الخميس 7 نوفمبر 2024
يواجه السودان اليوم أكبر تحدي يهدد وجوده كدولة، فمئات الآلاف من الجنود النظاميين والمسلحين المستنفرين من القبائل، اندفعوا لإفراغ كل أنواع الأسلحة على البلد، وإشعاله بشباب في مقتبل العمر يقدمون قرابين للخراب والدمار الذي لحق بمدن كانت مزدحمة بساكنيها، أهمها العاصمة القومية، والمشاهد التي تصل من الخرطوم قاتمة ومحزنة، مما يستدعي النظر بتمعن في الأسباب الكامنة وراء كل هذا الدمار، وفحص تبريرات النخبة ومضامين القبيلة المحفوفة بالشعارات المسوغة لخلفيات الصراع.
حططت رحالي طالبا في العاصمة المثلثة؛ حيث يلتقي النيلان لتكوين وادي النيل الأثير الذي على ضفافه نشأت وترعرعت أم الحضارات، في عام 2010. وكدأب كل زائر للسودان، لاحظت سمات كثيرة في الشعب السوداني، فهو طيب ومضياف ومتسامح وبسيط، لدرجة قد تبدو معها البساطة في مقاربة الأمور كسلا أو تهاونا أحيانا. هذا ما يلاحظه جلّ الزائرين للسودان، لكني لاحظت أكثر من ذلك، فالسودان ليس ملتقى النيلين فقط، وإنما ملتقى شرق أفريقيا بشمالها وغرب القارة بجنوبها، حيث توجد في السودان كل السحنات والثقافات الأفريقية، حيث يمكن اعتبار البلد "افريقيا المصغرة".
نجد في شمال السودان سحنات شمال إفريقيا من العرب والبربر، والشرق حيث قبائل البجا التي تمتد أصولها مع قوميات شرق افريقيا من الصوماليين والأورومو وغيرها، وفي الجنوب ترى كل إفريقيا جنوب الصحراء من الأعراق النيلية والزنجية. وفي دارفور تلاحظ أنك في غرب افريقيا، من اثنيات القبائل الإفريقية وعرب الصحراء الممتدة من غرب السودان إلى مالي والسنغال.
يمثل المسلمون الأغلبية في السودان بنسبة 91%، كحال إفريقيا. لكن البلد لا يخلو من الديانات الإفريقية المحلية بنسبة 3%، ونسبة معتبرة من المسيحيين؛ أقباطا وأفارقة تحولوا إلى المسيحية بفعل الاستعمارو بنسبة 5% وذلك بعد انفصال الجنوب.
كان في السودان، قبل انفصال الجنوب، أكثر من خمس مئة قبيلة وإثنية، وكان أكبر بلد افريقي من حيث المساحة، كما شهد حينها أطول حرب أهلية في القارة، هي حرب الجنوب (35 سنة من 1959 إلى 2005 مع فترة هدوء استمرت من 1972 إلى 1983). باختصار، السودان هو افريقيا مصغرة، بكل تنويعاتها العرقية والثقافية، وسحنات أفرادها، وكذلك مشاكلها وتناقضاتها.
كنت عند قدومي إلى السودان ملما بالكثير من الأوضاع السياسية في البلد، فقد كان دائم الحضور في الإعلام الدولي والعربي، بسبب الأحداث الكبرى التي جرت في العقد الأول من الألفية الثالثة؛ مثل فظائع دارفور، واتفاقية نيفاشا (2005) التي مهدت الطريق لانفصال الجنوب، فضلا عن المذكرة الدولية المثيرة لإلقاء القبض على الرئيس السوداني عمر البشير بتهمة ارتكاب جرائم حرب في دارفور، فكانت أول مذكرة من نوعها في مواجهة رئيس دولة ما زال في السلطة، وأحداث أخرى جعلت السودان حينها نقطة ساخنة في العالم. لكن بعد العيش في الخرطوم، أدركت أني بحاجة إلى معرفة الكثير والكثير عن هذا البلد، فهو أكثر تعقيدا مما كنت أظن.
