الجمعة 22 نوفمبر 2024
يبدو وكأن الشرق والغرب الإفريقيين في تناوب بينهما، فلا تنقضي فترة زمنية حتى يهتز أحدهما على أن يعقُبه الآخر بعد حين، فما استقرت الأوضاع، ولو ظاهريا على الأقل، في بمنطقة غرب افريقيا حتى انتفض الشرق، باضطرابات حادة في كينيا، شهر يونيو/ حزيران الماضي، أوشكت على إحراق البلاد، لولا تدخل الرئيس وليام روتو. سرعان ما انتقلت العدوى إلى جارتها أوغندا، حيث قابلت حكومة يوويري موسيفيني، الاحتجاج الشعبية السلمية ضد انتشار الفساد في البلاد بالقمع والاعتقالات في صفوف المتظاهرين.
عاد الغرب الإفريقي للانتفاضة، مطلع الشهر الجاري، باندلاع موجة احتجاجات شبابية في نيجيريا، ترفع شعار "ضعوا حدا للحكم السيء في نيجيريا"، وكأن صدى أفارقة شرق القارة قد وصل إليهم. فالاحتجاجات كشفت عن منسوب عال من السخط الشعبي ضد الأداء الوظيفي للنظام الحاكم، بقيادة الرئيس بولا أحمد تينوبو الذي قضى سنة وزيادة في الرئاسة (29 مايو/ آيار2023).
أعادت هذه الأحداث إلى الذاكرة الانتفاضة التي حدثت في خريف عام 2020، إبان حكم الرئيس الأسبق محمد بخارى. وأعادت إلى الواجهة متوالية غير منتهية من الأسئلة حول نيجيريا، صاحبة الثورة الطبيعية؛ أول منتج للنفط في إفريقيا، والبشرية؛ أكبر بلدان القارة من حيث الديمغرافيا حاليا، مع توقعات بتجاوزها الولايات المتحدة في أفق عام 2050، وحتى العسكرية؛ فهي، بحسب تصنيف موقع غلوبل فاير باور، رابع أقوى جيش بالقارة والأول بمنطقة الغرب الإفريقي.
قفزت نيجيريا عام 2013 إلى صدارة اقتصادات القارة الإفريقية، متجاوزة جنوب افريقيا، بفضل إنتاجها النفطي الكبير، فهي الأولى قاريا منذ عام 1979، بإنتاج بلغت نحو 200 ألف برميل يوميا، قبل أن يتراجع إلى 1,6 مليون برميل يوميا، بسبب لصوص النفط في خليج غينيا ودلتا النيجر. فضلا عن امتلاكها سادس احتياطي عالمي من البترول؛ والأول قاريا من الغاز الطبيعي، والمعادن (القصدير والذهب والرصاص والزنك...).
صدارة القوائم، وبلوغ الناتج المحلي الإجمالي 477 دولار، لم تنعكس مطلقا على واقع المعيش اليومي للمواطنين في البلد، فنصيب الفرد من الناتج الإجمالي لا يتعدى 2065 دولار. وتصنفت بيانات "ساعة الفقر العالمي" (2022) اعتبارها أول دولة من حيث الفقراء في القارة، فنسبة الفقر، وفقا لبيانات البنك الدولي، تصل إلى 40٪؛ أكثر من 70 مليون نيجيري، فيما بلغت نسبة الفقر المتعدد الأبعاد 63٪.
ولم تؤثر كذلك في المؤشرات الاقتصادية للبلد، فالدين الخارجي واصل الارتفاع، خلال حكم الرئيس محمد بخارى، بانتقاله من 7,3 مليارات دولار، عام 2015، إلى 43 مليار دولار عام 2023. وبلغ عجز الموازنة العامة حوالي 6,5 مليارات دولار، ووصل التضخم مستويات قياسية، منذ ثلاثة عقود، حيت بلغ 34٪ شهر يونيو/ حزيران. أما البطالة فتمس 1/3 من سكان البلد، مع توقعات ببلوغها 40,6٪ متم العام الجاري، وترتفع في صفوف الشباب لتبلغ نسبة 42,5٪.
