تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الخميس 19 سبتمبر 2024

كتب

الصومال الذي يُساء فهمه

6 فبراير, 2024
الصورة
marry
Share

نجد من خلال استعراض سريع للعناوين التي ألّفت عن الصومال خلال العقود الثلاثة الماضية هيمنة مفردات النزاع والصراع والفشل والحروب، حتى غدت تلك الكتابات النص الأصلي والوحيد المتاح عن الصومال، ويشعر أي قارئ أو مراقب مفترض بعدم وجود صومال أخرى غير تلك المرسومة بالحرب والفناء، والتي دائما تكرر على مسامعه توصيفات من قبيل أن الصومال "دولة فاشلة" وأن مدينة مقديشو العاصمة "أخطر مكان في العالم"، حيث الخطر والفوضى هو المعنى الآخر لمقديشو، لحد ظهور مسرحية في بريطانيا باسم مقديشو (2011) وهي مسرحية لا تتعلق بالصومال، بل تتحدث عن ثانوية عامة في لندن كانت تشهد فوضى ومظاهرات عنيفة استعاض كاتبها لوصف مقديشو للإشارة لفوضوية المشهد.

ورب سائل: ما الخطأ في هذا التناول؟ وهو سؤال مشروع، ويجب التنبيه أن ما نتحدث عنه هو عدم دقة الصورة التي تنقلها تلك الكتابات، وهي صورة يشوبها كثير من التحيز والتنميط وعدم الشمولية.

على عكس ما جرت العادة، تتحدث الصحافية البريطانية ماري هاربر المختصة في الشؤون الصومالية في كتابها الموسوم (Getting Somalia Wrong?: Faith, War and Hope in a Shattered State) عن الصومال الذي يساء فهمه، وتستعرض هاربر في خلال ستة فصول أبرز الأطروحات الشائعة عن الصومال، لتقدم قراءة متخلفة غير تلك التي يفهمها العالم.

تستهل الكاتبة في المقدمة بالإِشارة إلى عمق الصورة النمطية المنتشرة عن الصومال، بحيث تقوم بسؤال مجموعة من الأطفال البريطانيين عما يعرفونه عن الصومال، يمثل أحد الأطفال بيديه وهو يطلق وابلا من الرصاص من سلاح ناري، ويجيب آخر: "إنهم أناس يتضورون جوعا لكنهم يمتلكون وفرة من السلاح". تقول الكاتبة إن هذه الصورة التي غذت عبر أفلام هوليوود والإعلام لعقود ليس من السهل محوها، بل إنها صورة مؤسسة ومكوّنة بشكل أيديولوجي، كما ستوضحها أكثر في معرض حديثها عن طاقة الجذب التي تملكها صورة الإنسان المنهك بالحروب والفقر للإعلام ولهيئات العمل الخيري.

تاريخ من سوء الفهم

في الفصلين الأول والثاني تقف الكاتبة على بدايات الفهم الخاطئ للعالم لجغرافية الصومال، وتعني هنا القوى الاستعمارية الأوروبية التي لم تفهم البنى الاجتماعية والثقافية الصومالية حين قسمت الأراضي الصومالية إلى خمسة أجزاء استعمارية، فكما تؤكد الكاتبة تحت عنوان "التاريخ الصومالي" مثلت هذه التجزئة عقبة أساسية أمام مشروع الدولة الوطنية، حيث كان رد الفعل الصومالي تمسكا بالوحدة، وكان يتوسط علم دولة الاستقلال الصومالية (1960) نجمة خماسية ترمز إلى لمّ شمل الأجزاء الخمسة. فضلا عن أن سياسات الاستعمار التي وزعت أراضي صومالية على الجيران على شكل هبات ظلتّ مصدر قلق أمني وسياسي في منطقة القرن الإفريقي تطور إلى نشوء حروب في بعض الأوقات.

