الخميس 7 نوفمبر 2024
عاد العنف السياسي مجددا إلى موزمبيق، بعد مرور خمس سنوات فقط على توقيع اتفاق مابوتو للسلام والمصالحة، عام 2019، وبعد حرب أهلية استمرت 16 عاما، قبل أن تضع أوزارها عام 1992، مخلفة نحو مليون قتيل، بين حزب فريليمو وحركة رينامو. وذلك بعد إعلان مقتل شخصين من حزب بوديموس المعارض، وهما: إلفينو دياس مستشار مرشح المعارضة، وباولو جوامبي المتحدث باسم الحزب، على يد مسلحين طاردوا سيارة كانا بداخلها في شوارع العاصمة مابوتو.
شهدت موزمبيق الواقعة في جنوب شرق أفريقيا انتخابات رئاسية وتشريعية، في 9 أكتوبر/ تشرين الأول، توقع مراقبون أن تكون مجرد محطة انتخابية تمنح ولاية جديدة لحزب جبهة تحرير موزمبيق، الماسك بزمام الرئاسة، منذ نصف قرن تقريبا، وكذا الأغلبية في مقاعد البرلمان البالغ عددها 250 مقعدا.
زكّت النتائج المعلن عنها يوم الخميس الماضي (24 أكتوبر/ تشرين الأول) تلك التوقعات، بفوز مرشح فريليمو، دانييل تشابو، وفقا لبيانات اللجنة، بأكثر من 70,6 ٪ من الأصوات. فيما حصل المرشح المستقل، فينانسو موندلين، منافسه الرئيسي المدعوم من حزب بوديموس على 20,3٪ من الأصوات، وحل أوسوفو مومادي، مرشح حزب رينامو المعارض، في المركز الثالث بنسبة 5,8٪ من إجمالي الأصوات.
تلاعبت الحكومة بالنتائج التي ترفضها المعارضة، مؤكدة حدوث "تزوير كبير في الانتخابات". تُعزز ذلك بما تضمنه تقارير البعثات الدولية التي تولت مراقبة الانتخابات، فبيان بعثة الاتحاد الأوروبي يتحدث عن وجود أدلة تفيد حدوث مخالفات أثناء فرز الأصوات، وتغيير غير مبرر لنتائج الانتخابات على مستوى مراكز الاقتراع والمقاطعات. بدورها، أفادت بعثة أمريكية، تابعة للمعهد الجمهوري الدولي، رصد مخالفات انتخابية تتعلق بشراء الأصوات، وتضخيم قوائم الناخبين في معاقل الحزب الحاكم.
كما امتدت الانتقادات أيضا نحو العنف السياسي الذي رافق الانتخابات، فمنظمة الأمم المتحدة أدانت في بيان رسمي أحداث العنف، وطالب أمينها العام الموزمبيقيين، وعلى رأسهم القادة السياسيين، ب"التزام الهدوء وضبط النفس، ورفض مختلف أشكال العنف". وهو ذات الموقف الذي تبناه الاتحاد الأفريقي، على لسان رئيس المفوضية، موسى فكي محمد، التي أعرب عن "قلقه العميق إزاء حالات العنف التي أعقبت الانتخابات".
تجاهلت الحكومة في مابوتو هذه الدعوات، باستعمالها الغاز المسيل للدموع والرصاص لتفريق المحتجين الرافضين لنتائج الانتخابات المعلن عنه، معبرين عن ذلك بإحراق الأعلام الحمراء لحزب جبهة تحرير موزمبيق، ومنددين في نفس الوقت بعودة شبح العنف السياسي إلى بلد لا يزال يعاني ويلات العنف في الشمال.
يتولى دانييل تشابو (47 عاما)، الإذاعي السابق والمحاضر القانون، الرئاسة خلفا لفيليبي نيوسي بعد ولايتين في الحكم، ليكون بذلك خامس رئيس للبلد، وأول رئيس يولد بعد استقلال البلاد عن الاستعمار البرتغالي عام 1975. كما أنه صاحب أغلبية برلمانية ساحقة، فقد حصد حزب فريليمو عشرة مقاعد إضافية عن آخر استحقاق، حيث يشغل الآن 195 مقعدا من أصل 250 مقعدا في البرلمان.
لكن أرض الكنوز- كما تلقب - ذي 34 مليون نسمة غارقة في مستنقع الفقر، رغم موقعها الاستراتيجي ومواردها الطبيعية، تبقى في ذيل قائمة الدول الفقيرة في العالم، فالأغلبية في البرلمان لوحدها لا تكفي قصد مواجهة المشاكل المحدقة بالبلد على الجبهتين الداخلية والخارجية.
اتساع الشرخ الداخلي بين الفرقاء في المشهد السياسي الموزمبيقي، لا سيما بعد تخلي أطراف عن قواعد اللعب النظيف لصالح اللعب القدر، بالاستدعاء السريع للغة السلاح في معارك سياسية يمكن تدبيرها بشكل سلمي، يفسر بارتفاع منسوب الاحتقان في الجبهة الداخلية، ما يشكل تهديدا مباشرا للتراكمات التي تحققت في السنوات الأخيرة.
داخليا، يشكل تصعيد المعارضة ضد النظام باحتجاجات سلمية وشعبية في كبرى مدن البلاد، ضغطا متزايدا على الحزب الحاكم في موزمبيق، فزعماء المعارضة؛ في حزبي بوديموس ورينامو، يحثون الموزمبيقيين على الاستمرار في التظاهر حتى "تحرير الدولة من قبضة الحزب الحاكم بكل السبل الممكنة".
