تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الخميس 19 سبتمبر 2024

رأي

الديون الإفريقية.. وجه آخر لاستباحة القارة

2 مارس, 2024
الصورة
depts
Share

 

اقترح وولي سوينكا؛ الأديب النيجيري الحائز على جائزة نوبل عام 1986، مطلع تسعينيات القرن الماضي، في كلمة بعنوان "الثقافة والذاكرة والتقدم"، أمام البنك الدولي، في أبريل/ نيسان 1992، فكرة نبيلة، ليتها تتحقّق يوما، مفادها "إسقاط ديون إفريقيا كتعويض عن العبودية"، وأضاف في نهاية خطابه، فيما يشبه الاستدراك، قائلا: "إذا كانت كلمة تعويض ستمثل مشكلة، فإنني أقترح كلمة إلغاء".

أكثر من ثلاثة عقود مضت على أمنية الرجل، دون أن تُفلح إفريقيا في مكافحة لعنة الديون، فأحدث التوقعات، برسم العام الجاري، تؤكد أن معضلة الديون ستشكل عائقا رئيسيا للنمو في القارة الإفريقية. فمنذ عام 2010، تضاعف الدين العام للقارة ثلاث مرات تقريبا، ليصل إلى 1,8 تريليون دولار أمريكي، عام 2022. وتوقع الاتحاد الإفريقي أن يظل متوسط نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي مرتفعا؛ إذ يُرتقب أن تبلغ النسبة %65 في عام 2024، بعدما كان عند حدود %35 فقط عام 2019.

يبدو أن عام 2024 هو عام الحساب الاقتصادي بامتياز، لعدد من البلدان الإفريقية، مع حلول أجل سداد الديون، ما يعني أن الحديث عن الديون الإفريقية سوف يحتدم على مدار العام الجاري. فقد كشف البنك الدولي أن 9 دول إفريقية (إثيوبيا، غانا، زامبيا، تشاد...) تعاني، في الوقت الراهن، من ضائقة الديون؛ أي أنها في وضعية المتعثر عن سداد الديون، فيما تُصنًّف 15 دولة في خانة المعرضة بشدة لخطر التعثر، وهناك 14 دولة أخرى مصنفة على أنها عرضة لخطر متوسط.

يرخي هذا الوضع بظلاله على الأحوال داخل هذه الدول، فخدمة الدين الخارجي تؤثر بشكل مباشر على التوازنات المالية، وتجبر الحكومات على تبني سياسات قاسية، تنعكس على الأحوال الاقتصادية والاجتماعية، فسداد أقساط الديون يكون من عائدات الدولة المحدودة يكون على حساب تقليص ميزانيات قطاعات أخرى، لا سميا القطاعات الاجتماعية مثل: التعليم والصحة والثقافة... لأنها من وجهة نظر رجال السياسة قطاعات غير منتجة. يكفي هنا أن نذكر أن القارة تنفق على الديون أكثر مما تنفق على الرعاية الصحية. فضلا عن ذلك، تعمل الديون على استنزاف احتياطيات الدول من العملة الصعبة.

تفيد الأرقام بأن 19 دولة إفريقية (كينيا، ساحل العاج...) أكثر من 1/5 من إيراداتها خلال عام 2024 لصالح خدمة الديون الخارجية، وتصل نسبة الإنفاق على الدين الخارجي كمتوسط بالنسبة للقارة الإفريقية %17 من الموارد، برسم العام الجاري. ويرتفع الرقم ليصبح مأزقا في بعض الدول، كما هو الحال مثلا في نيجيريا التي أنفق العام الماضي %96 من عائدات الضرائب على الديون، ويتوقع أن تنفق أكثر من %60 من الإيرادات على هذه الخدمة حتى عام 2026.

خوفا من ذلك المصير، وحفاظا على "السمعة" فضلت دول الزج بنفسها في دوامة الاستدانة، على غرار السنغال التي حاولت ترتيب احتياجاتها التمويلية مبكرا، تفاديا للوقوع في مثل هذه المخاطر التي باتت تواجه دول عدة في القارة، فبادرت السنة الماضية، بحسب وزير المالية والميزانية السنغالي، إلى اقتراض 976 مليون دولار؛ أي ما يعادل 604 مليار فرنك إفريقي، لتغطية متطلبات خدمة الدين في الربع الأول للعام الجاري.

بعيدا عن أرقام الديون التي تزيد الوضع القاتم في إفريقيا قتامة، صار موضوع الدين مؤخرا مدار سجال، بين الدول الكبرى في العالم. فدول المعسكر الغربي لا تتردد في اتهام الصين بمحاصرة افريقيا بالديون، وشاع الحديث عن إمعان بكين في ممارسة "دبلوماسية فخ الديون" تجاه بلدان القارة، ما يؤدي بها إلى فقدان السيادة في ظل الغموض الذي يلف الكثير من هذه القروض. يذكر أن الصين منحت، ما بين عامي 2000 و2022، قروضا بلغت 696 مليار دولار ل 49 دولة افريقية، في مقدمتها أنغولا وإثيوبيا ثم زامبيا وكينيا ونيجيريا.   

وأحيانا، يصبح الأمر مجال مزايدات سياسية، فقد بات حاضرا على هامش كل قمة تكون افريقيا طرفا فيها (أمريكا أو الصين أو روسيا أو الهند أو اليابان أو حتى إيطاليا!)، فلا يكاد البيان الختام لهذه القمم يخلو من فقرة موضوعها إعادة جدولة أو إلغاء ديون دول بعينها. قرارات تبقى بعيدة كل البعد عن مراد أو مبتغى سوينكا، فغالبا ما تكون محكومة بحسابات سياسية أو بسياقات معينة، كما جرى في قمة "روسيا إفريقيا" مع دول شرق إفريقيا أو "فرنسا إفريقيا" مع دول غرب إفريقيا.

مهما تغيرت لغة الخطاب وتجددت الشعارات لا تزال دول العالم تنظر إلى القارة الإفريقية كفضاء مستباح؛ فمن نهب الثروات الطبيعية (المواد الطاقية والمعادن...) والانتفاع بالموارد البشرية (هجرة الأدمغة والكفاءات) إلى الاستغلال البشع لحاجيات هذه الدول إلى تمويلات للمشاريع وموارد للبرامج التنموية، بتوريطها في قروض تضبط، بشكل قسري، الأجندات الحكومية، وتوجه السياسات العمومية المحلية، حتى يصبح العناية بدفع الديون وفوائدها أولى من الاهتمام بغذاء وصحة وتعليم وأمن الإنسان الإفريقي. 

هكذا، يصبح مستقبل أجيال بأكملها رهين جشع دول بالنهب المستمر لبقية العالم، دون أن يدرك هؤلاء أن الإمعان في مثل هذه الأساليب (الإغراق بالديون) عادة ما يكون له مفعول عكسي. فتوالي الصعوبات الاقتصادية لبلدان القارة يجعلها وجهة غير آمنة للمستثمرين، ما يزيد من نسب التوتر التي تجعل الاستقرار مفقودا في هذه الدول، فتصبح الهجرة خيارا لا بديل عنه للبقاء على قيد الحياة، لحظتها فقط سيدرك هؤلاء أن "سياسة الاستباحة" فتحت أبواب الجحيم عليهم... فهل من مستجيب لأمنية الأديب سوينكا قبل فوات الأوان؟