يمثل أيضا تدخل أميركا في الصومال في بداية التسعينيات أحد مظاهر المفاهيم الخاطئة التي تتحدث عنه الكاتبة، فبروز الولايات المتحدة المنتصرة في الحرب الباردة بوصفها الفاعل الدولي الأكبر، ولسبيل إثبات مزاعمها بأنها "شرطي للعالم" تبنت تدخلاً قالت عنه مندوبة أميركا وقتذاك في الأمم المتحدة مادلين أولبرايت إن أميركا تتحمل مسؤولية إعادة الصومال إلى مصاف دول العالم، وعلى أثرها أطلقت عملية "إعادة الأمل" التي وصفتها بأنها تدخل إنساني لكن سرعان ما تطورت إلى انخراط أميركي في النزاع المسلح الدائر، ومن ثم صارت مأزقاً سياسيا لأميركا بعد أن شاهد الأميركيون على الشاشات 18 جنديا أميركيا يسحلون في الشوارع. هذه الصور التي جسدها فيلم (The Black Hawk Down) أحدثت صدمة للشارع الأميركي، وسارعت أميركا إلى سحب قواتها، وكما تقول الكاتبة أدار المجتمع الدولي وعلى رأسه أميركا ظهره للصومال بعد هذه الحادثة كنوع من العقاب.

في هذا السياق، كان يرافق الجنود المشاركة في عملية "إعادة الأمل" ستمائة صحافي لتغطية المجاعة في الصومال، وتشير الكاتبة إلى أن الهيئات الإخبارية ونظيراتها في العمل الخيري عادة ما يجنحون إلى المبالغة في أرقام الضحايا لغرض الحصول على تبرعات أكثر، وكذلك إلى التعميم، فهم لا ينظرون إلى الصوماليين كأقاليم مختلفة، لكلِ منهم وضعه وتجربته الخاصة به، ولكن دائماً ككتلة جمعية، ليصبح كل الصوماليين وفقاً لهذه النظرة متضررين من الحروب والمجاعات. وتترافق مع هذا التعميم، إعادة إنتاج للصور النمطية التي عرفتها مجاعة إثيوبيا في بداية هذا القرن، وفي أكثر من مكان في أفريقيا، بهدف طمس وجود حياة عادية والتكريس بدلا منها حقيقة مفادها أن الإنسان الصومالي ومن ورائه الإفريقي لا يحترف غير الجوع.

أحداث 2006 والتدخل الإثيوبي لإطاحة المحاكم الإسلامية مثال آخر للقراءة الخاطئة لدى أميركا وحلفائها للواقع السياسي الصومالي، حيث ترى الكاتبة أنه كان بالإمكان تجنب الخسائر الفادحة للغزو الإثيوبي بقبول المحاكم الإٍسلامية، وتشير في هذا السياق إلى مفارقة أن نفس الشخص عاد بزي مدني ليترأس الحكومة الانتقالية المدعومة من قبل أميركا والمجتمع الدولي بعد أن خلع عمامته "الإرهابية"، ولكن على نحو ما تقوله الكاتبة، استشعرت أميركا وحلفاؤها من الحراك المحلي للمحاكم بأنه يمثل تهديدا إسلاميا، دون أن يخطر في بالهم أن المواجهة العنيفة لهذا الحراك لا تزيد الإسلاميين إلّا تطرفا، وهو ما ثبت بظهور نسخة أكثر تشددا من المحاكم الإسلامية تمثلت بحركة الشباب المجاهدين، والتي سارعت إلى نسج ارتباطٍ مع الجهادية العالمية، واستفادت من حرب أميركا عليها لجذب المقاتلين الأجانب لتوسيع إمكاناتها البشرية ودائرة نشاطها التي وصلت خارج حدود الصومال.

وفي سياق آخر، تشير الكاتبة أنه في الفترة التي تلت سقوط الحكومة المركزية والممتدة إلى نحو ربع قرن من الزمن عُقد أكثر من عشرين مؤتمراً دوليا بهدف بناء دولة صومالية، لكن مرت كل هذه المؤتمرات دون نتائج تذكر، وتضيف الكاتبة، "هذا فشل ذريع سطّره النظام العالمي وحوليات نظرياته وتوصياته الدولية".

