الجمعة 22 نوفمبر 2024
تعدّت تداعيات العولمة المجال الاقتصادي نحو خلخلت المفاهيم التقليدية التي رافعت ظهور الدولة الوطنية، فأحيت تدريجيا ظاهرة الارتزاق السياسي التي ساد الاعتقاد، حتى وقت قريب، بأنها أضحت خبرا يحكى في تاريخ القرون الوسطى. فقد كان حظر الارتزاق السياسي من أهم ثمار توقيع "صلح وستفاليا" عام 1648، بجعل الحروب حكرا على الدول والحكومات.
ترك ترهل الدولة وضعف السيادة فراغا سياسيا كبيرا، فسح المجال لظهور جيوش خاصة؛ تتخذ شكل شركات متعددة الجنسيات أو جماعات قومية أو عرقية محلية "جنود مرتزقة"، يتعاقد معها قصد دعم الجيوش النظامية في الحروب، وأحيانا أداء مهام ووظائف بدلا عنها.
كان القرن العشرين بداية حضور المتعاقدين في الحروب، حيث شارك 58 ألف متعاقدين في الحرب العالمية الأولى، ما يمثل جنديا خاصا (مرتزقا) مقابل 24 جنديا نظاميا. فيما بلغ عددهم، في الحرب العالمية الثانية، 743 ألف مقاتلا، ما يعادل متعاقد واحدا مقابل 7 جنود رسمين.
مطلع القرن الحالي تزايدت، بشكل حاد، أعداد الشركات العاملة في مجال الخدمات الأمنية والعسكرية العابرة للحدود، في الولايات المتحدة وروسيا والصين وجنوب افريقيا... ما شجع على انتعاش فكرة القوات الموازية (تنظيمات أو مليشيات) في عدد من الأقطار، حيث عمدت حكومات عاجزة عن فرض الأمن وبسط السيطرة البلد، إلى الاستعادة بخدمات هذه القوات لضمان الاستقرار في إقليم مضطرب أو على حدود مفتوحة.
تعيش دول إفريقية عديدة مشكلة في السيادة، بعد فشل الكثير من الحكومات في تجسيد ملامح الدولة الحقيقة على أراضيها، ما دفع بعدد من الأنظمة في إفريقيا إلى طلب خدمات هذه القوات الخاصة؛ شركات عابرة للحدود أو مليشيات محلية، حتى بدت مناطق عديدة في القارة مستباحة، وكأنها في استعمار جديد، لكن هذه المرة بمباركة وترحيب من الحكومات المحلية.
يسود الاعتقاد بأن ظهور مقدمي الخدمات الأمنية والعسكرية في إفريقيا جديد، فالأكثرية تربطه بموجة الصراع على النفوذ بين القوى الكبرى في القارة. لكن الحقيقة خلاف ذلك، فبداياتها تعود إلى الربع الأخير من القرن الماضي، حيث كانت تقدم خدماتها في أكثر من 30 بلدا افريقيا، مع محدودية في طبيعة الخدمات وفي نطاقها أيضا.
تطور الوضع، بمرور السنوات، حتى أضحت هذه الشركات أذرعا للقوى الكبرى، تعتمد عليها في تنفيذ استراتيجياتها في إفريقيا، فبدل المغامرة بالجيوش النظامية في أدغال وفيافي القارة، تفضل هذه الدول اللعب بورقة الجيوش الخاصة، المحسوبة عليها استراتيجيا عند الربح، وبلا تكلفة سياسية في حالة الفشل.
تنتشر قوات فاغنر؛ الاسم السري لمؤسسها نسبة إلى الموسيقار الألماني ريتشارد فاغنر، في 23 دولة إفريقية، من بينهما إفريقيا الوسطى وليبيا ومالي وبوركينافاسو والنيجر وموزمبيق... اختلف الخبراء بشأن توصيفها، فهناك من اعتبرها شركة عسكرية خاصة، فيما وصفها آخرون بالمجموعة العسكرية شبه رسمية، وصنفتها صحيفة نيويورك تايمز بالوحدة العسكرية ذات استقلالية، بالرغم من تبعيتها لوزارة الدفاع الروسية.
لم تكن هذه القوات، قبل سنوات قليلة، سوى مجموعة مقاتلين أشباح في إفريقيا، سرعان ما ذات صيتها لتفرض نفسها رقما ثقيلا في معادلة العودة الروسية نحو إفريقيا، بتمكينها من نفوذ مهم في ربوع القارة. لكن المثير في المسألة أن الشركة مسجلة في الأرجنتين، فالشركات العسكرية الخاصة غير قانونية في روسيا، رغم توفرها على مقر ضخم في سانت بطرسبورغ شمال غرب روسيا. ناهيك عن حظر القانون الروسي (357/1996) على المدنيين قبول مكافآت مقابل القتال في الخارج، ما يعني منع أنشطة المرتزقة العسكريين.
