تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الخميس 19 سبتمبر 2024

رأي

المبادرات الخارجية ومصير حرب السودان

5 يونيو, 2024
الصورة
إيغاد
الأمين التنفيذي لهيئة إيغاد ورقنيه جيبياهو (يسار) بجوار رئيس مجلس السيادة الانتقالي السوداني عبد الفتاح البرهان (وسط) ورئيس الوزراء الإيثوبية أبي أحمد (يمين) ) خلال القمة الاستثنائية التاسعة والثلاثين للإيغاد في نيروبي في 5 يوليو 2022. (تصوير توني كارومبا
Share

بلغت الحرب التي اندلعت في الخامس عشر من أبريل/ نيسان 2023 بالعاصمة السودانية الخرطوم أوجها، بعد عام من المواجهات العسكرية العنيفة، بين القوات المسلحة السودانية "الجيش الرسمي" وقوات الدعم السريع "مليشيا شبه عسكرية"، شاركت في حكم البلاد، منذ عام 2019، بعد عزل الرئيس الأسبق عمر البشير.

خلفت الحرب كارثة إنسانية تعد الأكبر في العالم، حيث نزح حوالي ثمانية ملايين شخص داخل السودان، فيما لجأ حوالي 1,7 مليون شخص إلى خارج البلاد، توزعت بين دول جوار السودان، فيما يواجه 25 مليون شخص من إجمالي السكان البالغ عددهم حوالي 40 مليون نسمة خطر المجاعة.

بالنظر إلى مشهد العمليات العسكرية، يمكن أن نقسم السودان إلى ثلاث تصنيفات، وهي : مناطق ذات سيطرة كلية للدعم السريع، وتضم ولايات ( جنوب دارفور/ شرق دارفور/ غرب دارفور/ غرب كردفان، وأجزاء من ولاية الخرطوم والجزيرة وشمال كردفان)، ومناطق ذات سيطرة كلية للحكومة المدعومة من قبل الجيش، ومناطق اشتباكات، وتشمل ثلاث ولايات مهمة تقع في إقليم الوسط، مهددة بالفصل فيما بينها، في حالة لم يتمكن الجيش من تحريرها بحلول فصل الخريف القادم.

تدار معارك مركبة، غربا في إقليم كردفان ودارفور، حيث يساهم التعقيد الأهلي في المعارك بشكل واسع وكبير. ففي إقليم كردفان، تلعب الحركة الشعبية لتحرير السودان بجنوب الإقليم، والتي تسيطر على مواقع مختلفة، منذ عام 2011، دوراً عسكرياً مهماً. وفشلت الحكومة في عقد اتفاق عبور المساعدات الإنسانية إلى ولايتي جنوب وغرب كردفان، التي تعاني مناطق واسعة فيها من هجمات الدعم السريع، إذ لم يتمكن المزارعون من الوصول إلى الأراضي الزراعية، وهناك 650 ألف شخص بحاجة إلى مساعدات غذائية عاجلة.

في ولايات دارفور الخمس التي سيطر الدعم السريع فيها على أربع ولايات، وهي: وسط وغرب وجنوب وشرق دارفور، في الفترة من (أكتوبر - نوفمبر)، حشد الدعم السريع ما يقارب 15 ألف مقاتل، و 3 ألف سيارة رباعية الدفع، نصفها دخل عبر تشاد، حيث يتدفق الإمداد العسكري بشكل كبير؛ فخلال أسبوع واحد تهبط هناك ثلاث طائرات، قادمة من الإمارات العربية، تدخل إلى السودان من خلال مدينتي أم جرس وأبشي. 

تقاتل الحركات المسلحة التي وقعت اتفاق جوبا، عام 2020، مع الحكومة الانتقالية في صفوف الجيش، وتتمركز المعارك حالياً في ولاية شمال دارفور ومدينة الفاشر؛ عاصمة الإقليم، حيث تشارك قوى مشتركة بمعية الفرقة السادسة، التابعة للقوات المسلحة السودانية، في معارك ضد قوات الدعم السريع في المدينة.

بدأت معارك الفاشر في يوليو/ حزيران الماضي، حيث قامت قوات الدعم السريع بإحراق 14 قرية، إضافة إلى تهجير 70 ألف مواطن، مما سبب ضغطا على المدينة، نتيجة تكدس المواطنين بدور الإيواء والنزوح، كما قامت بحصار المدينة، وقطع كافة الإمدادات الغذائية والمساعدات الإنسانية عنها.

