الجمعة 22 نوفمبر 2024
كتابة الجسد مخاطرة أشبه ما تكون بالسير في حقل ألغام، ليس لأن هذه الكتابة تجترح نصوصا جريئة تكسر التابوهات في الثقافة السائدة فحسب، بل لأنها أيضا تكشف عن علاقة مرتبكة ومشوهة أحيانا مع الجسد، وتناقضات التعاطي معه بين الفضاءات الخاصة والعامة. وتسعى إلى إعادة قراءة وتأويل المقدس، وبالتأكيد ستستدعي تلك الكتابة قضايا المرأة وشجونها؛ إذ أن جسدها كان دوما - وسيظل - المحدد الأساسي لعلاقتها بالآخر / الرجل، وبالعالم من حولها.
تنطلق الفيلسوفة والناقدة الأدبية الفرنسية؛ هيلين سيكسوس، من اعتقاد مفاده أن "لكل امرأة حكايتها الخاصة التي ترغب في روايتها"، وأن المرأة "تستطيع أن تروي حكايتها بدقة أكبر عبر جسدها". وبما أن تأثير الرجل بالغٌ في تشكيل مفردات اللغة ودلالاتها ومواضعاتها؛ فإن سيكسوس تدرك أن المرأة الكاتبة تتحرك في مجال تداولي يخضع لسلطة خطاب الرجل، إلا أنها تُعوِّل على المرونة الأزلية للغة، وقابليتها للتطور، وتأثرها بثقافة من يستعملونها في التفكير والكتابة.
استخدام الجسد كمنطلق للكتابة عند سيكسوس هو فعل سياسي احتجاجي، من الدرجة الأولى، على القمع أو محاولات الإلغاء من قِبل السُّلطة؛ أيّا كان نوعها. وبالتالي، فهي تحرض أيضا - إلى جانب النساء - أيَّ مجموعة مضطهدة أو مهمشة على توظيف رمزية الجسد في الكتابة.
نستطيع القول ابتداءً أن النصوص الأدبية والفكرية التي تناولت موضوع الجسد، بأقلام نسائية عربية، هي تعبير احتجاجي على الغياب أو على الحضور المنقوص، من خلال منظور الرجل فقط، ومحاولة لمنح الصوت النسائي حق التحدث، عن أكثر المواضيع التصاقا بالمرأة. إلا أنه من المُجحف - بطبيعة الحال - أن نختزل تلك النصوص في إطار واحد، ونضعها كلها في ذات السلة، لمجرد أن "الجسد" - بكل ما يكتنف تناوله من شبهة وارتياب - يجمع بينها كتيمة أساسية؛ فهي تتفاوت في أسئلة الجرأة والدهشة التي تثيرها، وفي جودتها اللغوية، وقوة حبكتها وبنائها العام، وفي موضوعاتها ونضجها، وعمق الأفكار التي تناقشها.
أكثر نصوص الباحثة التونسية ألفة يوسف جرأة بخصوص موضوع الجسد، وردت في كتابها (حيرة مسلمة)، ويمكن القول إن نصوصها إجمالا لا تمثل تسويقا شعبويا لثقافة الجسد، بقدر ما تجسد دعوة للتمرد على سلطة الرجل، المتوسلة باجتهادات الفقهاء، للتحكم بجسد المرأة، واحتياجاتها الجنسية، والتي كثيرا ما تُقابَل بامتعاض ذكوري، يرتبط بخوف الرجل من غموض متعة المرأة، لأنها لا تتصل بعلامة مادية قاطعة. ذلك الغموض - بعبارات ألفة - يجعل متعة المرأة قابلة للإيهام، ومن ثَمَّ قادرة على تشكيك الرجل في فحولته.
إن تشديد الفقهاء بوجوب طاعة الزوج في الفراش، بحسب الكاتب، يستند إلى مخيال اجتماعي سائد في تلك العصور، يتقبل إمكانية امتلاك الإنسان جسد إنسان آخر. هذا المخيال تجسد في عدم اكتراث الفقهاء بمتعة المرأة الجنسية، مقارنة بحرصهم على إشباع شهوة الرجل الجنسية (امتناع الزوج عن مضاجعة زوجته نهائيا بدون سبب - مثلا - أمر جائز عند الشافعية، لأن المضاجعة حق له كسائر حقوقه، وليست واجبة عليه)، والمرأة في تصور الفقهاء - إجمالا - موضوع لرغبات الرجل، ولا تملك من أمرها شيئا.