تتحدث تقارير، استنادا لتقديرات مؤسسات بحثية، في ظل غياب المعطيات الرسمية بالنظر إلى السرية التي تكتنف طبيعة عمل الشركة، عن انتساب نحو ألف مقاتل إلى المجموعة عام 2014، ثم ارتفع عام 2017 إلى 6 آلاف، وقفز بحلول عام 2023 لنحو 20 ألف مقاتل. ويعد انتشار المجموعة في القارة الأكبر حاليا، منذ أولى تدخلاتها في بعض ساحات النزاع، دعما لنفود موسكو في إفريقيا.
تكشف المعارك بين الفينة والأخرى عن مدى تغلغل المجموعة في إفريقيا، ودورها المتزايد هناك، بسقوط ضحايا من فاغنر في هذه الجبهة أو تلك، على غرار مقتل العشرات على الحدود المالية الجزائرية، أواخر يوليو/ تموز الماضي، وقبل ذلك في مقاطعة كابو ديلغادو في شمال شرق موزمبيق في صراع على الموارد.
أعادت روسيا، بعد حادثة وفاة قادة فاغنر في تحطم طائرة، شهر غشت/ آب 2023، هيكلة المجموعة بتشكيل "فيلق إفريقيا" الذي يتبع لسلطة الإدارة العسكرية، ويشرف عليه بشكل مباشر نائب وزير الدفاع الروسي، ما يعني المزيد من الاهتمام باستراتيجية الأذرع في القارة، نظرا لجدواها ونجاعتها. ورجحت تقارير أمريكية أن تكون ليبيا، وتحديدا بنغازي، نقطة ارتكازه، بالنظر لارتباطها بسواحل البحر الأبيض المتوسط، ولموقعها كخط امداد لتحرك هذه القوات في دول الصحراء والغرب الإفريقيين.
اكتشف الصين محدودية سقف القوة الناعمة، مستخلصة الدروس والعبر من التجربة الروسية التي ناكفت الغرب في أكثر من منطقة بإفريقيا، فشرعت في عسكرة نفوذها في إفريقيا بالإعلان عن إنشاء أول قاعدة عسكرية في جيبوتي بشرق إفريقيا عام 2017، وكان ذلك بمثابة تفاعل صيني، بشكل محدود، مع البيئة الأمنية المتغيرة في القارة.
تعزز ذلك أكثر، بتخصيص بكين حيزا كبيرا في "الكتاب الأبيض" (2019) لاستراتيجية حماية مصالحها في الخارج، أعقبه حديث الرئيس شي جين بينغ عن المنظور الصيني للأمن الوثيق الصلة بالتنمية الاقتصادية، فتحدث أمام أعضاء الحزب الشيوعي، عام 2022، عن ضرورة "النهوض بقدرتنا على نشر الأمن في الخارج وحماية الحقوق والمصالح المشروعة للمواطنين الصينين والكيانات القانونية الصينية في الخارج".
يرى الخبراء الأمنيون أن هذا الكلام متأخر نسبيا مقارنة بالفعل والإنجاز، فالمقاولات العسكرية والأمنية الصينية سجلت حضورها، وفي سرية تامة، بالقارة الإفريقية، منذ تقنين القطاع بتحويل اللائحة الصينية، بشأن إدارة خدمات الأمن والحراسة لعام 2009، إلى قانون لتنظيم وتوجيه سوق الشركات الأمنية الذي انتعش بقوة نتيجة توافد قدماء المحاربين، جراء إعفاء الآلاف من الجنود بسبب إعادة تأهيل الجيش الصيني.
شرعت هذه الشركات في خدمة المصالح الصينية في ليبيا عام 2011، بتعاونها مع قوات البحرية والجيش الصينيين لإجلاء 30 ألف مواطن صيني من البلد. وحاليا، تنتشر قرابة 40 شركة عسكرية خاصة في العالم، لحماية المشاريع والاستثمارات المرتبطة بمبادرة الحزام والطريق. حظيت افريقيا بنصيب 1/4 منها، بسبب توالي استهداف الرعايا والمصالح الصينية بالقارة، ما فرض التدخل بهذه الكيانات التي تبقى، وبالرغم من كونها خاصة، خاضعة لسيطرة الدولة، يشتغل بها أعضاء سابقون في جيش التحرير الشعبي، تطبيقا للمبدأ الشيوعي القائل أن: "الحزب يسيطر على البندقية".
تبدو بكين عازمة على توسيع شبكات الشركات العسكرية في القارة، رغم غياب أي تقنين لهذه الخطوة، فالقوانين داخل الصين لا تسري على الشركات العاملة خارج البلد، كما أن إلزام هذه الهيئات بقوانين المحلية مستحيل، فلو كان بمقدور البلد فرض الالتزام بالقانون لحرص على تنفيذه دون الاستعانة بالأخرين.
استباحة السيادة ليست حكرا على الخارج فقط، ففي الكثير من الأحيان يكون بأيادي محلية، تحتضنها الأنظمة القائمة قصد استتباب الأمن والاستقرار، وحتى الاستقواء بها ضد الانتفاضات الشعبية والتوترات الداخلية؛ إقليمية كانت أو عرقية أو طائفية أو غيرها. فكرة القوات الموازية أو الميليشيات المسلحة قديمة في القارة، ارتبطت تكوينها بالنظام القبلي الذي يشكلها عادة من مدنيين مسلحين، يقومون بمهام حماية المجتمعات المحلية والعرقية من التهديدات المختلفة، وذلك نتيجة عجز الدولة أو فشلها في القيام بهذه الوظائف.
