الخميس 14 نوفمبر 2024
تسير العمليات العسكرية في أنحاء مختلفة من السودان، مع إكمال الحرب عامها الأول (15 أبريل 2023م – 15 أبريل 2024م)، نحو بلوغ نقطة اللا عودة، فالحلول السياسية قد تخمرت على رفرف البلاد الجريحة بلا قيمة، بعدما أضحت القوى السياسية التي اتخذت من العواصم الخارجية أفقًا لها، برؤى سياسية ضعيفة أوقعتها في تحالفات هشة، يطغى عليها التفكك الداخلي، ما يجعل من اتخاذها قرارا مصيريا أمرا في غاية الصعوبة؛ فتوازن الضعف الداخلي يقوض فرص القيام بخطوات جادة سعيا نحو حلول سياسية متماسكة بمقدورها إيقاف الحرب. فيما تعيش تلك القوى الموجودة داخل السودان نوعًا من التيه السياسي، يجعلها عاجزة عن التوافق على رؤية سياسية واضحة تخدم أجندة ما أعلنت عنه، لكن ذلك لم يحل دون سعيها المستمر نحو بناء تحالفات من أجل السلطة، أو الاستفادة من غبار الدبابات في الوصول إلى مناصب تنفيذية.
ارتكبت القوى السياسية "تنسيقية القوى المدنية الديمقراطية" خطأ فادحًا، بالتوقيع على إعلان أديس أبابا في 2 يناير/ كانون الثاني 2024م، فقد سمحت لحميدتي بأن يحول عملياته العسكرية إلى خطاب سياسي، وأفقد "تقدم" - اختصار لاسم التنسيقية – أي إمكانية في الجلوس مع الجيش، من أجل التوصل إلى أرضية سياسية مشتركة. وبدا واضحا أن عبد الفتاح البرهان؛ القائد العام للجيش، قد قطع على هذه القوى أي إمكانية للقاء، من خلال خطابه الذي قدمه في القاعدة العسكرية تلال البحر الأحمر.
يبقى سؤال التركيب السياسي مفتاحا جوهريا عند أي قراءة لمعطيات المشهد في السودان، فمن الضروري فهم التركيبة السياسية التي أفرزتها الحرب، من أجل فهم سيناريوهات الحرب، ومسارها خلال العام الثاني، وحتى إمكانيات إيقافها. هل ستنجح المبادرات الخارجية، بما فيها مؤتمر باريس (15 أبريل 2024م )، وإن ركز فقط على مسألة المساعدات الإنسانية، ففرنسا لا تترد في التأكيد على أنها لا تسعى إلى استبدال منبر التفاوض، وإن كانت مسألة الفصل بين المساعدات الإنسانية والعمل العسكري صعبة؛ لأنهما مترابطان بنيوياً على أرض الواقع، فالذي يلاحظ خارطة المعارك سيدرك أنها تدور في رقعة جغرافية ذات كثافة سكانية كبيرة، وفي الرقعة الأكثر قدرة للزراعة والحصول على الغذاء.
نحاول هنا تفكيك أهم الكتل الفاعلة، وشرح وضعيتها، ومدى قدرتها على التأثير من أجل الوصول إلى حل، عسكري أو سياسي، بالرغم من أن الوضع العسكري يعدم أي فرصة لحل قريب في الأفق، ليبقى إذن محاولة من أجل بناء السيناريوهات المتوقعة، باستقراء تركيب قيادة الجيش والتركيب السياسي، بالإضافة إلى العامل الخارجي كمؤثر على هذه الحرب.
قيادة سياسية وعسكرية
أوردنا أن الحروب السابقة التي كانت تدور في حدود الدولة السودانية هي حروب جذرها ليس بعسكري، بمعنى أنها كانت تحدث نتيجة لأجندة سياسية مرتبطة بالنظام السياسي وطبيعته. فالجيش كان دائما في موقع الدفاع، والملاحظ أن الأنظمة السياسية، خلال مرحلة من مراحل الحرب، تفرض أجندتها السياسية على الجيش، كشكل من سلطة النظام السياسي، وحتى عندما كان الجيش يعلق على آداء النظام السياسي، فإن مدخله كان عسكريا بحتا. هكذا، يمكن أن نفهم مثلا ما حدث في 20 فبراير/ شباط 1989م، حين قدمت القوات المسلحة مذكرة لحكومة السيد الصادق المهدي.