تشير ألفة إلى مفارقة لافتة في الشريعة الإسلامية؛ تتمثل في إقرارها بأن "الرق" ظاهرة إنسانية سلبية، لا تقرها مقاصد الشريعة، ولكنها تتسامح مع عبودية المرأة للرجل في إطار الزواج. وتتساءل: أليس وجها من وجوه استعباد الحرائر أن ترفض كل التشريعات الإسلامية الاعتراف بالاغتصاب الزوجي ذنبا قانونيا؟ وأليس من أبلغ مظاهر الرق أن إجبار الزوج زوجته على إقامة علاقة جنسية تغدو حقا يكفله القانون؟ تعي الكاتبة تماما الإشكاليات الخطرة التي يطرحها نقدها الجريء للشريعة الإسلامية، بخصوص قضايا المرأة، وهي ترى أن تحرر المرأة الجسدي من سلطة الذكر لا يكون بنبذ الدين، بل بانتقاد الموقف الأصولي الذي يقول بـ "أحادية الحقيقة، ويدعي امتلاكها". ويقسم الأفعال البشرية إلى "حرام بيّن، وحلال بيّن"، مما يفسر سوء الفهم الإسلامي التقليدي للنصوص المقدسة، حيث أظهرها بمظهر من يرفض المساواة، ويجعل المرأة جارية للرجل.
أعمال ألفة يوسف النقدية في النهاية، ليست سوى محاولة لتحريك المياه الراكدة، ومناقشة ما استقر في الأفهام من تأويلات بشرية، غدت بفعل تطاول الزمان من المسلمات، خصوصا فيما يتعلق بقضايا النساء.
إذا كانت ألفة يوسف قد حاولت في كتابها (حيرة مسلمة) تحرير الجسد الأنثوي، من خلال التمرد على تراث الفقهاء، ونقد تأويلاتهم للنصوص الدينية؛ فإن الكاتبة والشاعرة السورية سلوى النعيمي قد سعت في روايتها (برهان العسل) لتثوير - إن صح التعبير - الجسد الأنثوي، باستخدام ذات التراث، ولكن بطريقة مبتكرة. فهرس (برهان العسل) جاء في هيئة أبواب تشبه طريقة الفقهاء في تصنيف كتبهم، والرواية مملوءة باقتباسات مأخوذة من مدونات الفقهاء عن الجنس التي تداخلت ببراعة مع أحداث الرواية؛ في محاولة لاستعادة حضور الجسد الذي لم يكن غائبا عن كتب التراث العربي والإسلامي.
تصور سلوى للإدراك الإنساني يشبه تصور الفيلسوف ديفيد هيوم؛ لأن الوعي - كما تقول - لا يتشكل إلا عبر الإدراك الحسي الذي ينصرف في سياق روايتها إلى "الإدراك الجسدي". رؤية الأنثى للوجود، واكتشافها له، تتم عبر جسدها الذي أصبح وسيطا للتواصل مع الآخرين، ووسيلة للتفاعل مع العالم.
حين سُئلت سلوى إن كانت روايتها تعبر عن تجربة شخصية، أجابت: "كل ما كتبته حقيقي، وكل ما كتبته مُتخيَّل"؛ هذا الجواب يمنحنا صورة موضوعية عن الرواية، لأنه يحمل مضمونا مركبا. فالجزء الحقيقي من الرواية، تُجسِّده المقتطفات المأخوذة من التراث، والجزء المتخيل تمثله بطلة الرواية. وتحرير الجسد الأنثوي هنا، يتم باستدعاء ما هو موجود في التراث، لإحداث شرخ في جدار التابوه "الحقيقي" المحيط بهذا الجسد، وذلك للخروج به إلى فضاء الحرية "المتخيَّل" في أحداث الرواية.