في الحياة السياسية السودانية، وإلى جانب النخبة المثقفة، تلعب الطرق الصوفية والنظام العشائري والتيارات الفكرية من اليمين واليسار، أدوارا مهمة ومتناقضة في صياغة النظام السياسي العام في البلاد. انتبهت، مع مرور الأيام، إلى مفردات جهوية تتجاوز المفهوم القبلي الصرف، ولها مدلولات سياسية مناطقية. كان يطلق على الشماليين العرب اسم "الجلابة"، إشارة إلى أنهم طبقة استغلالية، استأثرت بمعظم ثروات الوطن، واستحوذت على الفرص، وهمّشت غيرها. هناك اسم آخر يلفت انتباهك وهو "الغرابة"، الذي يطلق على مجموعات في غرب السودان من عرب وأفارقة، وخلافا لتوظيفه اليوم من قبل الدعم السريع، تسويقا لمظلومية القبائل العربية المساندة له، كانت القبائل الأفريقية الأخرى في دارفور تتبادر حينها إلى الذهن بمجرد استخدام الاسم، مما يؤكد التوظيف السياسي لهذه الاصطلاحات.
تأسست الدولة الحديثة في السودان عبر مراحل تاريخية، مرتبطة بالاستعمار البريطاني والحكم المزدوج من الأتراك والمصريين، حيث استحوذ الاستعمار الإنجليزي على مساحات شاسعة من بلاد السودان – بلاد السود الذي امتد من القرن الأفريقي شرقا حتى مالي (السودان الغربي سابقا) غربا. لكن النظام السياسي للمستعمر تركز على ضفاف النيل، المرتبط تاريخيا بالحضارة النيلية، وامتد منه. صارت هذه المناطق القريبة من النيل مركزا للسلطة، ومصدرا للربط التجاري ونقل البضائع، وتجارة الرقيق من العمق الإفريقي قبل إلغاءه، ومحطة لبسط النفوذ على المناطق السودانية الأخرى. من هنا نشأ اسم "الجلابة" على مجتمعات وادي النيل أو القبائل العربية والنوبية الشمالية في السودان.
هكذا، يمكن اعتبار السودان نموذجا مثاليا لمفارقة المركز والهامش، التي تمثل الخلل الجوهري لنظم الحكم في الدول الأفريقية، فالمجتمع الشمالي في السودان صار المركز للدولة، بحكم التاريخ التأسيسي لها. فيما أضحت بقية المجتمعات، في المناطق البعيدة عن المركز، تمثل الهامش السوداني المطواع للتوظيف السياسي، بدافع المظلومية والتهميش في الصراع على السلطة.
مشكلة المركز والهامش مشكلة عامة، تعاني منها معظم دول العالم الثالث، وتمثل عائقا أمام قيام الدولة الوطنية المحايدة لمكوناتها الإثنية ومناطقها الجغرافية في توزيع الثروة والسلطة. كما تهدد وجود الدولة، بسبب التوظيف السياسي الجاهز دوما لهذه المشكلة. السودان، المترامي الأطراف والمتعدد الأعراق، يصلح مثالا صارخا لمعضلة المركز والهامش. خطاب المركز والهامش لا يخلو من إجحاف وتضليل عبر التعميم، ففي السودان مثلا قد يستفيد بعض أبناء القبائل الشمالية، أو الجلابة كما يقال، اعتباطا من مركزية السلطة والثروة، أكثر من غيرهم، منذ تأسيس الدولة السودانية، لكنهم لا يحكمون السودان بالوراثة أو بالاسم، كما أن الهامش لم يكن هامشا مطلقا طوال تاريخه.