كما يمكن العودة إلى اتفاقية السلام الشامل (نيفاشا 2005م)، لاكتشاف التناقض في مسألة إتفاق السلام الشامل، فقد كان الجيش موضوعا ضمن أطر النظام السياسي، بعيدا عن معادلة الوضعية التفاوضية. من هنا يأتي التمييز ما بين الموقف العسكري الحالي في مسألة الوصول إلى حل وبين العمليات العسكرية، فهذه الأدبيات غائبة عن المؤسسة العسكرية، بوصفها المسؤولة بشكل كلي عن الدولة لغياب النظام السياسي. بل وتشرف على المؤسسات البيروقراطية للدولة، فحسب القرار الذي أصدره عبد الفتاح البرهان؛ رئيس المجلس السيادي في أكتوبر/ تشرين الأول 2023م، تم توزيع الوزارات التنفيذية على أعضاء المجلس السيادي، ليصبحوا مشرفين عليها.
شكلت هذه المسألة نقطة ضغط على القيادة العسكرية، مما سبب نوعًا من التوهم عن حدوث انشقاق في الجيش أو خلافات عسكرية، وصلت حد إتهام البعض مؤسسة الجيش بأنها قد "باعت" القضية، الأمر الذي يجعل الرأي العام في حالة تيه مستمر. لقد أدخل غياب النظام السياسي عن الدولة، بصفته مشَّكِل لطبيعة عمل جهاز الدولة وسياساتها، الفاعلين في حالة ارتباك مستمرة، ما فرض على قيادة القوات المسلحة التعامل على واجهتين؛ بصفتها مسؤولة عن المؤسسة العسكرية، وبوصفها مسؤولة عن جهاز الدولة، وطبيعة توازنات السياسية، في ظل تناقضات إنتقال لا تزال قائمة رغم الحرب. ما يجعل قرارات الوزارات خاضعة للتوافق الأهلي أحيانا، كما حدث في مشكلة ميناء بورتسودان حيث أدى تدخل الأعيان الأهلية إلى إيقاف بعض القرارات الصادرة عن وزارة المالية.
تحالف سياسي هش
واضح أن مسألة الملف السياسي للحرب قد تطورت على نحو متزامن مع العمليات العسكرية، حيث استمالت القوى السياسية قيادة قوات الدعم السريع، وظهر ذلك في إعلان أديس أبابا الموقع بتاريخ 2 يناير 2024م، الذي مهد له بلقاءات بين حميدتي وسلك المستشارين التابعين له، أكثر من ثلاث مرات خلال العام 2023م، لتأتي قمة دول الإيغاد في جيبوتي، ومن ثم عنتبي لنشاهد تساوي الأجندة السياسية بين قيادات "تقدم" وبين قيادة قوات الدعم السريع الأمر الذي نلاحظه في تسمية ما يعرف بالإدارة المدنية، وهو مقترح موجود في بنود إعلان أديس أبابا، بخروج حميدتي ولقائه قيادة "تقدم" في أديس أبابا، صيغت أجندة سياسية واضحة، مكنت الدعم السريع من أخذ الشرعية السياسية في سير عملياته. فنرى مثلا أن الدعم السريع، في شهر نوفمبر، قد عمل على تعقيد مسار المساعدات الإنسانية، في محاولة منه للاستفادة من جندها في أخذ المشروعية الدولية بإدخال السلاح تحت غطاء المساعدات. في المقابل، وبحسب تصريحات وفد التفاوض الخاص بالجيش، لم تورد قوى "تقدم" أو تشير إلى أنها ستعمل على الضغط من أجل إيقاف الدعم العسكري واللوجستي للدعم السريع، من أجل إيقاف الحرب أو المساعدة في إيقاف زيادة رقعة الانتهاكات لقوات الدعم السريع.