وازداد الوضع تفاقما مع الرئيس الحالي، فسعر صرف العملة المحلية تراجع بشكل تدريجي، حيث انتقل من 197 نيرة مقابل الدولار عام 2015 إلى 790 نيرة مقابل الدولار عام 2023. قبل أن يدخل مرحلة التهاوي الحر، مع وصول تيونوبو إلى الحكم، حيث فقدت 70٪ من قيمتها، لتبلغ أكثر من 1600 نيرة حاليا.
هذه الأوضاع المتردية كافية لإخراج المواطنين للشوارع، لكن ذلك لم يحدث حتى إعلان الرئيس عددا من الإصلاحيات، في شهر مايو/ آيار الماضي، بهدف خفض الإنفاق الحكومي، من جملتها إلغاء الدعم على الوقود، ما ضاعف أسعارها ثلاث مرات، حيث وصل اللتر الواحد من البنزين نحو ألف نيرة، ما انعكس بدوره على أسعار المواد الغذائية.
تفجر الغضب الشعبي، مدعوما بنجاح الكينيين في تحقيق مطالبهم، فخرج آلاف المتظاهرين في مختلف المدن، بما في ذلك العاصمة أبوجا ولاغوس المدينة التجارية، منددين بالسياسات الاقتصادية للحكومة، وسوء الإدارة والتدبير، وانتشار الفساد فمؤشر مدركات الفساد لعام 2024، صنف البلد في المركز 145 عالميا من أصل 180 دولة.
أدرك الرئيس أن هذه الاحتجاجات، وبخلاف ما حدث عام 2020 ضد وحدة "سارس" في الشرطة، تضعه هدفا مباشرا لها. فسارع إلى التفاعل مع المحتجين، في خطاب تلفزي، طالب فيه بوقف التظاهر لإتاحة فرصة للحوار، قائلا: "سمعتكم بوضوح. أتفهم الألم والاستياء اللذين يؤججان هذه الاحتجاجات، وأريد أن أؤكد لكم تصميم حكومتنا على الاستماع لمخاوف مواطنينا ومعالجتها".
ترافقت مطالب التهدئة بعنف من جانب قوات الأمن، أسقط عددا من الضحايا والمصابين والمئات من المعتقلين في صفوف المتظاهرين، مع تهديد المفتش العام للشرطة، كايودي إيجبيتوكون، بطلب مساعدة الجيش لوقف "الفوضى". سرعان ما تفاعل رئيس هيئة الأركان، كريستوفر جوابين موسى، بشكل إيجابي مع المطلب، مؤكدا في مؤتمر صحفي على "أن الجيش سيتدخل عندما يتجاوز الأمر الحدود، وبإمكانكم رؤية عناصر تخريبية تدفع الأفراد لحمل أعلام روسيا في نيجيريا، وهذا تجاوز للخطوط الحمراء، ولن نقبل ذلك".
اضطرت النظام الحاكم، مع اتساع نطاق الاحتجاجات، إلى فرض حظر للتجوال في خمس ولايات شمالية، مع تغيير في لهجة الخطاب الرسمي تجاه المحتجين، نتج عنه تدبدب في اختيار طبيعة المقاربة لمواجهة المنتفضين؛ إما التفاعل والاستجابة على غرار ما جرى في كينيا، أو القمع والاضطهاد مثلما حدث في أوغندا.
استقرت الحكومة على خيار التصدي بالقوة للمتظاهرين، بعدما خاطب الرئيس المواطنين قائلا: "إن حكومتنا لن تقف مكتوفة الأيدي، وتسمح لمجموعة قليلة لديها أجندة سياسية واضحة بتمزيق هذه الأمة". هكذا استطاعت الحكومة، وبسهولة، الالتفاف على المطالب، فبدل التركيز على الأزمات الاجتماعية والمشاكل الاقتصادية (غلاء الأسعار والتضخم والبطالة والأمن الغذائي...)، انحصر النقاش في اتهام المحتجين بالعمالة والولاء لجهات خارجية، وتحديدا الأجندة الروسية النشيطة بقوة في المنطقة.