القراصنة المسكوت عنها

تناقش الكاتبة في فصل من فصول الكتاب مسألة القراصنة، وهو موضوع لطالما اجتذب عيون العالم. وتتناول الكاتبة بالتحليل أسباب ظهور القراصنة كما تسوق العديد من شهادات أفراد انخرطوا في عمليات قرصنة السفن التجارية.

وفي هذا السياق تلفت الكاتبة الانتباه بدور قراصنة الموارد البحرية وهي شركات من آسيا وأوروبا وأفريقيا مدفوعة بإغراء نهب الموارد الصومالية البحرية الغنيّة بالسمك، وغير المحمية (تشير تقديرات مختلفة أن السفن الأجنبية تنهب ما قيمته 150 مليونا إلى 450 سنويا). وكذلك تتحدث هاربر عن الدور المدمر للشركات النووية الباحثة عن أراض دون حراسة لتدفن في سواحلها القمامات الفائضة من أوروبا والنفايات السامة.

معظم الأشخاص الذين تلتقي بهم الكاتبة يعرّفون أنفسهم بأنهم يصدّون السفن المتسللة إلى مياههم ويرفضون تسميتهم بالقراصنة، لكن لا غرو أنه من وراء هذا الصدّ ظهر امتهان خطف السفن التجارية التي تجوب خليج عدن والمحيط الهندي، حيث يحتجز القراصنة طواقمها كرهائن، ويشترطون فدية مقابل إطلاق سراحهم، وهو نوع القراصنة الذي تركز عليه وسائل الإعلام الغربية.

وجود أكثر من صومال واحد

في معرض تعليقها على الأمور الإيجابية في الدولة الملقّبة بأنها الأطول عمراً في فشل الدولة، تتحدث الكاتبة عن أشكال بديلة من العدالة والتعليم والاقتصاد التي ابتكرها الصوماليون بدون دعائم دولة، وعن خدمات الإنترنت وشركات الاتصالات التي تعد الأرخص في أفريقيا. وترى الكاتبة أن أهم ما يغفله العالم من ناحية فشل الدولة، هو تجربة "صوماليلاند"، المنفصلة من جانب واحد. تصف الكاتبة تعامل العالم مع هذه التجربة بالقاصر وغير المستوعب، فالعالم يتعامل بشكل رسمي مع الحكومات الهشة في مقديشو، وهي حكومات على الورق، ولا تتمتع بسيطرة ونفوذ خارج مقراتها الحكومية، التي تتولى حراستها قوى من دول أفريقية. وهي تتساءل: "ما الذي يؤدي أن يتعامل المجتمع الدولي مع الحكومات في مقديشو وبالنيابة عن كل الصوماليين، في حين لا يوجد طرف معين يمثل كل الصوماليين". وتستند في هذا السياق إلى ما كتبه المفكر الكيني علي المزروعي قبل عقدين من الزمن عن وجود صوماليين، صومال مقديشو؛ وهو الذي يعرف الفوضى وعدم الاستقرار، وصوماللاند؛ التي نجحت في تأسيس دولة ديمقراطية مستقرة، لكن بدون اعتراف دولي.

إشارة ختامية

بدأت مؤخراً ماري هاربر مؤلفة الكتاب؛ وهي تعمل صحافية لدى الإذاعة البريطانية بي بي سي بتقديم برنامج ثقافي عن الشاعر الصومالي محمد ورسمه هدراوي، يحمل اسم البرنامج الذي يذاع على قناة (بي بي سي فور) اسم "هدراوي: شكسيبر الصوماليين" تذكرنا هذه التسمية بفكرة أثيرة عند عبد الفتاح كليطيو يشير إليها في كتابه "لن تتكلم لغتي"، حيث يبين أن هذا النوع من التماثل يهدف إلى إضفاء القيمة على الأعمال الشرقية من خلال تماثلها مع النظير الأوروبي: كونراد الجزائري، جويس المصري وغيرهم. وقد يغدو كيليطو رهيبا عندما يتعرض للافتراضات الذلقة التي يقدمها أصحاب تلك التماثلات حين يحاولون فهم لغة معينة أو ثقافة ما من خلال عدسة أخرى.