ثم ما لبثت الأنظمة الحاكمة أن احتضنتها، في سياقات وتجارب مختلفة، وبمسميات عديدة مثل: الحرس المحلي أو جماعات الدفاع عن النفس أو القوات الرديفة أو حرس الأدغال أو الحماة... تعمل لمصلحة الدولة، ويحدث أحيانا أن تحل محلها في أداء أعمالها، لكن تحت أعينها ورقابتها. فكثير من هذه القوات صار سلاحا فعالا في أيدي النخب السياسية تخسره لتحقيق أهدافها، خصوصا تلك التي تتقاطع مع الأحزاب السياسية في الأصول الإثنية أو العرقية.
تكاد القوات الموازية تكون ملازمة لدولة ما بعد الاستعمار في إفريقيا، بعد فشل الدولة الحديثة في بسط الأمن والحماية وحماية الحدود والحد من التمرد والانفصال. فظهرت في نيجريا على سبيل المثال، لأول مرة عام 1983، بعد عجز حكومة الجنرال محمد بخارى على تطويق الجريمة في البلد. ما دفع جهاز الشرطة إلى احتضناها للمساعدة على توفير الأمن للأهالي في العديد من الولايات الفدرالية. وقبل أشهر قليلة، أعلنت حكومة إقليم بينو عزمها إنشاء جهاز أمني يعتمد على هذه القوات قصد مساعدة جهاز الشرطة في القيام بواجباته الأمنية.
تعد القوات الموازية من أكبر الفاعليين المسلحين في مختلف أقاليم إفريقيا، فأحدث التقارير تتحدث عن كونها ثالث أكبر قوة مسلحة في منطقة بوركينا فاسو بعد الجيش وتنظيم ولاية غرب إفريقيا، وامتد نفوذها إلى 35 مقاطعة شهدت المئات من الاشتباكات التي أودت بحياة الآلاف من الأفراد، دون أن تنجح الأنظمة المتعاقبة على الحكم في البلد من تفكيكها أو حتى تحقيق الأمن دون الاستعانة بها، كما هو الحال مع الرئيس إبراهيم تراوري.
شهدت مالي بدورها مبكرا قوات موازية فيما يعرف بحركات الدفاع الذاتي، فتشكلت في شمال البلاد قوات محلية من السكان الأصليين، تسعى إلى حماية السكان المحليين، وتحديدا المجتمع الفولاني من تمرد الطوارق، دعمتها الدولة لمساعدتها على تطويق ثورة الطوارق. لكن سرعان ما تحولت بعد دخولها في تحالف لتحرير مناطق الشمال (مليشا غاندا كوي وغاندا إيزو...) من قوات حماية إلى قوات معتدية تعمل على تنفيذ إبادة جماعية.
يبقى إصدار الحكومة في موزمبيق مرسوما، في 5 أبريل/ نيسان، يقضي باحتضان مليشيات الدفاع عن النفس المحلية لمساعدتها على دحر المتطرفين في ظل استمرار قتالهم في محافظة كابو ديلجادو، أحدث احتواء رسمي للقوات الموازية من جانب الحكومة لدعمها في تثبيت الأمن، فقد سمحت هذا المرسوم برفع مستوى التنظيم والإمداد والتموين للمليشيات من لمساعدة الجيش على التصدي لزحف المتمردين.
من الغرب إلى الشرق مرورا بالوسط؛ في السودان مع تجربة "قوات الدعم السريع"، وفي إفريقيا الوسطى مع مليشيات "الأنتي بالاكا" و"السيليكا"، وحركة "23 مارس" ومليشيا "كوديكو" في الكونغو، ومليشيا "فانو" في إثيوبيا، و"جيش الرب" بأوغندا... تمتزج السياسية بالاقتصاد وتتقاطع المصالح تارة، وتتعارض تارة أخرى فاتحة المجال أمام الاحتضان والتبني من قبل الحكومات؛ سواء في البلد حيث تتواجد تلك القوات أو من بلدان مجاورة.
أيا يكن طبيعة التواجد العسكري داخل الدول الإفريقية، فإن دلالة عودة الجنود المرتزقة، سواء كانوا وافديين أو أبناء القارة، واحدة في نهاية المطاف، فهي تدل على ضعف السيادة الوطنية في ربوع القارة، وعجز النخب السياسة بعد عقود من الزمن، عن تأسيس دولة ذات قدرة على إقامة مؤسسات عسكرية وأجهزة أمنية تضمن الحماية لأفراد والثغور.
وضع يرتقب أن يزداد مستقبلا نتيجة احتدام الصراع بين القوى الكبرى على موارد ومعادن إفريقيا، ما يفتح شهية الشركات العابرة للحدود في مجال الخدمات الأمنية والعسكرية للإقبال على القارة. كما يشجع في ذات الوقت المليشيات المحلية؛ عرقية كانت أو مناطقية... على التحرك في المشهد لضمان تسويق أمثل واحتضان أفضل.