تَجاوُر اقتباسات التراث، ذات النفس الإباحي، مع سرديات الرواية، ذات الطابع الأيروسي، خلق جدلا بينهما في ذهن القارئ. أوجد هذا الجدل مساحة تأويلية، يمارس فيه جسد بطلة الرواية حضوره بأشكال مختلفة، يوحي بأن سلوى ترى "التحرر الذاتي" شرط "التحرر الجسدي"، لأن أحداث الرواية تعبر عن فلسفة يتحرر فيها جسد الأنثى عن طريق الذاكرة الحضارية والخيال الروائي. تحررٌ لا يمكن أن يكتمل إلا بوعي عميق بجذور الرؤية الثقافية التي تصر على اعتقال جسد المرأة. في الباب الأخير من الرواية الموسوم بـ (باب الحيل)، أوردت سلوى مقولة منسوبة لابن عربي، يقول فيها: "برهان حلاوة العسل هو العسل نفسه"؛ وأنا أقول: برهان تحرر جسد الأنثى هو الأنثى ذاتها.
وعلى غرار سلوى النعيمي؛ تَعتبر الصحفية والمترجمة اللبنانية جمانة حداد الكتابة عن الجسد خطابا، يستمد بعض تحريضاته من التراث العربي والإسلامي، الأمر الذي يفسره المعترضون تحرسا ذرائعيا بالتراث، لإسباغ نوع من الشرعية على هذا النمط من الكتابة المستفز. عمدت جمانة من خلال مقالاتها إلى التأكيد على أن الجسد هو حقيقتنا جميعا، وهويتنا الفردية والجماعية والطريق إلى كل منا، وعلامتنا الفارقة التي كثيرا ما تحضر في ثقافتنا حضورا مُدانا ومشوها. وهي إذ تنفي عن نفسها صفة الانسياق وراء العناوين الكبرى المكثفة والضاغطة، مثل "حقوق المرأة" تؤكد أن محركها الأول في الكتابة عن الجسد هو الشغف بالحرية والشعر والكتابة والحب، رغم أنه قد يصعب فصل هذا الشغف عن سياقاته التحررية الضاغطة.
ثمة مسافة بين الذات والموضوع بداخل ثقافتنا في كل مقاربة إشكالية تتعلق بإحدى التابوهات، ولا ينحصر الأمر في الجسد، والسؤال الذي تطرحه جمانة باستمرار هو: ماذا لو حاولنا ردم تلك المسافة؟ ولماذا يتقبل الكثيرون حضور الجسد الطاغي في أعمال "الآخر" الفنية والأدبية والفكرية، بل وربما قدم توصيات تشيد بقيمتها في حين أن حضوره في أعمالنا خطيئة أو جريمة؟ تناقض غريب، يذكرنا بمن يتغنى بالعدالة وتوزيع الثروة والحريات والحقوق المدنية، ويتحاشى تشخيص واقعه أو حتى ملامسته عن بُعد.
علاقة الذات بالجسد علاقة معقدة متعددة الأبعاد؛ فالجسد هو "أول تمظهر للهوية الإنسانية"، والمحيط المادي يعقلن الجسد، ويمنح معنى لوجوده، يختلف حسب الزمان والمكان وطبيعة المؤسسة الاجتماعية. ويشير الفيلسوف الفرنسي موريس ميرلوبونتي - في سياق حديثه عن سبب وصفنا للجنس بـ "الأمر المثير" ورهن حياتنا الشخصية به - إلى أننا نعدُّ أجسادنا مرآة لكينونتنا، لأنها أنفسنا الطبيعية ووجودنا المادي المتدفق. يقود كلام ميرلوبونتي للحديث عن إشكالية إلغاء الجسد الأنثوي بالحجاب الكامل كخيار شخصي؛ هنا ينبغي التمييز بين السيرورة الاجتماعية بخصوص موضوع اللباس الذي يتضمن التطور، بقدر ما يسمح بالتنوع، وبين التأثير الخفي لخطاب الامتلاك الذكوري، علاقة خطاب الامتلاك الذكوري بحجاب المرأة تظهر في الهوامش الملحقة بنصوص الحجاب التي تأمر المرأة بألا تتزين إلا لزوجها، إذ تبرز صعوبة تخليص خيارات المرأة الشخصية، بخصوص علاقتها بجسدها، من إكراهات سلطة الرجل بالنظر لتماهيها - أي تلك السلطة - مع حميمية إنسانية تتمثل المرأة الفاضلة في صورتها المُستترة (المحجبة) أكثر من تمثلها لها في صورتها المرئية خارج الحدود (العارية).