الأزمة الأساسية لهذه المشكلة هي أن النخبة السياسية توظفها سياسيا، وتستخدمها مادة دعائية للتحشيد والتعبئة، وحين تصل إلى الحكم تزيد من الفجوة بين المركز والهامش، بدل السعي إلى حلها عبر إحداث إصلاحات جوهرية في نظام الحكم والإدارة. بطبيعة الحال، النخبة هي التي تحكم، وتتصارع على السلطة. حتى النخبة الشمالية خاضت فيما بينها أمرّ الصراعات، بشعارات أيديولوجية مثل: التيارات اليمينية واليسارية والشعارات القومية والوطنية للدفاع عن الوطن، فكل الثورات الشعبية والانقلابات التي حدثت في الخرطوم، استلهمت جزءا كبيرا من وقودها من هذه الشعارات، وآخرها انقلاب الإسلاميين المسمى بثورة "الإنقاذ الوطني". وفي هامش السودان، توقد النخب السياسية الصراع بشعارات العدالة الاجتماعية، وسطوة الجلابة على مقدرات الوطن، لإشعال الحروب، وإذكاء الثورات المسلحة بهدف الوصول للسلطة أو تأمين حصة معتبرة من كعكتها.
في مضامين هذه الشعارات، تذكي المشاعر القبلية أو الجهوية لتحريك الحشود نحو الاتجاه السياسي للنخبة. قبل أيام من اندلاع الحرب المأساوية هناك في السودان؛ قال حميدتي الذي يقود اليوم حرب الهامش "الغرابة" على دولة 56؛ أي "دولة الجلابة"، كما ينظّر لها أنصار الدعم السريع: "نشأت في أقاصي السودان، ولم أتلق من الدولة سوى العنف". كلام الرجل صحيح، فهو نشأ في هامش السودان البعيد، ولم يحظ بخدمات تذكر من الدولة السودانية، لذلك لم يتلق تعليما أساسيا، وفي أول علاقة له بالدولة السودانية سملت له السلطة بندقية لمقاتلة الهامش الثائر في دارفور، وهو بدوره أتقن استخدام البندقية وارتكاب الجرائم ضد الإنسانية وفق تقارير وشهادات متواترة. حميدتي، وكان حينها الرجل الثاني في المجلس الحاكم، اتهم الدولة السودانية بالعنف، لكن نسي أو تناسي أنه بمثابة "عنف الدولة" المجسد في شخص.
المفارقة أنه يقاتل اليوم بشعارات العدالة الاجتماعية، وإسقاط "دولة الجلابة" التي استأثرت بها النخبة من قبائل الشمال، وبهذه الشعارات يستنهض هو وأعوانه القبائل العربية في غرب السودان "عرب الغرابة"، وهي ذات الشعارات التي قاتلها حميدتي قبل عقد، وهو يدافع عن نظام الحكم في الخرطوم. ليس وحده، ولكن معظم الرموز العشائرية لعرب "الغرابة" دافعت حينها عن "الوطن" ضد الحركات المسلحة من العرقيات غير العربية؛ الحركات ذاتها التي تقاتل اليوم إلى جانب الجيش السوداني، ضد الدعم السريع وقاعدته العشائرية من عرب الغرّابة. اختلفت مصالح النخبة فتبادلت الأدوار. وفي الشمال نفسه تستخدم النخبة السياسية القبيلة من خلال "الاستنفار" لشعارات الدفاع عن النفس والعرض والممتلكات "المستباحة" من قبل الدعم السريع.
القبائل التي تقاتل اليوم بدافع الفزعة للدعم السريع والاستنفار المضاد المساند للجيش، هي فقط مظهر من مظاهر التوظيف السياسي للمظالم والمطالب والمخاوف من قبل النخبة السياسية. نعم، بعض المطالب والمظالم حقيقية ومشروعة، لكن توظيفها السياسي هو تكتيكي ومرحلي، ومن أجل استخدامها وقودا في المجهود الحربي لبلوغ السلطة من قبل نخبة معينة اشرأبت لحظوظ وافرة من سلطة دأبت على أن تدرّ من يحكمها وانصاره عبر الفساد وبتفاوت، على حساب المواطن. التاريخ مليء بالأدلة والأمثلة بأن النخبة الأفريقية لا تتمتع ببعد النظر لحل قضايا بلدانها، ولا بالموضوعية في تحليلها مشاكلها، وانما تستخدمها فقط كرافعات نحو السلطة مستغلة من خلل بنيوي في المجتمعات الإثنية غير الطبقية التي دائما ما تكون انقساماتها عمودية وحادة.
