السبت 9 نوفمبر 2024
طرح قادة كونفدرالية الساحل؛ المكونة من مالي والنيجر وبوركينا فاسو، فكرة إطلاق عملة خاصة بالتحالف، فالعملة، بحسب القائد النيجري عبد الرحمن تياني، "خطوة مهمة للخروج من الاستعمار.. العملة علامة على السيادة والدول الثلاث منخرطة في عملية استعادة سيادتها الكاملة"، في إشارة إلى الفرنك الإفريقي؛ العملة الاستعمارية التي جثمت على اقتصاديات عدد من الدول الإفريقية.
تاريخيا، ظهرت هذه العملة مطلع الأربعينيات من القرن الماضي، بعد صدور مرسوم فرنسي، في سبتمبر/ أيلول عام 1939، بالتزامن مع أحداث الحرب ضد ألمانيا، يفرض اعتماد نظام صرف موحد في كافة دول الإمبراطورية الفرنسية. أعقبه، إرغام باريس "مجموعة الدول الفرنسية"، عام 1960، على استخدام عملة موحدة، تطبع حصريا في مدينة شاماليير الفرنسية، تعرف باسم "الفرنك" (CFA)، وهي اختصار لعبارة "المجتمع المالي الإفريقي".
هكذا، بسطت فرنسا هيمنتها الاقتصادية على 15 دولة، في وسط وغرب القارة، وانقسمت بذلك منطقة الفرنك إلى ثلاثة اتحادات نقدية؛ الاتحاد النقدي لغرب افريقيا "UEMOA"، ويضم في عضويته 8 دول، هي: البنين وبوركينافسو وساحل العاج وغينيا بيساو ومالي والنيجر والسنغال والتوغو. والاتحاد النقدي لوسط افريقيا "CEMAC"، وفي عضويته 6 دول، وهي: الكاميرون والكونغو والغابون وغينيا الاستوائية وتشاد وافريقيا الوسطى، ثم الاتحاد النقدي لجزر القمر.
تقضي الاتفاقية الموقعة بين باريس والمستعمرات السابقة؛ أي الدول الأعضاء في منطقة الفرنك، بإحكامها السيطرة على إدارة الموارد المالية، بإقرار جملة من المبادئ (الحصرية في التحويل نحو اليورو وثبات سعر الصرف ومبدأ الحرية في التحويل نحو فرنسا...). كما توجب، واستنادا إلى المادة 10 من النظام الأساسي، تعيين عضوين من إجمالي الأعضاء 16 في مجلس إدارة البنك المركزي، يمتلكان بموجب المادة 81 حق النقض ضد أي تصويت لإدارة المجلس.
فضلا عن بند أخر يلزم دول منطقة الفرنك بتسليم احتياطاتها النقدية إلى الخزينة الفرنسية ضمانا لاستقرار قيمة العملة، قبل أن تقدم باريس على مراجعة هذا البند، عام 1973، بتخفيض نسبة الأصول الأجنبية في خزانتها إلى %65، وابتداء من عام 2005، وعلى إثر احتجاج دول في المجموعة، عمدت إلى تقليص النسبة إلى %50 فقط لديها.
وجدت دول منطقة الفرنك نفسها أمام استعمار نقدي فريدة، بعدما أحكمت باريس قبضتها على اقتصاديات تلك البلدان، وتمكنت عن طريق الفائض التجاري لها من توفير احتياط هام من العملات الأجنبية في بنوكها. رغم النفي المتكرر لوزارة الخارجية الفرنسية للأمر، فباريس تؤكد أنها منحت الدول "السيادة" للانضمام أو الخروج من منطقة الفرنك.
مزاعم تسقطها وقائع التاريخ، فعام 1960 قرر الزعيم الغيني، سيكو توريه، إصدار عملة وطنية غينية، تعرضت لعمليات تخريبية ممنهجة، تمثل بالأساس في إغراق الدولة بأوراق نقدية مزورة، ما أدى إلى انهيار اقتصاد الدولة، حسب شهادة الرئيس السابق لوكالة المخابرات الفرنسية.
