الجمعة 15 نوفمبر 2024
يتعرض مواطنو ولاية الجزيرة وسط السودان، منذ 20 من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، لأشكال من جرائم الانتهاكات والعنف والإرهاب؛ متمثلا في القتل والاغتصاب والحصار. توصف ولاية الجزيرة، وعاصمتها مدني، الواقعة على بعد 186 كلم عن مدينة الخرطوم، والتي تعتبر قبل اندلاع الحرب ثاني ولاية قبل حيث الكثافة السكانية، بأنها "سلة غذاء السودان"، لاحتضانها مشروع الجزيرة الذي يُعتبر أكبر مشروع زراعي في إفريقيا.
اقتحمت قوات الدعم السريع الولاية في منتصف ديسمبر/ كانون الأول 2023، وسيطرت عليها. أعلن قائد الدعم السريع في الولاية أبو عاقلة كيكل بتاريخ 20 أكتوبر/ تشرين الأول الانسلاخ من صفوف الدعم السريع، وانضمامه لصفوف القوات المسلحة. قام قوات الدعم السريع من حينها بقتل 1237 مواطنًا شمالي وشرقي الجزيرة، بحسب آخر إحصائيات لمؤتمر الجزيرة، فيما يبقى عدد الجرحى غير معروف، بحسب المؤتمر، فمنهم من تعافى ومنهم من أصبح معاقًا، ومنهم من استشهد.
سجلت أعلى حصيلة للضحايا في ولاية الجزيرة في مدينة الهلالية شرقي الولاية، حيث بلغت 359 شخصًا، بحسب مؤتمر الجزيرة، ويرجح أن يكون الرقم الحقيقي أعلى من ذلك. تحاصر قوات الدعم السريع المواطنين في مدينة الهلالية في أوضاع إنسانية وصحية كارثية، وبلغ الأمر حد اتهام المؤتمر قوات الدعم السريع بطحن قمح يحتوي على أسمدة وتوزيعه على المواطنين المحاصرين، ما كان سببًا في أغلب حالات الوفاة في المدينة نتيجة التسمم، فيما الجزء الآخر من القتلى كان بسبب رصاص الدعم السريع.
كما تشترط قوات الدعم السريع على الذين يريدون الفكاك من الحصار، دفع مبالغ مالية تتراوح، بحسب الناجين، بين مليار جنيه سوداني للفرد و3 مليار للأسرة. وكذلك الحال في بقية مدن وقرى ولاية الجزيرة، ففي قرية السريحة شمالي الولاية قتلت ما لا يقل عن 140 شخصا، وارتفع العدد في مدينة تمبول شرقي الولاية إلى ما لا يقل عن 300 شخص. تحدث هذه الانتهاكات وسط غياب أي وسيلة لحماية المدنيين أو خطة لإجلائهم من ذلك الحصار من قبل السلطات السودانية.
قال المُبر الشريف محمود، الأمين العام لمؤتمر الجزيرة، في حديث لجيسكا، أن الأعمال الوحشية التي يقوم بها الدعم السريع في الولاية هي تنفيذ لخطة محكمة، معتبرا أن العنف الممنهج ضد المدنيين، يأتي في إطار خطة ورؤية سياسية للدعم السريع، تخدم أجندة سياسية وتحظى بمباركة من قيادة الدعم السريع. مضيف أن أي حديث عن كونه؛ أي العنف، مجرد انفلات غير صحيح، وذر للرماد في العيون.
حين اجتاحت قوات المليشيا ولاية الجزيرة، في ديسمبر/ كانون الأول 2023، كانت تستهدف في المقام الأول تعطيل أكبر ولاية إنتاجية في السودان، فهي تعتقد أن الولاية تشكل إسنادًا اقتصاديًا بشكل أو آخر للحكومة، ما دفعها إلى السيطرة على ولاية الجزيرة. تحدث لاحقًا عن المجاعة، ونظمت حملة للحديث عنها وحث المجتمع الدولي للتدخل لإنقاذ المدنيين، رغم أنها المسؤول المباشر عن تعطيل أكبر مشروع زراعي في السودان، بتشريد المزارعين، ونهب الآليات في المشروع، وتدمير هيئة البحوث والمؤسسات الزراعية، ثم خرجت لتباكي، والحديث عن المجاعة.