استغلت النظام إثباتا لمزاعمه، سخرية المحتجين من خطوة توزيع 720 شاحنة من الأرز على ولايات البلاد 36 لمواجهة الجوع، ورفع الحد الأدنى من الأجور من 30 ألف نيرة (18 دولار) إلى 70 ألف نيرة (43 دولار)، والتي كانت جوابا منهم (السخرية) على إمعانه النظام في البذخ والإنفاق، بشراء طائرة رئاسية جديدة بنحو 100 مليون دولار، وتخصيص 21 مليار نيرة لتجهيز إقامة جديدة لنائب الرئيس.
تأكيدا لروايتها أقدمت الشرطة السرية على اعتقال خياطين، في ولايات بورنو وكادونا وكانو وكاتسينا الشمالية، قاموا بصناعة أعلام روسية تم التلويح بها خلال الاحتجاجات. في المقابل، سارعت السفارة الروسية في أبوجا إلى نفي إي تورط لها في موضوع الأعلام، مؤكدا في بيان لها بأن "المسؤولين الروس لا يشاركون في هذه الأنشطة، ولا ينسقونها بأي شكل من الأشكال".
ما يحدث في البلاد نتيجة طبيعية للإصلاحات التي أقدم عليها الرئيس الجديد، بحسب عدد من الخبراء، فهي بمثابة انطلاقة لميثاق اجتماعي جديد للتنمية في البلاد. فيما يرى أخرون خلاف ذلك، فلا يقبل من بلد يقدم نفسه رائدا في إفريقيا، ولاعبا محوريا في المنظمة الاقتصادية لغرب افريقيا "الإيكواس"، أن تسجل كهذا أرقام مخجلة؛ أول منتج للنفط في القارة يعيش 40٪ من شعبه بلا كهرباء!
قد ينجح النظام الحاكم أبوجا، مثل نظيره في كامبلا بالشرق، في قمع الاحتجاجات وتطويقها مؤقتا، بحلول ترقيعية لا تمس في شيء الأعطاب المحدقة بالبلد من كل جانب، بتدشين إصلاحات اقتصادية بنيوية، ترفع البلاد إلى مصاف الدول ذات الحكم الديمقراطي الرشيد، وفي المقابل تضع حدا للفساد الإداري المستفحل، حتى بات 2/3 من السكان في دائرة الفقر. فهو الثابت الوحيد في الحكومات المتعاقبة، ما أفقد البلاد منذ الاستقلال نحو 400 مليار دولار.
لكن خطر انفجار الوضع مستقبلا يبقى قائما، وتزيد المتغيرات الإقليمية والصراع المحتدم من بالمنطقة من فرص حدوثه، خصوصا أن القوى الكبرى المتصارعة حول المنطقة (الصين وروسيا وفرنسا والولايات المتحدة...) تسعى جاهدة لضمان اصطفاف نيجيريا إلى جانبها، باعتبارها أكبر قطب اقتصادي في غرب افريقيا، وصانعة القرار في تجمع الإيكواس، وصاحبة دور مركزي في صناعة سياسات الطاقة العالمية.
يمكن القول بأن ما حدث في نيجريا، وبصرف النظر عن كينيا وأوغندا مجرد ناقوس للخطر يدق في وجه النظام في أبوجا، يدعوه إلى تدارك الوضع بتدشين صفحة جديدة في الحكم والتدبير، قبل بلوغ نقطة اللاعودة، ولهم في الأنظمة المجاورة خير مثال على ذلك، وتزيد تهديدات التنظيمات المتطرفة من مخاطر وصول تكل النقطة، بانزلاق البلاد إلى دوامات العنف والاقتتال الداخلي.