سعت التوغو بدورها إلى الانعتاق، أواخر عام 1962، بقيادة الرئيس سيلفانوس أوليمبيو الذي صاغ مشروعا نقديا طموحا لبلده؛ حديث العهد بالاستقلال، قوامه عملة وبنك مركزي وعلاقات تجارية مع ألمانيا والولايات المتحدة... لكن الحلم انتهى باغتيال الرجل، عام 1963، على يد عسكريين دربتهم فرنسا، من ضمهم إتيان غناسنغبي إياديما؛ رئيس البلاد لقرابة أربعة عقود (1967-2005).
لم تتوقف مساعي القادة الأفارقة للفكاك من الهيمنة الفرنسية، فقد حاول الرئيس المالي موديبو كيتا (1960-1968) الذي أطيح به في انقلاب عسكري فرنسي، والرئيس البوركينابي توماس سانكارا (1983-1987)؛ الملقب ب"تشي غيفارا إفريقيا" تنفيذ إصلاحات اقتصادية واجتماعية لمحاصرة الاستعمار النقدي الفرنسي.
تدهور الأوضاع الاقتصادية بالمنطقة أنعش مجددا مشاعر السخط ضد فرنسا وعملتها، ما دفع بناشط سياسي إلى إحراق ورقة 5000 فرنك افريقي، في غشت/ آب عام 2017، لتتعالى الأصوات المطالبة بالتحرير من "عبودية" العملة في وسط وغرب افريقيا.
تأخرت استجابة الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، حتى أواخر عام 2019، حيث صرح في مؤتمر صحفي بالعاصمة الإيفوارية أبيدجان، وأمام الرئيس الحسن واتار، في خطاب مهين للرجل ولسيادة البلاد، حيث بدا الزعيم الإيفواري مجرد مستمع جيد لماكرون، بأنه وبعد "سماعي لشبابك فقد أرت الشروع في هذا الإصلاح"، ويقصد إصلاح الفرنك الإفريقي.
تضمن قرار ماكرون جملة إصلاحات بشأن العملة، تمثلت بالخصوص فيما يلي: أولا؛ التخلي عن الزامية الاحتفاظ 1/2 من الأصول لدى فرنسا، وثانيا، سحب التمثيل الفرنسي في مجلس إدارة البنك المركزي لغرب افريقيا، وثالثا؛ تغيير التسمية من الفرنك لتصبح الإيكو "ECO"، في محاولة لتبيئة العملة مع اسم المجموعة الاقتصادية لدول غرب افريقيا، حتى تتخلص من أصولها الاستعمارية.
ربطت باريس الاسم بتجمع الإيكواس، كي تعطي نفسا جديدا للهيمنة النقدية على افريقيا، وتعمل على توسيع نطاق انتشار الفرنك/ الإيكو بين دول غرب افريقيا، على اعتبار أن الفرنك المتداول في وسط أفريقيا، وبالرغم من كونه يعادل في القيمة الفرنك المتداول في غرب أفريقيا، إلا أنه لا يمكن استعمال عملة دول وسط أفريقيا في دول غرب أفريقيا وبالعكس.
يكفي أن نذكر بأن الاحتياطات المحجوزة على مستوى الحسابات الخاصة، لدى بنك فرنسا، برسم عام 2020، قد بلغت ما يعادل 12,5 مليار يور، التي تتصرف فيها بحرية مطلقة، لنعلم ما تمثله هذه العملة بالنسبة لباريس. ناهيك عن امتلاك فرنسا حق مراجعة قيمة العملة، ما انعكس على سعر الصرف، فعملة الفرنك؛ سواء المتداول في وسط افريقيا (XAF) أو في غرب افريقيا (XOF)، في انخفاض مستمر.
لكن هذه المساعي للحفاظ على "آخر العملات الاستعمارية: قصة فرنك CFA" كما يرويها الاقتصادي السنغالي، ندونجو سامبا سيلا، والصحفية الفرنسية فاني بيجو، ظلت محدودة التأثير، حسب ما تكشفه، يوما بعد آخر، تطورات الأحداث والوقائع، في أكثر من دولة في هذا الاتحاد النقدي أو ذاك.