يرى المُبر أن العنف الممنهج ضد المزارعين والفلاحين، والإمعان في تدمير البنية الزراعية، كان يخدم خطةً سياسيةً تستهدف أولًا تجفيف المصادر الاقتصادية للحكومة، كما يشكل دعوة للمجتمع الدولي للتدخل. وقال المُبر إنه في الهجمة الأخيرة لما بعد انشقاق كيكل، كان العنف الممنهج ضد المدنيين في شرق وشمال الجزيرة يخدم خطة سياسية، فالظاهر أن الدعم السريع يسعى، بعدما خسر سياسيًا وإعلاميًا، إلى إعادة تموضعه في المشهد السياسي السوداني عبر استدعاء التدخل الأجنبي. لذا يمعن في العنف الممنهج ضد المدنيين، لحث المجتمع الدولي على إصدار قرارات بدخول قوات أممية تحفظ للدعم السريع أماكن سيطرته، وتعيد إنتاجه في المشهد السياسي.
ظلت قوات الدعم السريع وبعض القوى السياسية تبرر تلك الهجمات على أنها مواجهة لمن تصفهم ب(المسلحين) من المواطنين في ولاية الجزيرة، وأنها تفعل ذلك في إطار الدفاع فقط. في هذا الإطار قال المُبر محمود: إن ولاية الجزيرة لا توجد بها أي مواقع عسكرية الآن، وهي عبارة عن قرى ومدن لموظفين وفلاحين ومزارعين؛ فمعظم سكان الجزيرة مزارعين. وأضاف المُبر إن شعب ومواطني الجزيرة هم عُزّل، وتاريخيًا لم يحملو السلاح في وجه الدولة أو حتى في وجه بعضهم البعض، ووعيهم الحربي ضعيف، وهم مواطنون إنتاجيون تعودوا على الإنتاج، وأن يقدموا للدولة أكثر مما تقدم لهم هي.
تعتبر الجزيرة الآن، في رأي المُبر، المنطقة الرخوة الوحيدة في السودان، في وسط يحيط به حملة البنادق، لأن الجميع يحمل السلاح ما عدا أهل الجزيرة؛ فهم الوحيدون الحريصون على المبدأ القانوني للدولة في مفهومه العام، وإطاره النظري الأساسي القائم على احتكار العنف لدى قوات محددة، وهي القوات المسلحة السودانية.
بعد تأكيد الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرش أن الوقت غير مناسب لنشر قوات تابعة للأمم المتحدة في السودان، عبّر الأمين العام لتنسيقية القوى المدنية الديموقراطية "تقدم" عبد الله حمدوك عن خيبة أمله من التقرير، مؤكدا أن يجب العمل على مهمة حفظ السلام (R2P)، والتفكير في منطقة حظر طيران ومناطق آمنة داخل البلاد، وحتى جلب جنود إلى الأرض لحماية المدنيين، وهو المطلب الذي ظلت تقدم متمسكة به على الدوام.
يرى الأمين السياسي لحركة المستقبل للإصلاح والتنمية، هشام عثمان الشواني، من جهته أن (تقدم) تصر على التدخل الأممي، مبررة ذلك بمسألة حماية المدنيين. لكن الواقع يقول إنهم يتبنون كل ما من شأنه نفي وجود الدولة في السودان، وقصة حماية المدنيين هذه مجرد دعاية سياسية. وأردف الشواني أنه يمتلك دليلًا على قوله؛ وهو أن أهم وثيقة حول حماية المدنيين وُقّعت بين الجيش السوداني والدعم السريع، في 11 مايو/آيار 2023، بعنوان "إعلان جدة لحماية المدنيين".
إذا كانت جماعة (تقدم) جادة في حماية المدنيين، فلتحاول تنفيذ إعلان جدة باعتباره نقطة ضغط سياسي، وتطوره بآليات رقابة فنية من الخارج، وتنفيذية من أجهزة الدولة في الداخل. هذا الأمر غائب تمامًا في خطاباتهم، لهذا فإصرارهم على مسألة التدخل الخارجي هو محض موقف سياسي مرتبط بمواقفهم ومصالحهم، ولا علاقة له بحماية المدنيين.
