآن للإشارة للكل عملياً، وقلت، "بالطريقة التي استخدم بها الكلمة، أشير إلى الذين يشعرون بالمسؤولية تجاه الكل، وليس تجاه مجموعة معينة. أفكر، قبل كل شيء، في الذين يوضحون أفكارهم في الكتابة؛ أشير هنا إلى الذين في مقدورهم قراءة أفكار الآخرين واحترامها." هل فشل المثقف الصومالي، في نظرك، في أن يصبح مثقفاً عضوياً، بحسب مصطلح غرامشي؟ وهل هذا الدور ممكن في رأيك، مع الأخذ في الاعتبار، الشروط والإمكانات بالنسبة لجيل الشباب؟
د.علي: المثقفون الصوماليون منحازون، على ما يبدو، مثل شعراء المجتمع البدوي، لعشائرهم أكثر من كونهم يؤدون دورهم بوصفهم مثقفين، يشعرون بالمسؤولية تجاه كافة الشعب. إن هذه النزعة لدى المثقفين الصومالين تجعلهم أعضاء/ أفرادا في العشيرة المنحدرين منها، لا باعتبارهم قادة، بل تُبّعا عاجزين لساسة العشيرة وزعمائها. شُكّل ومُكّن هذا الدور خلال الحقبة الاستعمارية، واستخدمت السلطات الاستعمارية تأثير موضوع هذا الدور للهيمنة على البلد وشعبها.
[1] SMEA, the University of the Sacred Heart of Milan.
[2] Somali Oral Poetry and the Failed-She Camel Nation State: A Critical Discourse Analysis of the Deelley Poetry Debate
[4] Could Poetry Define Nationhood? The Case of Somali Oral Poetry and Nation
[5] Italians
[6] Vox Populi
[7] Segmentary Society
[8] reer guuraa
[9] maandeeq
[10] urbanization