في ظل هذه الوضعية العسكرية والإنسانية المعقدة، تبدو فرص الوصول إلى اتفاق لوقف إطلاق النار يعيدة المنال، خصوصاً بعد خطاب القائد العام للجيش السوداني، في يناير/ كانون الثاني الفارط، حيث أشار إلى أن استمرار المعركة قائم حتى تطهير جميع الأراضي السودانية من التمرد. من جهته أعلن حميدتي؛ قائد قوات الدعم السريع، عزمه مواصلة العمليات العسكرية. قبل أن يعود للتأكيد، بلغة عنيفة، على مقولة "سنثأر"، والحرب قد بدأت للتو، حسب تعبيره، في ولاية نهر النيل؛ شمال العاصمة السودانية.

بالنظر إلى إصرار القادة والتعقيد العسكري، فلا أمل في التوصل إلى اتفاق في المدى القريب، بالرغم من ضغط الأطراف الخارجية، ومطالبتهم بالعودة إلى منبر جدة التفاوضي، سنحاول في هذا المقال أن نفهم طبيعة المبادرات الخارجية المطروحة لحل الأزمة، ومدى إمكانية تحقيقها لشرط الوصول إلى اتفاق لوقف العمليات العسكرية.

المبادرات الخارجية 

مع أول أسبوع للحرب، دبّت الحركة في الأروقة الخارجية للاتحاد الأفريقي، الذي جمد عضوية السودان، منذ صبيحة 25 أكتوبر/ أكتوبر 2021، نتيجة الإجراءات التي قام بها القائد العام للجيش ورئيس مجلس السيادة؛ عبد الفتاح البرهان، وبموجبها ألغى مواد الشراكة مع قوى إعلان الحرية والتغيير؛ التحالف السياسي الذي مثل حاضنة للحكومة الانتقالية، حيث اعتبر الاتحاد هذه الإجراءات "استيلاء على السلطة بالقوة العسكرية". 

 تم إقرار ست نقاط أسست لمشروع الاتحاد الإفريقي حلا للنزاع، عبر مجلس السلم والأمن الأفريقي، حيث دعا إلى وقف القتال وحماية المدنيين، إلى جانب انسحاب الجيش من السياسة، عبر تسليم الحكم إلى سلطة مدنية. لكن الخلافات ما بين قادة الجيش والحكومة المكلفة تصاعدت، فالقادة السودانيين يرون أن الاتحاد الإفريقي منحاز بشكل واضح لسردية الدعم السريع، ما جعلهم يهددون بالانسحاب من الاتحاد الإفريقي، وتحديدا بعد لقاء المستشار السياسي للدعم السريع مع قادة الاتحاد الإفريقي.

كان لمبادرة الإيقاد وقع عند الجهات النافذة في السودان، إذ جاءت متزامنة مع نداءات مجلس الأمن، واقترحت جوبا لعب دور الوساطة الذي حظي بموافقة الجيش والدعم السريع، مع مراقبة حذرة من قبل الجيش لدور الإيقاد، اتخذت وساطة جنوب السودان منعطفات سحبت الوساطة منها، لتكون كينيا الحاضنة الجديدة للوساطة، وهذا ما رفضه السودان، ما جعل مبادرة الإيقاد تتعثر منذ بدايتها.

قدمت المملكة العربية السعودية، في مايو/أيار 2023، والولايات المتحدة الأمريكية دعوة إلى الأطراف، من أجل مفاوضات غير مباشرة، شهدت تدشين ما يعرف ب"منبر جدة"، الذي لعبت فيه السعودية دوراً محورياً، فهي صاحبة علاقات جيدة بالجيش السوداني، كما أن بمقدورها أن تمارس ضغوطا محدودة على الدعم السريع، من أجل قبول الجلوس مع الجيش، لأجل التفاوض حول إيقاف العمليات العسكرية.

لم يكن الأمر مقتصرا على جدة، فالقاهرة هي الأخرى ترى أن لها دوراً مهماً في السودان، لاعتبارات أمنية وتاريخية ومهددات مشتركة. لذلك، دعت إلى قمة دول جوار السودان بالقاهرة، وكشفت من خلالها دول الجوار عن مواقفها حول الأزمة، فبدا واضحاً أن إريتريا وجنوب السودان تدعمان الجيش والحكومة الرسمية، بينما نحى خطاب إثيوبيا وتشاد نحو الضبابية، ما جعل السودان يحسم موقفه مبكراً، من أي دور إثيوبي أو تشادي في الوصول إلى حل.

