الجمعة 22 نوفمبر 2024
تستضيف بكين القمة الدورية لمنتدى التعاون الصيني الإفريقي (فوكاك)، ما بين 4 و6 من شهر سبتمبر/ أيلول الجاري، تحت شعار "التكاتف من أجل التحديث وبناء مجتمع صيني إفريقي ذي مستقبل مشترك" في سياق خاص، سمته علاقات جيدة بين الطرفين. فقد حافظت الصين، طيلة 15 عاما، على مركز الصدارة في قائمة الشركاء التجاريين لإفريقيا، بتحقيقها، عام 2022، ما قيمته 281,1 مليار دولار، بزيادة سنوية قدرها 1,5٪، وبنحو 11٪ مقارنة بعام 2021. ولا يزال النمو المطرد مستمرا، خلال النصف الأول من العام الجاري، بتسجيل مبادلات بقيمة 1,19 تريليون يوان؛ أي حوالي 167 مليار دولار، ما يمثل ارتفاعا ب %5,5 على أساس سنوي.
يحتفل منتدى التعاون الصيني الإفريقي، العام القادم، بمرور ربع قرن على تأسيس هذه الآلية الفعالة للتعاون والتشاور، وهذا المنبر للحوار الجماعي بين بكين وإفريقيا، الذي استطاع أن يجذر أواصر الصداقة بين الجانبين، فباتت الصين الأكثر حضورا في القارة الإفريقية، بعد انضمام 33 دولة إلى مجموعة أصدقاء مبادرة "الحزام والطريق"، وهو ما يمثل أكثر من 40٪ من إجمالي الدول الأعضاء في المبادرة حول العالم. بذلك تصبح الصين البعيدة جغرافيا الدولة الأكثر تأثيرا في افريقيا، متفوقة على الكثير من الدول والكيانات القريبة جدا من القارة. فكيف استطاعت بكين التفوق على واشنطن وبروكسيل ولندن؟
تحدث وزير الخارجية الصيني وانغ يي، في مؤتمر صحفي، شهر مارس/ آذار الماضي، عن عرف دبلوماسي صيني نحو افريقيا، يتعلق باتباع وزراء خارجية الصين تقليدا استمر أزيد من ثلاثة عقود، يجعل من إفريقيا المحطة الأولى في زياراتهم السنوية للخارج، وهو "تقليد فريد لا مثيل له في تاريخ التبادلات الدولية، وذلك لأن الصين وإفريقيا تجمعهما الإخوة وتعاملان بعضهما البعض بإخلاص وتتشاركان مصيرا مشتركا... لقد حاربنا كتفا بكتف ضد الإمبريالية والاستعمار، لقد دعمنا بعضنا البعض في السعي لتحقيق التنمية، لقد دافعنا دائما عن العدالة في خضم مشهد دولي متغير".
من جهته، صرح مساعد وزير التجارة الصيني، تانغ ون هونغ، في 21 أغسطس/ آب الماضي، على هامش الاستعداد للنسخة التاسعة من المنتدى الصيني الإفريقي، معلقا، فيما يشبه التفسير، لما تحقق من نتائج إيجابية بين الطرفين، بقوله: "التعاون الاستثماري والتجاري بين الصين وإفريقيا مدفوع ببرامج تهدف إلى تعزيز التجارة والاستثمار والحد من الفقر والتنمية الزراعية".
تجاوزت استثمارات الحكومة الصينية في إفريقيا، وفق ذات المتحدث، 40 مليار دولار بنهاية العام الماضي. فيما بلغت قيمة المشاريع التعاقدية للشركات الصينية (القطاع الخاص)، خلال العقد الماضي، 700 مليار دولار. بذلك تكون الصين واحدة من أكبر مصادر الاستثمارات الأجنبية في القارة.
لكن المثير في الاستثمار الصيني بإفريقيا هو انحيازه إلى المزج ما بين المشاريع الضخمة والعملاقة في القطاعات الاستراتيجية، مثل البنية التحتية والصناعات التحويلية والطاقة والخدمات، والمشاريع الصغيرة المهمة في دفع عجلة التنمية الاجتماعية المحلية، من بناء للمستشفيات والمدارس وتشييد للجسور والملاعب في المناطق النائية، ما يساهم في تحسين ظروف عيش الإنسان الإفريقي.