يشكل ذلك فرصة مثالية للمتطرفين في شمال البلاد لزيادة وتيرة أنشطتهم، مستثمرين تنامي مشاعر الغضب الشعبي ضد النظام الحاكم، فهجمات المتطرفين في مناطق "شيور" و"ماكومبا" بمقاطعة كابو ديلجادو؛ شمال البلاد، في ارتفاع منذ عام 2017. ما جعل البلد في مؤشر الإرهاب العالمي من الدول الأعلى تأثيرا، حيث جاءت في المركز 15 عالميا برسم عام 2024.
وحدث ذلك فعليا، باقتحام نحو 300 شخص منجما مونبيبويز، التابع لشركة "جيمفيلد جروب" شمال شرق موزمبيق، حيث تستخرج نصف إمدادات العالم من الأحجار الكريمة، ما أدى إلى اشتباكات نتيجة إطلاق الشرطة النار على المحتجين.
كل ذلك يفاقم الأوضاع الإنسانية في البلاد، وفي منطقة الشمال بوجه خاص، فتقرير المفوضية السامية لشؤون اللاجئين يتحدث عن تعقد الوضع هناك، منذ شهر فبراير/ شباط من العام الجاري، حيث نزح أكثر من 70 ألف شخص قسريا، تمثل النساء والأطفال وكبار السن حوالي 90٪ منهم.
يذكر أن هجمات المتطرفين ضد مشاريع الغاز في البلد، أودت إلى إيقاف الشركة الفرنسية توتال إنيرجي لمشروع الغاز بقيمة 20 مليار دولار، وقد أعلنت عام 2021 عن حالة القوة القاهرة بتوالي الهجمات على بلدة بالما حيث تقيم مركزا لوجستيا لإدارة أنشطتها. وتحدث الرئيس التنفيذي للشركة، باتريك بوتاني، الصيف الماضي، عن أنهم ينتظرون ما بعد الانتخاب الرئاسية للحسم في إعادة تشغيل مصنع الغاز الطبيعي المسال. إكسون موبيل بدورها علقت الحسم في قرار استثماري، في مجال الغاز الطبيعي المسال، حتى حلول عام 2025.
يرنو الجميع في الداخل والخارج إلى محطة الانتخابات الرئاسية لتحقيق تغيير سلس في المشهد السياسي في موزمبيق، بإنجاح عملية التداول السلمي على السلطة، على غرار تجارب مجاورة في الشرق الإفريقي. لكن قادة حزب التحرير في البلد يصرون على البقاء في الحكم، وسندهم في ذلك شرعية التاريخ لا الإنجاز والفعل.
يمثل هذا الخيار تهديدا للاستقرار الأوضاع في البلد، وخطرا على المنجزات التي تحققت في السنوات الأخيرة. إذ بهذا القرار يفتح الحزب الحاكم على نفسه أكثر من جبهة للصراع، ويزيد من تأزيم الأوضاع في بلد يمتلك من الإمكانيات ما يسمح له بتحقيق نهضة واعدة على غرار جيرانه في شرق أفريقيا.
تدل الاضطرابات المتزايدة على تآكل شرعية النظام في مابوتو، ما ينعكس لا محالة على المصالح الاقتصادية الاستراتيجية في البلاد، الذي أحرز تقدما كبيرا في جذب الاستثمارات الأجنبية، وبشكل خاص في قطاع الطاقة، الذي يراه مراقبون ركيزة أساسية يمكن الرهان عليها من أجل إقلاع تنموي مستدام.
حتما ستزيد القلاقل الأخيرة، وخاصة ما رافق العملية الانتخابية، من حجم الضغوط الدولية على النظام، فخمس سفارات أجنبية (الولايات المتحدة وكندا والنرويج وسويسرا والمملكة المتحدة) في موزمبيق أدانت أحداث العنف التي تخللت اقتراع 9 أكتوبر/ تشرين الأول.
تنضاف إلى تداعيات فضيحة "سندات التونة" التي لا زالت تلاحق الحكومة، منذ سنوات، بعد اختفاء جزء من قرض بقيمة 1,5 مليار دولار لشركات تديرها الدولة من أجل توفير أساطيل لصيد السمك، ما دفع صندوق النقد الدولي والجهات المانحة إلى قطع الدعم مؤقتا على البلاد.
ناهيك عن تزايد المخاطر المحدقة بالبلد جراء بسبب تغير المناخ، فموزمبيق من أكثر الدول عرضة للتغيرات الشديدة، مثل: الجفاف والأعاصير والفيضانات. وكان ضمن بلدان الجنوب الأفريقي التي اجتاحها الجفاف الناجم عن ظاهرة النينو، ما دمر المحاصيل الزراعية وانعكس على حياة نحو مليوني مواطن في البلد.
تتجه موزمبيق إلى تأكيد حقيقة وردت في تقرير أممي سابق، ذكر أن ثلثي الدول الأكثر فقرا في العالم، تعاني من أحد الأمرين: إما صراعات مسلحة أو صعوبات في الحفاظ على النظام بسبب الهشاشة المؤسسية والاجتماعية، وكلا الحالتين متحققة في موزمبيق. بذلك تبقى مساعي تحقيق التنمية المنشودة في البلد معلقة حتى إشعار آخر.