لماذا فشلت الإيقاد؟

كانت مبادرة الإيقاد التي طرحت في عام 1999 الأقرب من الناحية التاريخية، فقد ساهمت الإيقاد من خلال مبادرتها بين طرفي حرب جنوب السودان (حكومة نظام الإنقاد) و(الحركة الشعبية لتحرير السودان) بقيادة جون قرنق، قادت مباحثات الإيقاد طوال ست سنوات إلى توقيع اتفاق السلام الشامل بنيفاشا (2005 .(

كانت الإيقاد، هذه المرة، جزءا من مباحثات طويلة، عقدت منذ عام 2021، وهي شاهد على كواليس الانتقال الهش الذي صممته الوثيقة الدستورية. كما كانت فرصة مثالية للإيقاد في الذهاب بعيدا في وضع الحلول المناسبة، لكن خطوطها تغيرت تجاه السودان؛ العضو المؤسس للمنظمة، فقد كانت هناك حالة من السيولة في التعامل مع الأزمة، بحيث لم تتخذ موقفا واضحا من شرعية البرهان. كما أن الدول الأعضاء أظهرت تحاملا تجاه القوات المسلحة، من خلال التصريح بالتدخل العسكري عبر قوات خاصة، وفرض مناطق آمنة. ولعبت كينيا بدورها دورا سلبيا أثر على قادة الجيش، وبدا ذلك واضحا من تصريحات ياسر العطا ضد الرئيس الكيني.

رغم ذلك، حاول الرئيس البرهان، في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، قيادة حملة دبلوماسية، التقى خلالها الرئيس الإثيوبي والكيني والجيبوتي، خلال شهر واحد فقط، قبل انعقاد القمة الطارئة بخصوص السودان، والتي شهدت حضور وفد من الخارجية الإماراتية مع مستشاري الدعم السريع السياسيين، لتفشل قمة جيبوتي في الخروج بموقف، كان البرهان يتمناه من الإيقاد، ما أظهره بموقف سلبي أمام الرأي العام في السودان. خصوصاً، وأن حميدتي خرج حينها، في أول ظهور خارجي له، ليقوم السودان عبر الخارجية بتجميد عضويته في المنظمة. 

كانت القيادة السياسية والعسكرية، في بورتسودان، تمنى نفسها بموقف قريب أو مشابه لما حدث في إثيوبيا، في حرب الحكومة الفدرالية ضد قوات تيغراي. ولكن لم تنتبه إيقاد لذلك، وأثرت الإمارات على الدول الفاعلة فيها، مثل: إثيوبيا وكينيا من خلال مواقفهم في القمة التي انعقدت في عنتبي، وشهدت حضور حميدتي ووفد القوى المدنية الديمقراطية "تقدم"، رغم رفض السودان لهذه الخطوات. حاولت إيقاد كذلك أن تدخل لمنبر جدة، وهو ما نجحت فيه في اتفاق جدة 2، الذي ظهرت فيه عقدة المساعدات الإنسانية والمسارات، وكان موقف الجيش واضحاً فيه، حيث رفض مرور أي مساعدات إنسانية بمناطق الدعم السريع، كما جاء على لسان البرهان خلال زيارته للولاية الشمالية.

جدة بصورتها الحالية لن تنجح

منبر جدة الذي تم بواسطة سعودية - أمريكية هو المنبر الوحيد الذي أجمع عليه الفرقاء السودانيين؛ عسكريين كانوا أو سياسيين، واتفقت الأطراف الخارجية على ضرورة العودة إليه، واستئناف المفاوضات سعيا وراء إيقاف الحرب. كانت جولات جدة التفاوضية صعبة، ومكمن ذلك أن الوقائع العسكرية كانت محددة للشروط التي تفرض على الطاولة، فبينما دارت الجولات الأولى قبل التوصل إلى اتفاق، في 11 مايو/ آيار 2023، بخصوص المسألة الإنسانية، حيث وقعت بنود الاتفاق في ظل استمرار العمليات العسكرية في الخرطوم، كان وضع الجيش في الميدان سيئا، لكن استراتيجياته القائمة على طول أمد المعركة، مكنته من الإقدام على التوقيع.