جواب المسؤول الصيني الممعن في الدبلوماسية تفضحه مؤشرات وأرقام الاقتصاد، فاستمرارية الحيوية الصينية في إفريقيا عائد بالدرجة الأولى لكون اقتصاد الصين وإفريقيا متكاملان إلى حد كبير. فبكين ترى في القارة شريكا استراتيجيا لتأمين إمداداتها من الطاقة، لا سميا الطويلة الأجل والمواد الأولية لدعم عملية التصنيع. كما أنها، وبشكل خاص، موطن 60 % من المعادن الحرجة والنادرة التي تعتبر أساس الصناعة الحديثة.
لكن الصين لا تُمعن في إظهار حاجتها لموارد القارة بقدر ما تقدم نفسها منقذا لإفريقيا، لا سميا بعد إطلاقها مبادرة طريق الحرير عام 2013، فاستثمرت في كل شيء تقريبا هناك، كأنها تحسن إلى الأفارقة، وهي تدرك من خلال وقائع سابقة أنها الرابح الأكبر من العملية، سواء من تجربها مع نفط السودان، باستثمارات الضخمة في شركة النيل الأعظم النفطية بعد انسحاب الولايات المتحدة عام 1995. وقبلها مع نحاس زامبيا الذي يصلها عبر شبكة سكة حديد بطول 1860 كيلومتر، بين دار السلام وكابيري مبوشي، أقامتها قبل نصف قرن. وحاليا مع نفط النيجر، عبر خط أنابيب صيني، إنشاء وتمويلا وتدبيرا، يمتد على مسافة 2000 كلم، من حقل أغاديم حتى سواحل البنين.
تعتمد بكين على مزيج من الأساليب لتحقيق التغلغل الاقتصادي في افريقيا، فإلى جانب شعارات اقتصادية، مثل "رابح رابح"، تعزز حضورها ببهارات سياسية حتى تسهل ولوج الأقطار الإفريقية، فتارة تقدم نفسها متحدثة باسم "الجنوب العالمي"، فهي نموذج فعال للتعاون الإنمائي بين بلدان الجنوب. وتارة أخرى، تعلن أن تعاملها مع إفريقيا مقيدة بالمبادئ الخمسة للتعايش السلمي للحزب الشيوعي الخمسة، التي تؤكد على الاحترام المتبادل لسيادة الدول، وعدم الاعتداء المتبادل، وعدم التدخل المتبادل، والمساواة والمنافع المتبادلة، والتعايش السلمي.
شرعت الصين في تعزيز القوة الناعمة (التجارة والاقتصاد) التي رفعتها شعارا يسهل دخولها إفريقيا، بنفوذ عسكري بدأ يزداد، في الآونة الأخيرة، حجما ونطاقا، في اتساق وتناغم مع التواجد الصيني الوازن بالقارة. تباين مسوغات بكين لتبرير الحضور العسكري بين الحاجة إلى حماية الشركات وتأمين المصالح الصينية من هجمات المسلحين تارة، وتارة أخرى استجابة لطلبات وحاجيات الأفارقة لتأهيل قواتهم العسكرية، لمواجهة خطر العنف المتنامي في العديد من المناطق.
شكّل إنشاء أول قاعدة عسكرية صينية في الخارج، وتحديدا في دولة جيبوتي بشرق افريقيا، عام 2017، بداية النفود العسكري الصيني في القارة، لتتولى بعدها المؤشرات على بلورة الصين استراتيجية جديدة تتجه نحو العسكرة في إفريقيا. فعلى سبيل المثال، خلال منتدى الدفاع والأمن الصيني الإفريقي، عام 2018، شجعت بكين الزعماء الأفارقة على التفكير في بناء القدرات الأمنية، فضلا عن زيادة التعاون الدفاعي وتعميق العلاقات العسكرية بين الطرفين.
حاول الرئيس الصيني تسويق التوجه الجديد بالقول إن المنظور الصيني للأمن متشابك بشكل وثيق مع التنمية الاقتصادية، ما عزز الدبلوماسية العسكرية في القارة، فخلال عشر سنوات ارتفع عدد المحلقين العسكريين الصينيين بإفريقيا، من 10 ملحقين (2013) إلى 27 ملحقا (2023)، منهم 8 ملحقين بمنطقة غرب إفريقيا.