أما مسألة حظر الطيران، فيقول الشواني لجيسكا: إن من ينظر للحرب في السودان من خلال رواية خاطئة سيصل لنتائج خاطئة حتمًا. لذلك فرواية أنها محض حرب بين طرفين وجنرالين هي اختزال وتسطيح، ينم عن جهل وربما سوء نية متعمدة. لأن الحرب في السودان هي حرب على الدولة، وتمرد ومؤامرة بتدخل خارجي إقليمي ودولي وتغيير ديمغرافي. هكذا يرى الشواني أن الطيران جزء من أدوات الدولة للضبط والمواجهة، وهو لم يستهدف المدنيين، ولم يستخدم سياسة الأرض المحروقة، فبعد أكثر من سنة ونصف من الحرب، لم يشاهد العالم طيرانًا يقصف المدن، مثل ما فعل النازيون بلندن أو الأمريكان في فيتنام، ما حدث هو مواجهة العدو المتمثل في مليشيا الدعم السريع والدفاع عن السودان.
يقول الشواني: "إن الطيران يدافع عن السودانيين وعن الدولة، وبالتالي فإن من يتحدث عن أن حظره جزء من أولويات الحرب هو شخص منحاز ومتبتني لراوية خاطئة، وأنا أتعجب من أين يأتون بهذه الثقة؟".
أما بخصوص انتهاكات الدعم السريع في الجزيرة، فيعتقد الشواني أن جماعة تقدم، ومنذ ما قبل الحرب، مرورًا ببدايتها ثم توقيعهم اتفاق سياسي مع الدعم السريع، وحتى اليوم كل تلك المراحل أثبتت وحود نوع من التفاهم والانسجام السياسي بينهم والدعم السريع. هم للأسف يمنحون مليشيا الدعم السريع الإطار الإعلامي والسياسي الذي تفسر بداخله الانتهاكات بشكل مخفف، هم يخففون الجريمة، ويبعدون الأنظار عنها.
هكذا، وبدلًا من تسمية العالم انتهاكات الدعم السريع ب(الإرهاب)، يدفعونه ليسميها (الحرب الأهلية)، وبدلًا من التمييز الضروري بين الدعم السريع والجيش السوداني، فإنهم يروجون للأمر بوصفه صراعا بين طرفين. يقول الشواني: "باختصار نعم تقدم تتحرك وفق أجندة خارجية، وتوظف في سبيل ذلك انتهاكات الدعم السريع، وهذا تحالف تكاملي وتقسيم للعمل".
يرفض الشواني النظر إلى طبيعة الجرائم والانتهاكات الواقعة على المدنيين في ولاية الجزيرة، ومحاولة تعريفها على أنها من آثار الحرب فقط، كما تدعي تقدم دائمًا، لأن التعريف الأنسب لهذا الموقف هو نوع متقدم من التواطؤ، ويمكن تسميته بالتواطؤ الذكي أو التنسيق العميق الذي يؤدي لتكامل وتقسيم عمل فعّال.
المليشيا تمارس الإرهاب بالمعنى الحرفي، و(تقدم) تفسر ذلك بشكل مضلل يؤذي الدولة السودانية، والدعوات الإنسانية عندهم تبرير للتدخل وضرب لشرعية الدولة. لذا، ومن ناحية سياسية، فهم يترجمون الانتهاكات إلى مكسب سياسي، يخدم غاياتهم في العودة للسلطة. المسألة إذن ليست مجرد شر محض منهم، بل هي نتيجة لعمالة بعضهم، لثقافة سياسية معطوبة، ولخلل فكري يصنع منهم مخبرين محليين يتموضعون ضد دولتهم وشعبهم، بجانب الاقتصاد السياسي لشبكات التمويل الخارجي, بحسب وصف الشواني.
ختاما، يقول هشام الشواني: "من المهم أن نتبنى تفسيرًا سليمًا للحرب والجرائم، وأن نتحد ضد هذه المليشيا، ونعزلها من مصادر الدعم التسليحي والمالي والاستخباراتي، ثم نضع تنفيذ إعلان جدة 11 مايو/ آيار لحماية المدنيين مرتكزًا أساسيًا ومدخلًا للح،ل الذي يمكن تطويره نحو اتفاق وقف إطلاق نار على أُسس سليمة، تحقق للسودان سيادته وأمنه القومي. ثم بعد ذلك نصنع حوارًا سياسيًا سودانيًا _سودانيًا شاملًا داخل السودان. الأمر واضح وخارطة الطريق ممكنة التنفيذ، تحتاج إرادة وطنية في الداخل، وإرادة للسلام عند الجميع، مع الأخذ بثوابت السيادة الوطنية التي لا مساومة فيها".