يرى أحد القادة السابقين بالاستخبارات العسكرية، أن الدعم السريع حاول أن يستغل تقدمه الميداني، من أجل تعزيز المكاسب السياسية في منبر جدة، إلا أن الجيش كانت له استراتيجية أساسها فصل مكاسب العسكرية عن الملف السياسي. بالإضافة إلى أن ربط الانسحاب من المدن والقرى والمؤسسات بتوقف العمليات، حالا دون الاستفادة السياسية للدعم السريع من تقدمه العسكري، لذلك يصر الجيش على تنفيذ الاتفاق.

يعد الاتفاق الأول حاكماً للطرفين بتنفيذ بنوده، قبل الانتقال إلى الاتفاق الثاني، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، حيث عاد الجيش والدعم السريع إلى التفاوض غير المباشر، في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي. عودا إلى سلسلة الجولات التفاوضية يظهر أن "المسارات الإنسانية" كانت السبب وراء إخفاق عملية التفاوض، فوفد الجيش في التفاوض، يرى أن الدعم السريع يسعى إلى اتخاذ المسارات الإنسانية خطوط لإمداد، في عملية مشابهة لما حدث في حرب جنوب السودان؛ أو ما يعرف بعملية "شريان الحياة" عام 1980، حيث استفادت الحركة الشعبية من تقدمها العسكري، وعملت على إدخال الإغاثة عبر كينيا إلى مناطق سيطرتها، مما سمح بإدخال معدات عسكرية وذخائر أدت إلى تعطيل تقدم الجيش حينها.

فشل اتفاق جدة في ضمان وصول المساعدات الإنسانية وحماية المدنيين، أو حتى توقف تقدم قوات الدعم السريع عن مهاجمة القرى والمدن، حيث شهدت الفترة ما بين مايو وديسمبر سقوط قرابة 6 ولايات، بشكل كلي، في يد الدعم السريع، إضافة إلى نزوح ما قرابة 9 ملايين مواطن، وتضرر مرافق خدمية ومحطات كهرباء وسرقة أسواق، والهجوم على المستودعات الغذائية في الولايات التي انتقلت إليها. كما عمل الدعم السريع على بناء الإدارات المدنية، ما يعني أن بنود الاتفاق لم تنفذ، ولم توضع حتى أجندة واضحة من أجل تنفيذها.

بالنظر إلى المعطيات العسكرية وسير المعارك، لم يعد اتفاق جدة يتوافق مع واقع الوضع الإنساني، وحتى في حالة تنفيذه، فلا بد من إدخال تعديلات عليه يحافظ بها الدعم السريع على مكاسبه العسكرية، من أجل ضمان أوراق تفاوضية مستقبلية. في الجانب الآخر، سيسعى الجيش إلى تنفيذ الاتفاق كاملاً، من أجل امتصاص أي ضغط عليه، في حالة أرادت القيادة أن تذهب إلى تفاوض ينهي الحرب، وما بين التعديل واستحالة التنفيذ تبقى الخيارات العسكرية مفتوحة، وربما تذهب إلى نقطة اللا عودة، في حالة تقدم الجيش في الخرطوم وولاية الجزيرة، مع اقتراب فصل الخريف الذي من شأنه إبطاء العمليات العسكرية في مناطق واسعة من الولايات التي تدور فيها المعارك.

تلوح مقاربات أخرى في الأفق، مثل محاولات القاهرة، وتأتي قمة دول جوار السودان، وبعض المبادرات السياسية من أجل لملمة الفرقاء السياسيين، حيث استقبلت حمدوك بصفته رئيس للقوى المدنية الديمقراطية "تقدم". واستضافت مجموعة من القوى السياسية المعروفة بالكتلة الديمقراطية الفصيل السياسي، الذي يضم أكبر حركات دارفور بجانب الحزب الاتحادي الديمقراطي، وعدد من الأجسام غير المؤثرة في مجريات الشأن العسكري. لكن مبادرات القاهرة تفتقد الوضوح، بالرغم من إعلان موقفها الداعم للجيش ولسيادة السودان، فإن تقاطع مصالحها مع بعض الدول الداعمة بشكل مباشر للدعم السريع، لذلك تسعى إلى وضع شروط بعيداً عن المعطيات السياسية والعسكرية، تبدو غير مفهومة لها، وهو موقف تاريخي ظلت القاهرة تظهر به اتجاه السودان، ما يعجل، وفق هذه الاستراتيجية الضبابية، بفشل تاريخي لمساعي سيكون محصلة تحركاتها بخصوص واقع الحرب في السودان.