ارتفعت إيقاع التعاون العسكري مؤخرا، بشكل مثير، في أكثر من منطقة بالقارة، فصيف العام الجاري؛ ما بين يوليو/ تموز وأغسطس/ آب، تم الإعلان عن إجراء تدريبات عسكرية تكتيكية باسم "وحدة السلام 2024" مع كل من تنزانيا وموزمبيق جنوب شرق القارة. وهناك في الغرب الإفريقي حيث المنافسة على أشدها مع واشنطن وحلفائها، منحت بكين، منتصف شهر أغسطس /آب الماضي، القوات المسلحة في البنين معدات عسكرية بهدف تقوية الجيش البنيني. تنضاف إلى أربع مسيرات قدمتها بكين، السنة الماضية، مساهمة منها في تعزيز أمن البلد.
تمثل أشغال المنتدى فرصة مثالية للجانبين لبث رسائلهم إلى الأخرين، خاصة الصين التي تنظر إلى افريقيا باعتبارها منطقة أسقطت فيها كبرياء الغرب. فيما يعتبر الزعماء الأفارقة الصين مثالا نموذجيا للشراكة التي لا تهتم مطلقا بالديمقراطية، وتبتعد كثيرا عن السياسة، ما عدا تشييد أو ترميم البرلمان، فدراسة لمؤسسة ألمانية تفيد بأن الشركات الصينية أقامت أو أصلحت أكثر من 15 برلمانا في إفريقيا.
يشكل أيضا لحظة لاستعراض الجانب الصيني أمام المشاركين والإعلام منجزاته في إفريقيا، وما أكثرها، دون استغراق في الجزئيات والتفاصيل حيث تظهر حقائق أخرى، تكشف جوانب من السياسة الصينية تجاه القارة، وتختبر صدقية التعاون والإخوة والشراكة والندية... وهلم جرا من الشعارات التي ترفعها الصين، حين تقدم نفسها بديلا عن سياسة النهب واستنزاف الغرب.
يكفي التذكير بأن القمة تنعقد فيما بدأ الأفارقة يستشعرون العواقب الاقتصادية للديون التي لا يمكن تحملها، فقد انتفضت أكثر من دولة افريقية، في الشرق والغرب (كينيا وأوغندا ونيجريا)، بسبب المشاكل الاقتصادية التي تمثل الديون عصبها. فاقتصاديات عدد من الدول وجدت نفسها في مرمى مدفعية الديون، لم تخلصها سوى مبادرة تعليق سداد أقساط الديون التي أطلقتها مجموعة العشرين، وجرى الاتفاق فيها مع بنك التصدير والاستيراد الصيني، شملت 31 دولة في إفريقيا، وبلغت قيمة نحو 8 مليارات دولار، كلها نتيجة استقبال استثمارات صينية في القارة الإفريقية.
لكن ذلك لم يوقف السياسة الصينية تجاه افريقيا، فالاستثمار الصيني الذي يقوم على البوابة الاقتصادية والمالية بعيدا عن السياسة كما يقدم نفسه، على ما يبدو يفرط في استخدام العضلات المالية، ما يؤدى إلى إغراق القارة في دوامة الديون، فتركيز الاستثمارات على ثنائية "البنية التحتية" و"التعدين"، بحسب الباحث الاقتصادي تيم زاجونتز، أسقط الكثير من الدول في "فخ الديون".
صحيح أن الأرقام بين الطرفين ذات منحى تصاعدي، لكنها تبقى بلا أثر كبير على الواقع الإفريقي، فالتقارير تفيد بأن الصين هي المستفيد الأكبر، فخلال الفترة ما بين 2000 و2022، كانت 89٪ من صادرات إفريقية نحو الصين مواد خام معظمها نفط ونحاس ومواد مستخرج. ناهيك عن تركز حوالي 2/3 من إجمالي هذه التجارة مع القارة في 8 دول فقط من أصل 54 دولة إفريقية، فمتى وكيف يمكن تحقيق التنمية المنشودة في ظل هذه المعطيات؟