ورثت الدولة السودانية الحديثة من المستعمر، مثل غيرها من الدول الافريقية، مشاكل بنيوية، ونخبة سياسية لا تستطيع أن ترى كل الطيف السوداني المشمول بهذه الدولة، والمفترض أن تعبر عنه. والصراعات التي تؤججها النخبة السياسية على أساس هذه المشاكل البنيوية لا تحلها، بل تعمقها مع زيادة في تعقيدها أكثر. كما تستنزف ما أبقاه الفساد من مقدرات البلد، على غرار ما كان يحدث خلال العقود الماضية.
حاول الجنوبيون حل مشكلتهم مع السودان بالانخراط في أطول صراع في إفريقيا، حتى تم حلها باتفاقية السلام الشامل في 2005 التي منحت الجنوبيين حق تقرير المصير، ليتخلصوا، من منظور الجنوبيين، من مشكلتهم مع السلطة، وهو ما تحقق في 2011، بولادة أحدث دولة في إفريقيا.
لكن، ولسوء الحظ، سرعان ما تحولت الدولة الوليدة إلى دولة فاشلة غارقة في الفساد، وفي حروب أهلية استدعت تدخلات إقليمية ودولية، وذلك بعد أن تصارعت النخبة السياسية على السلطة بالتحشيد القبلي، وشعارات تحمل ذات المظالم التي قاتلت برايتها الحركة الشعبية لتحرير السودان. الحركة الشعبية، التي قاتلت "سطوة" الشماليين أو الجلابة، انقسمت فيما بيها، بعد الاستقلال، ليقاتل البعض "سطوة" الدينكا أو "الجلابة الجدد" على السلطة في جنوب السودان.
المشكلة لم تتغير لأن النخبة السياسية في الجنوب لا تختلف عن النخبة في السودان، والقبائل، في تركيبتها وتقسيماتها العمودية، وحتى صراعها الدائم على أسباب البقاء، واحدة بلا تغيير. لذلك، انفصال الجنوب حلّ جزئيا صراع النخبة الجنوبية مع سلطة السودان، لكنه لم يحل مشكلة الإنسان الجنوبي مع السلطة.
تمثل القبيلة في معظم المجتمعات الإفريقية الهشيم الجاف في شتاء القارة التنموي، والنخبة السياسية هي بمثابة المعتوه الذي يضرم فيه النار، حين يتطلع إلى دفئ السلطة والثروة، ليحرق أهله وأرضه، وحتى نفسه أحيانا باللهيب. وجود القبيلة أمر طبيعي مرتبط بالمرحلة التطورية للمجتمعات الإنسانية. لكن المطلوب هو أن تتعقل النخبة، وأن تتحلى بالمسؤولية أو ترتقي إلى مستوى المسؤولية المطلوبة، للنأي بالوطن الهش عن مخاطر الانهيار. كما يجب على النخبة أن تتميز بوعي أكثر نضوجا، وأن تكون رائدة المسار التاريخي لأمتها، من خلال تحليل مشاكلها، وتشخيصها وتطوير مؤسسات الدولة على نمط يلبي متطلبات المرحلة التطورية للمجتمع، ويساهم في تسريع التطور الطبيعي لإيجاد مواطن يكنّ ولاؤه وعصبيته للدولة، وليس "ابن القبيلة" الذي يهدم مؤسسات الدولة لصالح شهامة العشيرة. قد تكون هذه المفردات تنظيرات نظرية، لأن الأمور أكثر تعقيدا من ذلك، ولكن لا بد من الإصرار عليها، على الأقل، حتى لا تكون النخبة كالمعتوه الذي يحرق الهشيم حول قش داره، للحصول على دفئ من برودة الشتاء.