شهدت ولاية الجزيرة، بعد الثاني من يناير/ كانون الثاني، عمليات استباحت فيها قوات الدعم السريع أكثر من 85 قرية، قتلت على إثرها حوالي 1200 مواطن، ونهبت أكثر من 40 ألف سيارة و160 مصنعا، بالإضافة إلى تعطيل أكثر من 800 وحدة صحية. طوال هذه المدة، لم تحاول القوى السياسية الضغط على الدعم السريع، بأي شكل سياسي، لمنع هذه القوات من القيام بما فعلته. وهنا نكون أمام احتمالين: الأول؛ متعلق بإعلان أديس أبابا بين حميدتي وقوى "تقدم"، وهذا الأمر يجعلها محط سؤال مهم، ومن الضروري أن تقدم إجابة عليه؛ هل حصلت "تقدم" على ضمانات بعدم ارتكاب الدعم السريع لمجازر أو حالات نهب؟ وهذه الفلتات خارجة عن سلطته؛ ما يعني أن حميدتي فقد السيطرة على قواته، وهذا الاحتمال الثاني المطروح أمامنا، وهو ما يجعلنا نقول بأن الحرب لن تتوقف، في ظل تفكك إحدى البنيات العسكرية المتصارعة، مما يجعل المواجهات متقطعة، ولا وجود لاستراتيجيات أمنية واضحة.
العامل الخارجي
يبدو أن العامل الخارجي يلعب دورا مهما في الحرب، فالوعود والالتزامات التي يدلي بها قائد الجيش وقائد قوات الدعم السريع، تستجيب لكل الأطراف الخارجية، مما يعني أن هناك اضطرابا في المصالح بين الدول بشأن السودان، فنجد أن توازنات الدول الداخلية، وفي علاقتها ببعضها البعض، تحكم معادلة التدخل في الصراع المسلح. فالإمارات مثلا، الفاعل الأبرز في المعادلة السياسية والعسكرية، وبحسب محمد ناجي الأصم، في مقاله، "الحرب في السودان: بين الأجندة الذاتية والتدخلات الخارجية" لاعب جديد نسبياً في البلاد - وجدت في حميدتي وقواته ضالتها، وهي الدولة التي لها تاريخ في دعم المليشيات في المنطقة على حساب المؤسسات الرسمية. يضيف الأصم أن الإمارات دخلت السودان، وحاولت منذ اندلاع احتجاجات ديسمبر – يصفها الأصم بثورة ديسمبر - التأثير على المشهد بصورة فظة للغاية. ربما كان ذلك في البداية نوعاً من المنافسة مع قطر، خصمها اللدود في المنطقة، والمقرب من نظام البشير حينها، إلا أن تلك الأجندة اليوم تتشكل من عدة عوامل، تأتي في مقدمتها مصالح اقتصادية ضخمة، تسعى الإمارات إلى الحفاظ عليها وزيادتها، من تدفق غير منقطع للذهب السوداني نحوها.
يقول بروفيسور حسن حاج علي؛ أستاذ العلوم السياسية بجامعة الخرطوم، في ورقته "فترة انتقالية مضطربة: تحولات التحالف الهجين في السودان" أن تحولا حدث في مواقف الدول الغربية تجاه الدعم السريع، باعتباره المكون العسكري الذي يعول عليه في التحالف مع القوى السياسية، بعد انسحاب القوات المسلحة، وظهر ذلك من خلال لقاءات عدد من مبعوثيها مع حميدتي؛ فريدريك كلافيه المبعوث الفرنسي الخاص للقرن الأفريقي، ومبعوثة الاتحاد الأوروبي للقرن الأفريقي أنيتا فيير، وعبر الهاتف مع المبعوث الأمريكي للسودان وجنوب السودان بيتر لورد، والمبعوث الخاص للمملكة المتحدة للسودان وجنوب السودان روبرت فيرويذر، والمبعوث النرويجي الخاص للسودان وجنوب السودان جون أنطون.
الولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد الأوربي أظهر ضعفا واضحا بحيث أنهما أصبحا جزء من المعضلة، منذ الاتفاق الإطاري الذي دشنه السفير الأمريكي المستقيل حيث عزز المسارات التي جعلت من الحرب واقعا سياسيا. يظهر ذلك بوضوح من من خلال النقاط السياسية والترتيبات التي جعلت الجيش والدعم السريع في حالة حرب سياسية، منذ ظهوره.
المملكة العربية السعودية وجمهورية مصر العربية تعلمان أن وضعيتهما مختلفة من حيث الأمن القومي لمصر، ومن حيث العمق المتعلق بالأمن الغذائي وأمن البحر الأحمر بالنسبة للسعودية، بالإضافة إلى وضع السودان المهم بالنسبة للسعودية التي تواجه صعوبات إقليمية في تنفيذ استراتيجيات 2030م. مصر قد تبدو الخاسر الأكبر، بسبب فقدانها للسودان من ناحية السياسات المشتركة والمهددات المستقبلية، ويتضح أن دور مصر محجم وغير فعال، سوى من خلال ملف المسألة السياسية الذي فشلت في احتوائه، فيبدو أن تركيز مصر الداخلي على أزماتها أفقدها أي دور في صناعة توازنات تحافظ بها على تحالفاتها التاريخية. ما يشير إلى أن هناك متغيرات ستحدث على معادلة القرن الأفريقي في الأمن القومي، ولكن بكل تأكيد لن تظهر إذا استعادت مصر دورها في الأزمة السودانية؛ التوازن الذي قد يغير معادلة الحرب السودانية، بسبب فاعلية مصر في ملف السودان الأمر الذي قد ينكره البعض، ولكنه حقيقة يجب التعامل معها.
استطاع السودان من خلال دبلوماسية بطيئة، في ظل توتر كبير في الإقليم، أن يعيد علاقاته مع إيران في وقت حرج، فقد بنى السودان خطوات كانت آخرها تعين سفير في طهران، بعد أن قطع علاقاته في العام 2016. السياسات الدبلوماسية التي اتخذها الرئيس المعزول عمر البشير نتيجة لتقارب مع الخليج، والمشاركة في عاصفة الحزم، قد تكون حينها، حسب مراقبين، قننت وضعية الدعم السريع، حيث تم إجازة قانون في عام 2017م .
كما لا ننسى أيضاً أن السودان قد طور علاقته مع الصين وروسيا، في حدود ما هو استراتيجي، بحيث أن القائمين على أمر الدولة السودانية ليس من مصلحتهم أن تتخلى عن حلفاء استراتيجيين، حسب ما خرج به بعض الداعمين لهذه الخطوات، خصوصا - حسب قولهم - في عز تورط الجميع مع حميدتي، وعدم بصيرتهم لمصلحة بقاء الدولة السودانية، ومخاطبة مصالحهم من خلالها، ودعم بقائها، وتطوير استراتيجيات من أجل مصالحهم، بحيث يتحول الجميع إلى خطاب (مصالح / مصالح)، بدلاً من تنفيذ رؤى إصلاحية للدولة عبر تفكيكها بشكل كامل، ومن خلال قوة السلاح، و التدخل الخارجي الذي يقوم بتدمير مصالح الجميع في استقرار الدولة السودانية.
خاتمة: الحرب لا تزال في أولها
بعد عام، يمكن القول بأن الحرب، حسب مؤشرات مختلفة، ووفق التطورات العسكرية في جبهة دارفور لا تزال في بدايتها، ما لم يحدث إختراق في ملف مفاوضات جدة، والوصول إلى صيغة عسكرية للأجندة التي طرحت في نوفمبر 2023م. لكن يبدو أن التطورات العسكرية ستفرز واقعا سياسيا واجتماعيا لن تكون "مفاوضات جدة" قادرة على إحتوائه، وربما نتجه إلى سيناريوهات قاسية على السودان وعلى دول الجوار.