يجمع الخبراء على أن الاقتصاد الفرنسي يعتمد، بشكل كبير، على ثروات القارة الإفريقية، ولا يمكن توقع وجود فرنسا ضمن العشرة الأوائل عالميا بدون إفريقيا. وضع يتجه منذ سنوات نحو التغيير، مع تزايد المؤشرات الدالة على تنامي المد الشعبي المناهض للوجود الفرنسي، في أكثر من رقعة جغرافية بالقارة الإفريقية.
ومن ذلك ما كشف عن تقرير ليومية لوفيغارو الفرنسية أن نطاق رفض العملة الاستعمارية في يتزايد، فالقطيعة مع الفرنك الإفريقي كانت شعارا رفعته الحملة الانتخابية لرئيس السنغالي الحالي، باشير ديوما فاي، الذي عبّر عن رغبته في إيقاف بلاده استخدام الفرنك الإفريقي، فالعملة، وفضلا عما تثيره من تداعيات سياسية واقتصادية، فهي رمز من رموز السيادة الوطنية.
وتعزز الأمر بإعلان القادة الثلاث لكونفدرالية الساحل (مالي بوركينافاسو والنيجر) عزمهم على إطلاق عملة خاصة بالتحالف الوليد. فهذه الدول، حسب الزعيم النيجري، عبد الرحمن تياني، "لم يعد من المقبول أن تكون بقرة فرنسا الحلوب. العملة هي مرحلة للخروج من هذا الاستعمار، إنها علامة على السيادة"، ثم أضاف تأكيدا على مدى استعجالية المسألة "لعدة سنوات، كانت هناك رغبة في غرب افريقيا للتحرر من الحقبة الاستعمارية التي تعتبر العملة جزءا منها".
على صعيد آخر، تحولت العملة إلى مصدر توتر في الأوساط الأوروبية، فقد سبق لرئيسة الوزراء الإيطالية، جورجيا ميلوني، أن ربطت، وبشكل صريح ومباشر، خلال الحملة الانتخابية، بين فرنسا وتدفق المهاجرين الأفارقة نحو إيطاليا، معلنة أن "الفرنك الإفريقي يفقر إفريقيا، وأن التخلص منه سيؤدي إلى التخلص من المهاجرين الأفارقة". واتهم سياسي إيطالي آخر فرنسا "باستخدام الاحتياطيات وطباعة العملات الأفريقية لتعزيز أجنداتها الاستعمارية الجديدة، ما دفع الناس إلى الفرار من البلدان بسبب التنمية المحدودة".
كما أن دخول روسيا والصين، بصفة فاعلين جدد في منطقة الفرنك، من شأنه أن يشعل "حربا نقدية" هناك. ففي ضوء المنافسة المحتدمة حاليا، بات من السهل جدا على موسكو أن تدفع باتجاه تحرير العملات، وهي في أمس الحاجة لذلك لأكثر من سبب؛ فمن ناحية أولى تعزز وجودها المالي إلى جانب العسكري بالإقليم. وتهرب من ناحية ثانية، من العقوبات الاقتصادية الغربية المفروضة عليها. ومن ناحية ثالثة، توجه ضربة قوية للنظام المالي الفرنسي المستند أساسا على افريقيا.
تشكل ثورة العملات الرقمية بدورها تهديدا متناميا للاستعمار النقدي الفرنسي، فتداول هذه العملات المشفرة، بمنطقة غرب ووسط افريقيا، يشهد ارتفاعا مستمرا، لدرجة أن دولا افريقية عديدة مثل: نيجريا وافريقيا الوسطى وغيرهما من الدول الرائدة عالميا في استخدام هذه العملات، ما دفعها للسير بخطوات ثابتة نحو الاعتراف القانوني بهذه العملات.
يبدو أن فرنسا مقبلة على خسارة سلاح العملة؛ أخر أدوات تحكمها السرية في افريقيا، بعد طردها، في السنوات الأخيرة، من عدة دولة إفريقية. لكنها، قطعا لن تستلم بسهولة، فما أحوجها إلى السيولة المالية الإفريقية، خصوصا في هذه الظرفية التي تمر فيها بأزمة اقتصادية. كل ذلك ينذر بأن منطقة الفرنك الإفريقي مهددة بالمزيد من التصعيد والتوتر مستقبلا.